وقبل نهلة القدسى كان عبد الوهاب قد تلطم بين أحضان النساء ،فقد ظل ـ كما يقول محمد تبارك فى كتابه عن عبد الوهاب ) يثير شغف المراهقات والسيدات الطاعنات في السن ، وقد تزوج إحدى هؤلاء السيدات سرا ،وطلقها سرا… وعندما وافاها الأجل منذ أعوام قليلة طلبت أن ترى عبد الوهاب قبل أن تموت.. ولكن أعصابه خانته فأجهش بالبكاء .. وألحت عليه زوجته السيدة نهلة القدسي أن يزور السيدة المريضة فأرجأ الزيارة إلى اليوم التالي ، وماتت مطلقته في هذا اليوم ، ولم يقو على تشييع جنازتها ، وبعد يومين توجه إلى القبر ، وقرأ الفاتحة ووزع الصدقات، أما كامل الشناوى فيحكى عن فترة توهج عبد الوهاب ما بين 1925 و1944 فيصفها بأنها مرحلة (النساء والألحان ) كان يلحن ليلا ونهارا ، وحوله المفتونات به ، وهن غالبا من الطبقة الأرستقراطية . وكان عبد الوهاب إذا غنى في أحد البيوتات الكبيرة جلس تحت قدميه عشرات الفتيات المدلهات به… وكم من زيجة لم تتم بسبب إعجاب العروس بعبد الوهاب، وكم من طلاق وقع لأن الزوجة صارحت زوجها بأنها تحب عبد الوهاب .
وكانت طاقة عبد الوهاب تسمح له بأن يبادل العشرات بل المئات عواطفهن في وقت واحد، ولكنه ضنين بعواطفه ، فكان يخص بها واحدة أو اثنتين أخريين لفترة جديدة وهكذا! وكان عبد الوهاب يعجب بنوع خاص من النساء ، يستهويه القوام الفارغ بغير طول، الملئ بدون سمنة، والبشرة البيضاء ، المشربة بالحمرة، والشعر الأسود ، والعيون الدعجاء ، والأهداب المشدودة ، والرقبة التي تجيد الالتفات!
وكنت على عكسه أحس الجمال في الشحوب والنجوى ، والنظرة المتسائلة والشعر الناعم ، واليد الملساء ، والقسمات الرقيقة ، والفم الذى يعبر عن حاجته إلى قبلة!
المرأة عنده من تشعره بأنه رجل ، والمرأة عندى من تشعرني بأنوثتها ورجولتي.. كان يهوى المرأة ليعذبها … وكنت أهواها لتعذبني….!
وبغتة ، ومن غير أي تمهيد ، تم زواج عبد الوهاب من السيدة إقبال نصار بعد طلاقها من زوجها الذى أنجبت منه ولدها طارق… وفوجئ أصدقاء عبد الوهاب بهذا الزواج ، بل فوجئت به أمه التي كان يقدسها ، ويستلهم من حنانها العون في كل تصرفاته وحركاته.
وأحدث زواجه سخطا شديدا عليه ممن ارتبطن به عاطفيا ، ولو من طرف واحد.. وما أكثرهن ! وأخذ إعجاب الفتيات به كفتى احلام يتضاءل وينكمش ، وأحس بعد سنتين من زواجه أنه في غربة … أن وطنه الطبيعي في أن يعيش بين المعجبات به يحببنه ويخدعهن … إنهن مصدر إلهامه لأجمل ألحانه … هل يعيش بلا إلهام؟
وقرر عبد الوهاب أن يستلهم الجمال سرا ، بعيدا عن أعين الناس ، فكان يعقد جلسات خاصة في بيوت بعض أصدقائه الذين يأتمنهم على أسراره ، ويختار لهذه الجلسات أوقاتا لا ترقى إليها الشبهات … قبل الظهر … ثم يتناول الغداء في بيته، والساعة الخامسة مساء ثم يتناول العشاء مع زوجته!
وشعرت السيدة إقبال بأن شيئا ما في حياة عبد الوهاب ، وأخذت تتحرى هذا الشئ، وجمعت معلومات أكدت لها أنه يلتقي عند أصدقاء له ببعض المعجبات ، وأنه يستقبل في مكتبه بشارع توفيق فتيات جميلات بحجة البحث عن مواهب فنية فيهن. وثارت وهددته بترك البيت والذهاب إلى أهلها . واسترضاها عبد الوهاب، ثم دب الخلاف بينهما مرات ومرات…
وظلت حياته الزوجية نهبا موزعا بين الغضب والرضى ، والخناق والوئام، فترة طويلة، كان خلالها يترك بيته وأولاده ويقيم في فندق “الكونتيننتال”. ويتدخل الأصدقاء ليصلحوا بين عبد الوهاب وزوجته ، ولا يكادان يصطلحان حتى يختلفا من جديد…
عشت مع عبد الوهاب خلال هذه السنوات ، وشعرت بمدى تعاسته .. إنه لا يريد أن يهدم بيته الذى يضم زوجته وأولاده ، ولا يطيق أن يخضع للقيود التي يحتم العرف على الأزواج أن يخضعوا لها…
وخاضت الصحف في أمر هذا الخلاف ، وسألني أستاذى أحمد لطفي السيد:
-ما هذه الضوضاء التي تثيرها الصحافة حول خلاف بين إنسان وزوجته؟
وقلت له:
-لقد اعتادت الصحف أن تتحدث عن الحياة الخاصة للفنانين .
قال: وهل هذه عادة مستحبة؟
وقلت : لا !
قال: وما حقيقة هذا الخلاف ؟
وشرحت له الموقف فقال:
– السيدة إقبال عندها حق لأنها زوجة ، وليس عندها حق لأنها تزوجت عبد الوهاب، وهى تعلم أنه مطرب وليس شيخ إسلام!
وكان عبد الوهاب يسكن مع زوجته وأولاده في “فيللا” بناها له صهره المهندس الكبير على نور الدين نصار، وتقع في شارع الهرم ، وكانت الفيللا أنيقة صغيرة تتألف من طابق صغير يضم غرفتين للاستقبال، وينحدر منه سلم يؤدي إلى بدروم يضم غرفة الطعام .
وفي نهاية الفيللا طابق يتكون من ثلاث غرف أعدت للنوم… وضاقت الفيللا على الأسرة التي أصبح عددها زوجين وولدين وثلاث بنات ، وباعها عبد الوهاب، وانتقل إلى شقته الكبيرة الواسعة المطلة على النيل في الزمالك…
وقد شهدت هذه الشقة أحداثا كبيرة في حياة عبد الوهاب ، وتوالت الأزمات بينه وبين السيدة إقبال ، وانتهت في عام 1957 بالطلاق.
وفي عام 1958 شهدت نفس الشقة زواج عبد الوهاب من السيدة “نهلة القدسي” ، وقد عرفها في لبنان ، وهي من أعرق الأسر السورية، وكانت متزوجة من الديبلوماسي الأردني السيد عبد المنعم الرفاعي ، وأنجبت منه ولدها الوحيد “عمر” .. وعاشت الصحف العربية في لبنان وسوريا والأردن ومصر بضعة أسابيع على حادث زواج عبد الوهاب من السيدة نهلة … وكان عبد الوهاب ينفي خبر الزواج، حتى بعد ما تمت مراسيمه.. وتوقع كثيرون من أصدقائه ، وكنت منهم، أن هذا الزواج لن يدوم غير أشهر قليلة ، ولكن الذى حدث أن حياة عبد الوهاب تغيرت بهذا الزواج .. أصبح يحب بيته … ابتعد عن كل ما يثير الريبة والظن .. صار يحب المال لينفقه ، وكان يحبه ليدخره!
وليس صحيحا أن شعور عبد الوهاب بتخلي الشباب عنه قد أرغمه على الاستقامة، فعبد الوهاب شباب دائم .. كان في طفولته شابا لأنه يبدو أكبر من سنه .. وهو في صباه شاب ، وفي كهولته شاب ، ومازال حتى اليوم يتحدى بنضارته ورشاقة قوامه أبناء العشرين والثلاثين!
ولا أعرف سر احتفاظ عبد الوهاب بشبابه ، فإنه ليس رياضيا ، بل إنه لا يمشي خطوة واحدة في الشارع ، وقد سمع أن المشي مفيد ، فدرج أخيرا على المشي في شقته متنقلا بين غرفها، وشرفاتها المغلقة النوافذ صيفا وشتاء .