اللوحة للفنان محسن شعلان
(1)
يا أماه…
أغلقي الباب آخر الليل لأن طفلك البكر تجاوز الأربعين في غربته، لأن عينيه معلقتان بألف طريق غير طريق البيت، وقدميه تخطوان علي أسفلت ورخام. هل تعرفين لون وبرودة الرخام؟ هل تصدقين أنه استبدل شجر الأرض، وقمح الأرض، وبرتقال الحديقة الصغيرة بباقات ورد يموت سريعًا، ونباتات ظل في زاويا الشقق الصغيرة؟
(2)
أغلقي الباب ونامي، لا تراقبي الطريق الترابي كمن يراقب أحلامه المستحيلة، لا تبكي في صلواتك وأنتِ تسألين الله أن يرد إليك الغائب الغالي، وأن يملأ علي كالبيت بالأبناء والأحفاد، لا تتبعي الآهة المكتومة خلف شرايين القلب.
(3)
أغلقي الباب ونامي..لأنني كثيرًا ما أفكر في أصدقائي وكيف انتهي بنا الحال كأشجار ميتة، يمرح تحتها الأبناء والزوجات، دون أن يعرفوا أعماقنا المظلمة، والخيوط المتجمدة من الدموع، وبكاءنا العظيم على ما حلمنا به، قبل أن نرفع راياتنا البيضاء فوق قبورنا.
كثيرًا ما أراقب رؤوسنا وهي تطير من أرض إلي أرض، واليوم لم نعد نسمع عن أسمائنا سوى ما يقوله الغرباء عادة عن المشاكسة الميتة على أفواهنا، وكيف انتهت حروبنا بلا نصر كما كنا نتوقع، كأنما تلقينا – يأماه – إشارات غامضة بالصمت والتواضع. اليوم تبدو أرواحنا حسب الروايات المتناقضة عميقة في خيرها، عميقة في شرها، ولا حيلة أمامنا سوى أن نحفر لأجسادنا قبورًا متجاورة، قبورًا بعيدة عن أمهاتنا، بعيدة عن أحلامنا الرائعة.
(4)
يا أماه..
أغلقي الباب ونامي.. اليوم أقفز من شرفة إلى شرفة وأنا خائف من الموت مبكرًا، خائف علي حبيبتي من الثعالب الغريبة، خائف من الخمسين التي لا أستطيع ردها بالعناد والشتائم.
(5)
يا أماه..
عندما تقفين أمام خشب الباب، وتنظرين إلى الشارع الترابي دون أن يجيبك أحد، اعلمي أنني هنا أنظر إلي صورتك وأنا أدفع أمامي سنوات العمر كشجر يموت، وأنني سأغلق عيني فلا أرى بعدك أحدًا، سأرسل إليك يدي اليمنى لتضعيها تميمة على الجدار كيلا أصافح أحدًا بعدك، وسأتبرع باسمي في عيدك لأول امرأة مجهولة أقابلها، لأن أحدًا لن ينطق اسمي برقة مثلك. يا أماه.. أقول: أحبكِ.. وأنا أهذي خلف زرادشت: “لقد قلتُ كلامي، وها أنا أتحطم بكلامي، ذلك هو قدري الأبدي، مبشرًا أمضي إلي حتفي”.
……………………….
من ديوان نظرة أخيرة على أصابعي
اقرأ أيضًا:
ضل الحيطة..قصة لـ تغريد النجار
ناقص واحد.. قصيدة لـ مايكل عادل
مقهى لا يعرفه أحد..قصيدة لـ زيزي شوشة
ماء البارحة..قصائد لـ مروان علي
حفرة للعب..قصيدة لـ مها شهاب الدين
سحر الغواية..قصيدة لـ رحاب زيد
مندرة العائلة..قصائد لـ فتحي عبدالسميع
مختارات من قصائد قاطع طريق.. لـ سيد العديسى