اللوحة للفنان محسن شعلان
المشكلة كيف يفهم طفلى الذى يصكّ ملعقته
فى صحنه الفارغ ،كأوليفر تويست ،
أن أمه محمومةً الآن بقصيدة تتدلى من فمها ،
كحلزون أوله فى الحلق.
قرأت الكام سطر دول فى الصفحة الأولى من الديوان ، وقلت لنفسى : يا نهار إسود ، ولم تحتمل نفسى كلمة إسود وصفا للنهار وطلبتْ توضيحا للأمر ،والأمر أننى اتبسطت جدا وحسيت بحلاوة الشعر تثيرنى كى أبقى بجوار طفلها وأمامنا الصحن الفارغ لنشهد كلنا كيف تخرج قصيدة من قلب أم محمومة !، لكننى خشيت أن يكون للنقاد رأى تانى بدليل إنى ما شوفتش حرف عن الديوان ده رغم انه صادر من فترة طويلة !
قل لى بربك :كيف نقيس الشعر ؟، أنا عن نفسى لا أملك أدوات القياس هذه إن كانت موجودة ومعمول بها بالفعل ، لذا اترك العبارة تأخذنى إليها ،أُقُلب عينى وعقلى ووجدانى بين سطور الشعر حتى أشم رائحة الكتابة فى الشعر فأقول هذا “شعر” يناسب ذائقتى وإن كان لا يخضع للمقاييس المتداولة فى سوق النقد، فماذا عنك أنت ؟.. ربنا معاك !.
هكذا طويت ديوان “من شرفة موازية لشريط قطار ” الصادر عن دار العين للشاعرة “عزة حسين” مرة ومرتين واختلستُ سطورا وربطتُ مشاهد وصور اعتبرتها حالة شعرية متكاملة لشاعرة لم تكتب بعد :
.. للصدق ،لا أستطيع إنكار أننى امرأة ضائعة
ضائعة فيما أكتب كلمة “امرأة”
أكتب قصائد رديئة
كى لا يسُبنى أطفالى
فى مراهقتهم ،
للسبب نفسه لا أستجيب لنداءات القطار
ربما لأن هاوية ألمع
بالانتظار
لا أريد أن أربك خططها .
شاعرة مازالت تبحث عن المعنى وتعترف بفشلها فى العثور عليه ، وتشاركنى مغامرتها فى الاكتشاف ،فهناك تجارب لم تخضها وأرض لم تذهب إليها :
فى حياة أخرى
سأحب فلاحا مقيماً
الرجل الذى يفزع من أحلامه ليروى شجرةً فى الخريف
لن تذبل معه امرأة.
…….
كل أحبتى هناك
حتى الأُلفة تتهيأ لىّ
شوكا وصبارا
فقط تريد ـ عزة حسين ـ أن تقول إن الشعر خلاصها المفقود وأنها لن تنتظر إطراء النقاد واهتمامهم ،فلن تمل البحث عنه فى حلقومها وتأوهات روحها ومشاغبات صغيرها وبين أعمدة الإنارة فى شوارع القاهرة الواسعة التى جاءتها صغيرة فعرفتْ الطريق إلى الألم والكتابة :
الشعر مفسدة
أدركتها وحدى
يوم أن طال مخاطى أرصفة العاصمة
كموسيقي ينزفُ
تطوّع المارة بقلب قبعته ونصبّوه شحاذا
سنوات .. أصحو لأتسول المجاز الطازج .
ليس لعزة حسين ومثيلاتها من شاعرات جيلها “أولتراس” نقدى ،ولا جماهيرى بالطبع،وليس حال الشعراء والروائيين بأفضل ، فهناك تدليس غير خاف على أحد وشلة تحابى آخرى واستئصال تجارب يتم علنا لإحلال عقارب وحيات وأفاع تمرح فى صحراء المنافع والصالح ،لكن الكاتبات الشابات فى مصر حالهن أصعب، إذ لم يجدن ظهيراً يدعم جهودهن وإبداعاتهن عبر أجيال مضت، وليس لهن سوى انتظار الأحلام التى راودت أجيالاً من شاعرات وكاتبات سبقتهن إلى تعاطى الألم وتذوق كأس المحاولة والإصرار على الكتابة رغم كل هذا العذاب الذى يبدأ من أول سطر فى كتابة قصيدة أو قصة ويمر بمراحل أكبر من عذابات إضافية تبدأ من عيون الرقباء وآسماعهم وتصوراتهم الأخلاقية فى البيت ولدّى الجيران وكثير من الأصدقاء ،ويمتد لدور النشر والعاملين بها وعليها .. ولا ينتهى كل هذا العذاب بمجرد صدور الكتاب وحفل التوقيع، لكنه ينتظر طرائق النقاد وأساليبهم فى التعاطى والتعامل الفنى مع كتابة الأنثى .. وتلك قصة قصيرة تنتظر كاتبا لا يفهم فى النقد ، لكن ما يهمنى الآن تجربة عزة حسين التى تشبهها وحدها منذ ديوانها الأول(ما لم يذكره الرسام )وهو الديوان الذى وقعتُ فى غرامه لأسباب كثيرة أهمهما أنه يحمل قصيدة باسم (أشرف)،صحيح أنه أشرف آخر أكثر نبلا وجمالا حتى فى رحيله المبكر كما فى القصيدة،لكن هذه أول قصيدة أقرأها تحمل اسم أشرف الذى هو اسمى، وقد اخترت لكم من هذا الديوان مجموعة قصائد رأيتها أكثر تعبيراً عن عالم عزة حسين وعن رؤيتى غير النقدية لقصائدها
…………..
ما لم يذكره الرسام
1
هذا الصباح
هذا الصباح
كنت بحاجةٍ إلى ذراعٍ طيب
ذراع بلا رأسٍ حتى
ذراعٌ مبلولةٌ بالمحبة
والصمت
هذا الصباح
كنت بحاجةٍ إلى محبةٍ
أشرف
كان طويلاً
على الطي في الحكايات
وبُنيٌ كالنخل
وفي إحدى عينيه
كان حزن يمامةٍ
وحياد هدهدٍ
في الثانية
لكن قلمه كان قصيراً
– دائماً-
وبلا ممحاة
في آخره.
كنت الأشطر
وكان خطه الأجمل
فأبوه نقاشٌ
يكره أمه
و”أشرف” كان يكره الفقر
ولا يهتم بضفائر البنات.
الآن
والأوز ينفض
لون الترع
على بصمات المارة
يمكن للعائدين
في الغروب
أن يرو “أشرف”؛
صار نقاشاً أشطر من أبيه
وصار الهدهد صبيه
وقيل إنه أنجب من امرأةٍ- لا يحبها-
يمامة.
قلادة
بالمرونة نفسها
التي تخون قلادةٌ
فضتَها
وتصدأ
يروح الحب
يا محمد؛
أن أصير جسدك
وأقفلَ قميصي
على أناملك تُقشرُ بثورَ روحي
ليس كافياً
ولا يكفي أن تحبني
لتعرف بنتاً
على قيد الحياة؛
نحن لم نربِ دموعًا تكفي
ولا تناقشنا، قبل،
فيما تعنيه أصابعُ
ليست مشبوكةً
بعد اليوم،
ولا
كم مرةٍ لم تمت رئتاك
وأنا أعبر الإشارات،
وكم مرةٍ
لم أخبئ ظلك
في حقيبتي
لأطعمه سرًا
كالقطط.
..
كاستعارةٍ باهتةٍ
يدُكَ علَى خَصري- وعيناي سائحتان-
تستنبت حياةً أخرى
فيما أرتب ميتتي المقبلة
..
ستكون يا محمد
رجل أي بنتٍ
تترك لها ذراعك
في الشارع
وثلثي راتبك
أواخر الشهور
وعرقك
الذي لا أعرفه
وتكتفي
بقراءة الصفحات الأخيرة
وسأكون- كما تعرف-
جنب النافذة
متورطةً
في انسحابٍ جديد.
ظلال
آه.. كنت سأنسى أن أُخبركَ:
أحب ظلال الأشياء
على الحائط
يجعلنا السوادُ حقيقيين
كذكرى قريبة
أو صدى.
وعلى الحائط
تبدو الحركاتُ رقصاً
وتسيل موسيقي.
…
تعرف؟
أنا الوحيدة
التي أتبع ظلي
خاصمت المرايا
وزجاج النوافذ
وصورَ الماء
الجميع يكذب
ولا ترضيني
صورةٌ بلا حواف
وأكره الفوتوغرافيا
…
أصلاً.. أخاف النوم وحيدة
مع هؤلاء…
…
هنا
على الحائط
بعدما
تقفل النوافذ ذراعيها
وتنام المصابيح
أنتظر من ليالٍ
ظلاً يشبهك
وظلي تجمد.
اقرأ أيضًا:
ضل الحيطة..قصة لـ تغريد النجار
ناقص واحد.. قصيدة لـ مايكل عادل
مقهى لا يعرفه أحد..قصيدة لـ زيزي شوشة
ماء البارحة..قصائد لـ مروان علي
حفرة للعب..قصيدة لـ مها شهاب الدين
سحر الغواية..قصيدة لـ رحاب زيد
مندرة العائلة..قصائد لـ فتحي عبدالسميع
أغلقي الباب ونامي..قصيدة لـ كمال عبدالحميد