ولم تعرف أمريكا كاتباً متوحشاً قبل هنرى ميللر،حتى الذين لم يقرأو له رواية واحدة فى المطارات والموانى يستوقفون من يحمل مؤلفاته الشهوانية المثيرة للغرائز!،سمعته أكبر بكثير من عدد قراء أعماله ،وتوقف العالم كله عند علاقته العلنية بالكاتبة وأستاذة التحليل النفسى فيما بعد (ناييس نن) التى لم تكن أقل جرأة وهى تعلن على الملأ تفاصيل علاقتهما الحميمية بل سجلتها فى مذكراتها وحجز ميللر نصف تلك المذكرات تقريبا،فلم يكن وحده عشيق الفاتنة المجنونة التى وقعت فى غرامه وهتفت فى قلب باريس عام 1932 : (أنا أُغنى!، ليس فى سرى بل بصوت مرتفع ،لقد رأيت هنرى ميللر .. رأيت رجلاً أعجبنى،سكران بالحياة ليس مستبداً بل قوى..رأيت رجلاً يشبهنى)،وعرف العالم كله علاقة نايسس بحفار القبور الهزيل .
قذارة جنسية!!،هذا هو المصطلح الذى أطلقه النقاد على أسلوب ميللر!، فمنذ ظهوره وهو يثير الجدل حول (الإباحية) فى الأدب وحدودها!،وعندما لم يجدوا تحليلا لكل هذا الجنون الشهوانى الذى يكتبه اطلقوا على أسلوبه(الجنس القذر).
حفار قبور!،نعم حفار قبور ،فلم يترك هنرى ميللر مهنة إلا وحاول العمل بها بحثا عن مخرج من الفقر الذى يحيط به وبالعائلة منذ مولده 1891 فى نيويورك ،فقد كان السيد الوالد يعمل فى محل للخياطة وعرف هنرى سوق العمل مبكرا بدأ مشواره من شركة للأسمنت ثم بارمان وغاسل أطباق وأخيرا حفار قبور!. سيجد المتابعون للشبق الجنسى فى أعماله مبررات ودوافع جعلته يتخلى عن اللياقة فى كتابته بعد كل البؤس والفقر والعذابات التى عاشها مع صعود أمريكا بناطحات السحاب وارتفاع ثروة مليونيراتها بينما الفقراء يموتون جوعا،كان لابد من ظهور كاتب شعبوى أمريكى تباع مؤلفاته على الأرصفة وفى المكتبات السرية ويرسم صورة قذرة لكل هذا الهيلمان الكاذب.
وإن كانت صفة الجنس القذر قد رفعت أسهم ميللر فى المبيعات فإن هوس الإباحية أصاب ناييس هى الآخرى، لكنها لم تحصد منه سوى الضربة القاضية التى طرحت سُمعتها أرضا ـ كما يقول إلياس فركوح فى ترجمته لحوار طويل مع ناييس ـ فقد كان نشر اليوميات (غير المشذبة) الخاصة بمرحلة 1932 ـ 1934 ،والتى اسمتها “المحرمات” : من مذكرات الحب ،وصدرت عام 1992 بناءً على وصيتها التى اشترطت فيها رحيل جميع الشخصيات الواردة فى الكتاب،كارثة عليها جعلت النقاد يحجمون عن دراسة أعمالها بالشكل اللائق.
التوحش فى الشهوات وعجن الحب بالجنس جزء من اعتراض هنرى ميللر على الرأسمالية الأمريكية، هكذا يقول النقاد، ودعنا من كل هؤلاء الآن وتعالى إلى اعترافاته فى هذا الحوار المطول الذى أجراه معه كريستيان دى بارتيا وترجمه خالد النجار وصدر عن دار الهلال تحت عنوان(اعترافات ميللر فى الثمانين) والذى يحكى فيه زيجاتهه،فقد تزوج للمرة الأولى من بياتريس ويلكنز ، وكان زواجاً تعيساً قال عنه :”حين تزوجتها ، كنت لا أكترث لها البتة ” .. ثم التقى ب ” جوان أوديت سميث ” عام 1923 ،وأحبها بشدة، كتب عنها، إلا أنه سافر إلى باريس عام 1929،و طلقها ،وعاش فى حى سان جيرمان،وأحب خلال هذة الفترة (مونا) و تأثر بالحركة السيريالية الفرنسية ، واندفع فى تيار البوهيمية ،وحين بلغ الأربعين من عمره نشر روايته الشهيرة “مدار السرطان” ( 1931 ) .
ولكن هذا الكتاب أثار ضجة كبيرة ومنع نشره فى الولايات المتحدة و بريطانيا (لم يرفع الحظر عنه إلا عام 1961 )،وكان الفضل فى طبعه يعود إلى عشيقته ” أناييس نين”،ثم أصدر بعد ذلك كتاب “نيويورك ذهاباً و اياباً “( 1935 )،و الربيع الأسود “( 1936 )،و” مدار الجدى” ( 1939 ) وقبل الحرب العالمية الثانية مباشرة عاد إلى نيويورك،يحكى ميللر سريعا عن زيجاته وعشيقاته،لكنه يتوقف طويلاً عند ناييس نن،ومن يقارن علاقتهما بأى علاقة آخرى، تكتب ناييس نن ويحفظ هنرى ميللر ما تكتب ويعيد ترديده على المحرر (لقد تحدثنا طوال اليوم ! ، لقد سكب هنرى كل ما يعرفه و يقرأه و يفكر فيه ، أنه يتكلم ليجد نفسه و أفكاره عن الفن و الجنس ، مرحلة الصبى ، و مليون من الموضوعات والاستكشافات و الاكتشافات .
وكانت ناييس قد كتبت هذه العبارات وهى تحكى عن يوم عاشته مع هنرى فى الشوارع ،أكلت فى مطعم صغير وذهبت معه للتسوق ،وعاد بهما التاكسى إلى البيت :
( وبكل الرضا و الرقة و الالتصاق ، ذراعا بذراع توجهنا إلى الفراش و رقدتُ ملء جفونى فى دفء هذا الرحم الساحر الذى يحتوينا معا ، يهدهدنا، رحم من الدفء مثل السحر الاستوائى ، السلطة ، اللحم ، النبيذ ، الفونوغراف ،و مشاوير التاكسى، الفراش،كلهم تفجروا بمكونات سحرية .. متعتنا المزدوجة ، رفعت درجة كل شىء .. تمدّد هنرى ، وردى متدفق أنيق مع توهج ، و شعرت بهجته ، و شهيته و متعته . أصبحت جائعة و وردية ، أعطانى مذاق الحاضر الجميل الكامل . معا أصبحت الدقيقة لانهائية ).
يقول ميللر: ” إننا مذنبون بجريمة من أكبر الجرائم لأننا لا نعيش حياتنا كاملة ، و لكنا جميعا أحرار بشكل كامن ، نستطيع أن نتوقف عن التفكير فيما فشلنا فى عمله ، أو نعمل أى شىء نقدر عليه ، إن القدرات التى فى داخلنا قد لا يستطيع أحد أن يجرؤ على تخيلها ،إنها لا نهائية ، و ذات يوم سوف ندرك و نعترف لأنفسنا أن التخيل هو كل شىء ، التخيل هو صوت الجرأة “.
لم تكن (ناييس)عشيقة ،كانت حياة وسند كبير وسط عواصف الهجوم الذى كان يتعرض له ، وهدأت روحه كثيرا لدرجة أنه تعلم الرسم، حفار القبور أصبح فنانا يذهب إلى بيكاسو ويسأله :كيف ارسم ؟،فقال له بيكاسو : ” هنرى، لا تفكر فى الموضوع، فقط افعلها ” ،وفعلها،ورسم حوالى 200 لوحة تم عرضها فى 60 معرضا دوليا،وكانت رسوماته لمتعته الشخصية، ليس للحصول على النقود، و مع ذلك فقد بادل رسوماته كى يحصل على طعام و نبيذ.
كان هنرى يرسم لوحات ترتبط ببعض كتاباته ،مثل لوحة ” أنطوان البهلوان”، فقد كتب ذات مرة:” أوه .. أيها البهلوان المحبوب ! أنه امتياز خاص أن نكرر الأخطاء ، و الحماقات ،والغباوات، و كل سوء الفهم الذى يهدد البشرية ، إنه سيد الحماقة،و يملك كل الزمن فى حوزته، هو يستسلم فقط فى مواجهة الخلود ”
إن الطفل الذى يعيش داخله وعلى سن قلمه، كان يريد أن يلهو بلا ضابط كما يقول معصوم مرزوق فى تقديمه لمذكرات ميللر فى الثمانين، كان يريد أن يترك نفسه لكل شهواتها و غرائزها، أو أن يعيش كبهلوان،و قد كتب : ” عندما تخرجت من المدرسة الثانوية سألنى أصدقائى عمن أنوى أن أكونه ؟،فقلت لهم : ” بهلوان”،و تذكرت كم كان العديد من أصدقائى القدامى يشبهون البهلوانات فى سلوكهم .. و كانوا أكثر من أحببت،و بعد ذلك اكتشفت لدهشتى أن أغلب أصدقائى الحميمين كانوا يعتبروننى بهلوانا ،وفى موضع آخر حاول أن يفهم لماذا يختار البهلوان ،فقال :” البهلوان يعجبنى للغاية،رغم أننى لم أكن دائما أعرف ذلك، و كان ذلك تحديدا بسبب أنه منفصل عن العالم بالضحكة، تلك التى نسميها الضحكة الطروب، إن البهلوان يعلمنا أن نضحك على أنفسنا،وضحكنا هذا يولد من الدموع ” .
لكن كل هذا الحب الملتهب والذى وصلت شهرته الآفاق .. مات فجأة!،لا تسأل عن أسباب،فهى من المؤكد أسباب معقدة،لكن الحب المشتعل فى الضواحى والأحياء وخلف الأشجار وفى نميمة المثقفين على مقاهى باريس .. انطفأ!.
ولدت أنابيس نن(1903 ـ 1977) على حافة باريس و أمضت طفولتها فى مناطق مختلفة من أوروبا حتى عمر الحادية عشر عندما غادرهم أبوها “جواكين نين”، الذى كان ملحنا إسبانيا،و فى نفس العام قامت والدتها الفرنسية ـ النرويجية بإصطحابها و معها ابنيها إلى نيويورك ، و فى السفينىة التى حملت أناييس بعيدا عن أوروبا و عن أبيها ، بدأت فى كتابة يومياتها،و فى عام 1923 تزوجت من ” هوجو جيلر ” الذى كان قد درس الأدب و الاقتصاد ،و كان يحتل مركزا جيدا فى بنك دولى ، بما اتاح لها العيش بشكل جيد .
و قد انتقل الزوجان إلى باريس عام 1924 ، وتنقلوا بين عدة شقق، و لكن أناييس كان لديها غالبا شقة صغيرة لنفسها،كما عاشت فى عوامة فى نهر السين لفترة ،و فى باريس قامت مع زوجها بمساعدة بعض الفنانين الجدد ، و كان من بينهم هنرى ميللر،التى انهت علاقتها معه بعبارة( إننى غير مرتاحة ” مشحونة بالشهوة ” إنها الفترة التى سوف تغادر فيها زوجها الخاضع الخانع ، و كذلك حبيبها المعبود هنرى ميللر، كى تعيش فى قصة حب جديدة مع المحلل النفسى (أتو رانك) وهى لا تخجل من التصريح بعدم اخلاصها ، وتعترف بأنها تحب أن تكذب ” كذبات جميلة ” على الرجال الذين يرغبون فيها ،و شعرت بالملل أيضا،لتدخل علاقة غرامية مع رجل وحشى من جنس ” الإنكا ” أسمه ” جومزتاو مور”.
انتهت نايسس من قصتها مع ميللر، فماذا فعل هنرى؟ كيف واصل حياته،وهل عرف نوعا جديدا من الحب ؟
اقرأ أيضًا:
عندما بكى هنرى ميللر تحت قدمى فتاة العشرين !