لا معنى لعيشنا معا،إننا لم نكن قط زوجا وزوجة بالمعنى الحقيقي،وأنت لم تظهرى لي أي حب أو مودة،إنك تهربين مني عندما أقترب منك،ويبدو أنك لا تهتمين إلا بنفسك وأمنك،إننا نحيا كغريبين، وقد ظللت انتظر فى أمل طوال هذين العامين القصيرين من الزواج أن تتغيري يوما ما ،ولكن يبدو أنك لا تستطيعين- أو لا تريدين – ذلك.
ومن يصدق أن الرجل الذى خاض كل معارك الحب الكبرى يقع فى حفرة صغيرة تدمى قلبه وتذل كبريائه على هذا النحو!!،هنرى ميللر الكاتب الأمريكى المتوحش فى شهوانيته والذى حطم أسوار المجتمع المحافظ فى أمريكا وخارجها بقصص حب إباحية ومعلنة وبعدد وافر من الزيجات يصبح على هذه الحال من الضعف والهوان!!.
إنها فتاة العشرين اليابانية التى كانت فى السابعة والعشرين حين التقاها ميللر لأول مرة عام 1966 فشقلبت كيانه،وأدركت الصغيرة أنها أصبحت لعبة الكهل العجوز فراحت تبادله النظرات والابتسامات والهمسات والقبلات أيضا ،وأعجبه دور المراهقة التى تعبث مع العجوز ولا تجلس إلا على قدميه :
(أجد لذة خاصة عندما تجلسين على ساقىّ وتتشبثين برقبتى كقطة )، واستمر الغزل حتى تزوجها فى 10 سبتمبر 1967 لتبدأ فصول مأساة لم تكن فى حسابات حفار القبور .
فى اعترافاته التى صدرت عن دار الهلال بمناسبة بلوغه الثمانين بقلم كريستيان دى بارتيا بترجمة خالد النجار وتقديم معصوم مرزوق لم يتطرق هنرى ميللر إلى تلك القصة، وقد ترجم سعدى يوسف مذكرات ميللر لكننى لم أقرأها ولا أعرف هل تطرق إلى الغرام اليابانى أم لا،لكن ميللر توقف فى كل مذكراته وحواراته المترجمة عند حكايته الأشهر مع ناييس نن التى وقفت تتحدى أمريكا وفرنسا وتعلن غرامها بالكاتب المجنون ،لكن المترجم والناقد الكبير والأستاذ بجامعة القاهرة ماهر شفيق فريد وقع تحت يديه كتاب يكشف غرام الكهل العجوز بمطربة يابانية،الكتاب عنوانه (رسائل من هنري ميلر إلى هوكى توكودا) من تحرير جويس هوارد،صدر برعاية الناشر “روبرت هيل” في لندن في 1990، وعبر أكثر من مأئتى رسالة يكشف الكتاب كيف تحول ميللر إلى قط آليف بعد أن كان أسداً يزأر بلا خوف.
والقصة بدأت عندما توجه ميللر عام 1966 إلى بيت صديقه وطبيبه الخاص (لى سيجل) ليلعب معه تنس الطاولة ويحتفلا ببلوغ ميللر الخامسة والسبعين،وهناك راح يراقب الفتاة الصغيرة التى وصلت أمريكا قادمة من اليابان وخلال فترة قصيرة نجحت (هوكى) المغنية الصغيرة فى فرقة جاز وصنعت حالة من البهجة وعرفتها الأوساط الأمريكية سريعا،فهى تغنى وترقص وتعزف البيانو ولا تخجل من الجلوس على المقاهى وتوزيع الضحكات والموسيقى، وبدأ ميللر يبحث عنها فى كل البارات الليلية ،فقد كان يحلم دائما بالشرق الأقصى،حتى فى رسائله إلى ناييس نن كان يعترف برغبته فى العيش وسط هذه البلاد،وكان يقول أنا صينى الأصل!.
ويعلق ماهر فريد شفيق على هذا الميل الشرق آسيوى لدى ميللر فقد قرأ الكثير عن الصين واليابان، وفي رسالة منه إلى ناييس نن في أكتوبر 1933 يذكر أنه شاهد أفلاماً جعلته يزداد ميلا إلى الشرق مع كل يوم يمر،بل إنه في رسالة أخرى (1938) يصف نفسه بأنه “صيني في أعماقه”.
لم تكن هوكى فريسة سهلة للعجوز الماكر،فراح يزداد اندفاعاً كلما تمنعّت عنه، فيثور العجوز وينطلق يبحث عنها على نحو جعل كثيرين من أصدقائه يحذرونه من فارق السن المهول بينهما،وكان من بين الناصحين صديقه الإيرلندى لورانس داريل صاحب رباعية الإسكندرية،لكن ميللر كان جاهزا بالرد: ( الحب يصنع المستحيل ويجعلك تتغلب على العقبات والدليل أن الكاتب الألمانى (جوته) وقع وهو في العقد السابع من عمره – في غرام فتاة في التاسعة عشرة من العمر،ونظم قصيدة تفيض نشوة عنها).
ازداد ميللر شوقا، وبدأ فى كتابة الرسائل،هوايته المفضلة التى استهوت ناييس نن وسجلا سويا تاريخا من الرسائل الملتهبة، لكنه مع (هوكى) أضاف تغييرات جوهرية إلى طريقته فى الكتابة،بل وفى الصور الفوتوغرافية، يقول المترجم ماهر شفيق فريد إن ميللر كان يدللها ويدعوها “لؤلؤة اشرق” و”نور آسيا” ويسألها في خطاب: “هل تنامين جيدا؟ هل تأكلين جيدا؟ هل تحلمين جيدا؟ هل تغنين جيدا؟ ما الذي لا تفعلينه جيدا؟ إني مشوق إلى أن أعرف”،بل إن العجوز اختص هوكى بصورته وهو فى الثالثة من عمره! اعترف لها اعترافات خطيرة عن علاقته بوالدته!،وراح يستجدى عطف الفتاة الصغيرة وهو يخبرها أن أمه كانت قاسية معه وأنه لم يعرف معنى الحنان والعطف مدى الحياة: ( أمى .. لم أشعر قط بأي دفء من جانبها، إنها لم تقبلني قط أو تحتضني قط، بل لا أذكر حتى أني توجهت إليها وأحطتها بذراعي، ولم أكن أعرف أن الأمهات يفعلن ذلك إلى أن زرت يوما صديقا لي في منزله ،كنا في الثانية عشرة من العمر آنذاك،عدت من المدرسة معه وسمعت أمه تحييه: “جاكي، أوه جاكي” هكذا قالت “أوه يا حبيبي، كيف أنت، كيف كان يومك؟”وأحاطته بذراعيها وقبلته، لم أكن قد سمعت قط ذلك النوع من اللغة ،ولا حتى تلك النغمة من الصوت!).
ولم تصمد هوكى طويلاً أمام رسائل ميللر،فاستجابت لدعوته على العشاء مرات حتى تزوجا في 10 سبتمبر 1967 وستشهد حياتهما عواصف كثيرة.
وبعد قراءة الرسائل وتقسيمها زمنيا يقول ماهر شفيق فريد إن معظم نقاد أمريكا قالوا إن هنري لم يكن يستطيع أن يكتب عن الحب إلا مقترنا بالجماع والشهوة!، بمعنى أن المرأة عنده مجرد آلة للجنس دون عاطفة حقيقية،ولكن هذه الخطابات ـ يقول ماهر فريد شفيق ـ تُبطل هذه التهمة، ففى تلك الرسائل كل معانى الحب والحنان والرفق إلى جانب المرارة واللوم والشك.
الرسائل الأولى إلى هوكى أكثر تألقاً وشبابا ورغبة فى الوصول إلى فتاة تصغره بنصف قرن، كأنما الخريف يلتقى بالربيع،كأنما القلق لا يشعر به الإنسان إلا وهو خائف على ثمرة فاكهة صغيرة،فهو يتحدث إليها عن كل شىء كأنما يرتب أفكارها ويعيد تثقيفها فيكتب عن الكتب التى تأثر بها وعن لوحات مودليانى وأجمل عبارات شكسبير، ثم يخصص رسائل للحديث عن الكتابة الإيروتيكية ونجومها وأشهر الكتب التى يحترمها،كما يتحدث عن أحداث عامة تخص زواج جاكلين كيندى من المليونير اليوناني، صانع السفن، سقراط أوناسيس، لكن الرسائل التى أعقبت الزواج كانت مجموعة من الليالى الحزينة التى راح ميللر يكتب فيها عن جراحه وآلامه ويستنجد بهوكى كى تعود إليه ،فقد كانت تهوى السفر.
بعد زواجهما فى 10 سبتمبر 1967 ،قضى ميللر وهوكى شهر العسل فى باريس،وحضرا سويا حفل افتتاح معرض للوحات ميللر المائية، وبعدها لم يستطع ميللر أن يقبض على مفتاح شخصية هوكى التى كانت تتخذ قراراتها ثم تعرضها عليه!،وما كان عليه أن يوافق على قرارها الأول بالسفر إلى اليابان لزيارة والدها،وكان ميللر يعيش أزمة صحية لا تسمح له بالسفر،وبعد عودتها ظن ميللر أنها ستبقى بجانبه لكنها كانت طموحة لدرجة لا تسمح لها بالبقاء مع كاتبها الكبير!،وبدأت هوكى تستقبل عروضا بحفلات غنائية وعروض تليفزيونية وتعدد سفرها.
وتعكس الرسائل تقلبات العلاقة بين ميلر وهوكي، إننا نجده مثلا ، في خطاب غاضب يحمل تاريخ 28 يناير 1967، يعنفها قائلا:
“إنك تغدين غير محتملة على نحو متزايد، إنك تتصرفين كطفلة، وهذا يثير اشمئزازى، إما أن تتصرف كامرأة، او تخرجي من حياتي كلية”.
أما أني أحبك بالرغم من كل شئ فهذا ما لا أستطيع له إنكارا، ولكني أرفض أن تعامليني كما لو كنت أبله، سأتخلى عنك حتى لو كان في ذلك مماتي.
ولا أريد أن أسمعك تقولين: “إني آسفة، لقد كنت في حالة نفسية سيئة، كنت أشعر بصداع ” إلخ.. إلخ.. إذا كنت تريدينني فعليك أن تأتي إلي ، وتبدي لي شيئا من المودة، وتفتحي لي قلبك، وتثبتي لي أنك تحبينني ، لن أقبل بأي شئ دون هذا، لقد قدمت لك كل شئ فنبذته، لست أريد منك معروفا ، إنما أريدك أنت، وإذا كنت لا تستطيعين أن تمنحيني نفسك ، فالأمر منته بالنسبة إلي”.
كتب ميلر إليها أربعا وثلاثين رسالة، كانت قد عادت من زيارة لليابان في ديسمبر من ذلك العام، وتم انفصالهما النهائي في مايو 1970، وسافرت هوكي إلى جزر هاواي لقضاء إجازة، والخطاب الحاسم هنا هو خطاب ميلر إليها في 4 يناير 1969:
عزيزتي هوكي:
لقد انتهت أخيرا إلى نتيجة مؤداها أنه لا معنى لعيشنا معا زوجا وزوجة،إننا لم نكن قط زوجا وزوجة بالمعنى الحقيقي، وأنت لم تظهرى لي أي حب أو مودة ، إنك تهربين مني عندما أقترب منك ، ويبدو أنك لا تهتمين إلا بنفسك وأمنك، إننا نحيا كغريبين، وقد ظللت انتظر فى أمل طوال هذين العامين القصيرين من الزواج أن تتغيري يوما ما ،ولكن يبدو أنك لا تستطيعين- أو لا تريدين – ذلك .
لن ألومك ، فأنت لا تستطيعين أن تحولي بين نفسك وأن تكوني ما جبلت عليه ، ولكني لا أستطيع أن أستمر في أن أعيش هذه الحياة عديمة المعنى، عندى أن الحب أهم شئ في الحياة، أما عندك فهو غير مهم، فيما يبدو .
أظن، على ذلك، أننا يجب أن ننفصل ، عندما تعودين، سأرتب لإتمام الطلاق، ربما غدونا أسعد في هذه الحالة .
هنري،
وفي خطاب آخر أعنف يكتب لها:
“إني لم أنخدع بك قط ، لقد كنت صبورا معك – وهذا كل شئ ، كنت آمل رغم كل دواعي اليأس ، ولكن ذلك كله ضاع هدرا، لن تتغيري قط ، إنك بلا قلب ، بل إنك لا تملكين حتى نزاهة العاهرات، إنك غشاشة من الرأس إلى القدم – وكل إنسان يعرف ذلك، بما في ذلك أنا .
حاشية: من بين كل خبراتي مع النساء – صالحات وطالحات – كانت خبرتي هذه معك هى الأسوأ .
وفي أثر الطلاق انتقلت هوكي إلى بيفرلي هيلز.
وتقديري الشخصي ـ يعلق ماهر شفيق فريدـ أن فشل العلاقة كان راجعا أساسا إلى أن ميلر في شيخوخته- على شهرته القديمة بالفحولة – عجز عن تلبية مطالب هوكي الجنسية، أوتسكين ثورة الشيطان النائم بين فخذيها، وهو يكاد يشير إلى ذلك صراحة حين يقول في خطاب مؤرخ 14/8/1967: “ربما كنت قد غدوت عاجزا، ولو كان الأمر كذلك، فسيحل عددا من المشاكل ، كلا؟”، وأغلب الظن أنها تحولت عنه إلى رجل أو رجال آخرين أقدر على إشباع غريزتها، ومن ثم كان الجرح المزدوج الذي أصاب ميلر في رجولته وكرامته، ونحن نجده يقول في رسالة مؤرخة في 3 مايو 1968: “إني – لسبب ما – أؤمن بك بكل قلبي حتى لو قيل لي – وهو ما يقوله لي دائما هذا الأحمق أو ذاك – أنك غير مخلصة لي”.. هذا الأحمق أو ذاك! يا لخداع النفس الذي يقدر عليه الأزواج المفتونون!”.
اقرأ أيضًا:
جين فوندا.. ودراما البحث عن أب !
حكايات للسيد الوزير عن فرقة باليه دار الأوبرا
كيف ألفت مسرحية “حسن ومرقص وكوهين” مع نجيب الريحاني؟