اللوحة للفنان محسن شعلان
أسميتها «تالة»… نعم، «تالة»، هكذا خرج الاسم من فمي للمرة الأولى دون تفكير، لكن شعورًا ما بالرضا عن اختياري هذا لمسته منها حين ناديتها به أول مرة، وأحيانًا كنتُ أناديها «تالة الحزينة». الغريب أنها كانت تفرح جدا حين أناديها به وتجري في اتجاهي مُبتَهِجَةً كأنها ستعانقني، لكنَّ شيئًا ما كان يمنعها دائما فتتسمر مكانها، أو هكذا كنت أتصور ، كتبت لها كثيرًا ما يشبه الرسائل القصيرة، متسائلًا عن سرّ صمتها وحزنها: «تالة.. مالك ؟! لماذا أنت حزينة دائمًا هكذا ؟ هل جرحك أحدهم؟!»، لكنني كنت أحرق الأوراق التي كتبت فيها الرسائل؛ خشية وقوعها في يد سحر التي لا ترحم كانت «تالة » الأقرب لي في تلك المدينة
الصامتة.
لم أنسجم مع أجواء المدينة الجديدة الواقعة على أطراف القاهرة رغم الهدوء والسكينة والبراح والمساحات الخضراء والهواء النقي، ورغم الخصوصية التي لم تتوفر لي من قبل، فقد كان بإمكاني مثلا أن أقف عاريا تماما أمام شرفتي المفتوحة في الطابق الخامس، مطمئنا تمامًا؛ حيث لا أحد هناك. أن تتعرى من كل ما يسترك وتترك المجال لحقيقتك ميزة ليس من السهل الحصول عليها، بل كثيرًا ما ضاجعت سحر على أرضية البلكونة في الليالي المقمرة، في حراسة الجبل، ومن خلفه الصحراء. رغم ذلك كله كان قرار الانتقال إلى قلب القاهرة النابض لا رجعة فيه بسبب راتبي الهزيل الذي لا يُكافي حياة مناسبة في مدينة جديدة كتلك، فقط كان كل ما شَغَلَني هو «تالة».
من مدخل المدينة، حيث يمر الميني باص الوحيد إلى العقار رقم ۲۳۳ أ» مسافة طويلة سيرًا على الأقدام، أقطعها صباحًا صاعدًا ضد طبيعة الأرض المائلة للارتفاع، حيث تقع عمارتي في منخفض أرضي وسط المدينة، وأقطعها هابطا ليلا كأنني على وشك الجري من مدخل المدينة الرئيسي إلى مدخل العمارة الشرقي، هكذا، يوميًا لا أعود قبل منتصف الليل، وما أدراك ما منتصف الليل في مدينة كتلك نصف حَيَّة، نصف ميتة، خاصةً في الشتاء؛ فالمدينة الهادئة أو شبه النائمة في النهار – تتحول مع الليل إلى جُنَّة مُكفّنة بالصمت إلا من نقيق الضفادع وصراصير الحشائش ونباح الكلاب البلدية الضالة.
يوميًا كنت أمر على «تالة» في الذهاب والإياب، أحكي لها وأسمع منها، كثيرًا ما مسحت دموعها ورَبَّتُ على كتفها وطالبتها بالصبر…. على أي شيء بالضبط تصبر ؟ لا أعرف؛ فقد كانت كتومة جدا، ولكني كنت على يقين أنها تعاني ألما عظيمًا.
…………………………………………….
من مجموعة قصص كعب أخيل
اقرأ أيضًا:
ضل الحيطة..قصة لـ تغريد النجار
ناقص واحد.. قصيدة لـ مايكل عادل
مقهى لا يعرفه أحد..قصيدة لـ زيزي شوشة
ماء البارحة..قصائد لـ مروان علي
حفرة للعب..قصيدة لـ مها شهاب الدين
سحر الغواية..قصيدة لـ رحاب زيد
مندرة العائلة..قصائد لـ فتحي عبدالسميع
أغلقي الباب ونامي..قصيدة لـ كمال عبدالحميد
مختارات من قصائد قاطع طريق.. لـ سيد العديسى