وكل يوم أحب صلاح حافظ أكثر،كيف لكاتب أن يتمدد ويتجدد فى الروح بهذا الشكل عبر سنوات!، بدأت القصة من تحية كاريوكا التى اختبأ فى بيتها شابا ثائرا ناعم القلب والمشاعر فوقع فى غرامها إعجابًا بشجاعتها وشهامتها،حتى أنه أسمى ابنته “تحية” على اسمها.
رأيته من شباك الثانوية عصفورا فى براح المهنة التى أحبها والتى جعلته يضحى بدراسة الطب من أجل الكتابة، واستمرت القصة حتى مرحلة الجامعة إذ جددّ حبه فى قلبى وهو يقدم لى كامل الشناوى لأشربه كاملاً مكتملاً بأحزانه وأفراحه وشجن أيامه وجنون روحه وكرمه الزائد ، كل ذلك فى مقدمة لا تزيد عن ست صفحات كتبها صلاح حافظ لكتاب يوسف الشريف الفريد والنادر ” الشناوى آخر ظرفاء ذلك الزمن”.
ومن نافذة الجامعة الكبيرة بدأت أعرف لماذا تعلق قلبى بصلاح حافظ،فالمسألة ليست مجرد كتاب أو عشرات الكتب،المسألة تتعلق بهذا الثبات الذى ظل عليه وسط عواصف أقوى بكثير من جسده الواهن الضعيف،لكنها الروح والثقة والموهبة التى منحه الله نصفها ووزع النصف الباقى على كل الأجيال التى جاءت بعد صلاح حافظ .
صنع صلاح حافظ مدرسته الخاصة بعد مدرستى التابعى ومصطفى وعلى أمين،وهى مدرسة شعبوية تجعل من الفسيخ شربات،فهو رايترز،ديسك مان،أسطى وناظر المدرسة،فكل تقرير وكل خبر حتى لو كان مكتوبا بشكل ردىء بقلم صحفى عديم الموهبة فإن الأسطى الكبير يجعل منه قطعة صحفية من الإبداع،كل ثقافته وكل ثورة أوردته وشرايينه تدفقت كنهر فى بحر الكتابة الصحفية والأدبية إلى جانب الترجمة،فهذه ـ مثلا ـ ترجمة رقيقة وبديعة لم يكن شارل شابلن نفسه يحلم بوصولها للعربية على هذا النحو من العذوبة والانسياب فى السرد والحكى فعندما يكتب شارلى شابلن بالإنجليزية عن أول قصة حب فى حياته أو عن أيام الكحرتة التى عاشها فى شبابه متلطما بين الأستوديوهات والملاهى فلا يمكن لروح صلاح حافظ أن تتوقف عن الطيران فى الترجمة ، فتجد تعبيرات أنيقة لا تخل بالمعنى قدر ما تبث فيه نبضا ، فالعصا التى حملت جزءً من شخصية شابلن تتخذ مكانها فى الكتابة ، وفى منطقة الشجن نجد صورة هذا الطفل العجوز الذى أحب فتاة تصغره بثلاثين سنة هى ” أونا أونيل ” التى شعر معها بأمان لأول مرة فى حياته، وكان التقاها أول مرة قال لها”..تزوجينى لأتعلم معك كيف أموت وتتعلمين كيف تعيشين “، لم يكن لشخص آخر على سطح الأرض أن يقول ذلك لفتاة تصغره بثلاثين سنة تقريبا سوى شارلى شابلن الذى قالها لفتاة ال 17 سنة ” أونا أونيل”، ولم فتاة آخرى غيرها يمكنها أن ترد بسرعة بديهة ( تزوجنى لأعلمك كيف تعيش)وتزوجا وعاشا معا من 1943 حتى رحيله 1977، وتحدث عنها كثيرا واعتبرها طوق النجاة :” لم ينقذنى من عداء البعض وكراهيتهم .. وسخريتهم من أفلامى سوى الحب الذى عرفته مع أونا،عرفت كثيرات فى حياتى ولكنى لم أتمسك بأى امرأة ،تجاهلت هذا كثيرا ،لأن الطفل البائس الخائف دائما بداخلى كان يطاردنى ،وظل يلازمنى حتى وأنا بين أحفادى .. وحتى بعد أن منحتنى ملكة بريطانيا لقب ” سير”.
وبالعودة إلى مقدمته البديعة عن كامل الشناوى فى كتاب يوسف الشريف(آخر ظرفاء ذلك الزمن )،فإن الأمانة تقتضى أن أعيد عليكم نص تلك المقدمة ليس لأنها تقدم كامل الشناوى كما لم يقدمه أحد من قبل،ولكن للرشاقة التى يكتب بها صلاح حافظ من ناحية ولما لهذه المقدمة من تأثير بالغ على أنا شخصيا: (
لا أكاد أعرف أديبا أو فنانا من جيلنا غير مدين لكامل الشناوى
..لا أقصد بهذا الدين الثقافى وحده إنما أقصد الدين بمعناه المادى أيضا .فقد كان الشناوى حين يرعى موهبة يتحمل عنها كل همومها يشترى الكتب للأديب الناشىء ويصحب الفنان إلى الترزى يفصل له ثيابا أفضل ويخصص حجرة فى بيته لإقامة الشاعر الذى ليس له بيت .. ينشر للكاتب الجديد فى الصحيفة التى بعمل بها ويدفع له من جيبه دون أن يخبره ..
لا يمكن إحصاء عدد النجوم المشهورين الذين بدأت أولى خطواتهم فى ظل هذا الطراز من الرعاية،كان موقفه الفريد من الأدب والفنون سببا وراء ذلك .. كان يعشقهما لذاتهما .. لا يحب شعره وإنما يحب الشعر .. لا يتذوق أدبه .. إنما يتذوق الأدب ..لا يسعد بتفوق فنه فى الكتابة .. وإنما يسعد بتفوق فن الكتابة .. وليس فى التاريخ أديب أو فنان تجرد من الأنانية مثله .. اختار سماء الأدب لا لكى يلمع هو .. ولكن ليجملها بأكبر عدد من النجوم
ولا جدال أن الشناوى دفع غاليا ثمن هذا الموقف الصوفى فى عالم الثقافة .. فهو يوم مات لم يكن له فى الأسواق غير ديوان واحد ( لاتكذبى ) .. بينما كانت تغمر الأسواق مئات الدواوين التى أخذت منه ونسجت على منوال اسلوبه وشق اصحابها الطريق بفضل رعايته،ويوم مات كان عدد كبير من كتاب القصة والرواية والمقال يملئون أسماع العالم العربى .. بينما كانت قصصه ومقالاته مبعثرة فى أربعة أرجاء الصحف المصرية .. لا يكاد يذكرها أحد)
رحم الله صلاح حافظ الذى كان شعلة من نار ونور ، نار أفران الخبيز وصهر المعادن فى المصانع كما يصفه خيرى شلبى :(كان مشعاً فى كل الأشكال الكتابية التى مارسها، هل ننسى مشاركته فى سيناريو حوار (زينب والعرش) رواية فتحى غانم الشهيرة أو ما كتبه من سيناريو وحوار لعدد من الأفلام السينمائية والسهرات التليفزيونية ! كان إلى ذلك شخصية محبوكة ، دمثة، رقيقة الحاشية، فيلسوفة ، قارئة نهمة، متعففة حتى عن حقه فى ميراث أبيه الفلاح الميسور من أعيان محافظة الفيوم، وتعاليه عن المطالبة بأى حق، كان فى سنيه الوسيطة قد حدث سوء تفاهم بينه وبين الرئيس السادات بسبب موقف روزاليوسف – وصلاح على رأس تحريرها – من انتفاضة 18، 19 يناير الشهيرة والطريقة التى عالجت بها المجلة الموقف حيث كانت مؤيدة للانتفاضة مباركة لها ضد الحكومة فى ردود فعلها الغاشمة، وبسبب هذا الموقف حرم صلاح من رئاسة التحرير، ومن حقوق كثيرة كان يستحقها عن جدارة، ولعلنا نتذكر اللقاء الشهير الذى جمع السادات بالمثقفين وقام صلاح يتكلم عن الانتفاضة وما كان من أمر انفعال الرئيس السادات وتسميتها بانتفاضة الحرامية وكيف أنه قرع صلاحاً واعترف صراحة وعلى الملأ فى التلفاز أنه كان بسبيله لتوقيع قرار تعيينه رئيساً للمؤسسة ولكنه قرر الآن أن يعاقبه بعدم تعيينه. كل ذلك والابتسامة الدمثة متربعة على ثغر صلاح كأن شيئاً لم يكن، وقابل الموقف بروح السخرية والعلو، حدث كذلك أن قامت قطيعة بينه وبين أبيه لأسباب سياسية محضة!! فاحتمل هجر أبيه له بصلابة ، وبعد حين تلقى من أخيه برقية تنعى إليه وفاة أبيه، وكان صلاح حرياً أن يسافر فى الحال ليحضر تشييع الجثمان والعزاء، ولكن الصدمة كانت قوية حينما أنبأته البرقية بأن الدفن قد تم وأقيم العزاء منذ بضعة أيام، هنا انتصرت روح السخرية لتدرأ عنه أثر الصدمة النفسية العنيفة، فقام فى الحال وشيع لأخيه برقية يقول فيها: أشاطركم.. الميراث”.
اقرأ أيضًا:
كل هذه الكتب الجميلة .. تطاردنى !
الساحرة التى سرقت عقول كبار الأدباء فى العالم
حكاية العمدة شمروخ والأستاذ كسراوى مع (مو)
وناس في الدنيا موعودة.. نصيبها يروح لناس تانية
تعثرى فى فستانك الأبيض .. فقد انتهينا
شباب امرأة ..جزء من تجربتى العاطفية فى باريس!