انفطر قلبى وأنا اسمع كلمات الكاتب مصطفى بكرى وهو يصف العقيد معمر القذافى بالمجنون !، كان رئيس تحرير صحيفة “الأسبوع” والبرلمانى السابق يغلق صفحات قديمة امتلأت بكلمات الحب والأمتنان والاعجاب ، والذين لا يعرفون الاستاذ بكرى اعتقدوا ان تلك الكلمات التى قالها فى برامج التوك شو ونشرها فى صحيفته كانت سهلة عليه أومجرد مشاركة منه مثل الكثيرين فى توصيف الأخ العقيد الذى فتح النيران الثقيلة والخفيفة على الشعب الليبى ، فى حين كان الذين يعرفون بكرى جيدا يدركون انه يتألم ويعتصر من الداخل ، فالأخ العقيد لم يكن مجرد حاكم عربى بالنسبة له ،بل كان رمزاً كبيرا طالما راهن عليه واعتبره بطلا قوميا حقيقيا يمتلىء بالانسانية ويفيض بالحنو والرقة ، ومن يعود إلى صحيفة مصر الفتاة التى كان بكرى يرأس تحريرها سيجده من أول أول المؤمنين بالكتاب الأخضر لدرجة أنه قام بتوزيعه عام 1987 مع الصحيفة .
وعبر رحلته المهنية الطويلة ظل بكرى يبحث عن رجال أقوياء يقودون الأمة فى فترات انهزامها وانكسارها ،وكان القذافى نموذجا يضع عليه آمالاً عريضة بعد أن نجحت قوى الإمبريالية الأمريكية فى تصفية وإهانة البطل المغوار صدام حسين الذى يصفه دوما بالشهيد ويقيم احتفالا سنويا بذكراه .
ولكن تأتى الثورات بما لا يشتهى الرومانسيون العظام ، فقد انكشف العقيد على حقيقته وسقط سقوطا مدويا وأصبح الكل يفر منه ويتبرأ من جرائمه بما فيهم “أحمد قذاف الدم ” الصديق الوفى والذى تربطه بالعقيد علاقة الدم ، وهنا تحديداً ومع استقالة “قذاف الدم” من منصبه كمنسق للعلاقات المصرية الليبية كان لابد وأن يتصالح “مصطفى بكرى” مع الواقع وأن يشّيع الحلم العربى الكبير ويذرف الدمع داخليا وهو يطوى صفحة قائد ثورة الفاتح! .
هل أبدو رومانسيا بعض الشىء وأنا أصف حال الأستاذ مصطفى بكرى؟!، ربما يظن البعض ذلك ، لكن الوقائع القديمة بين “الكاتب والقائد” تعكس الواقعية بعينها ، فقد كان القذافى بالنسبة له منبرا للقومية العربية وللعزة والكرامة ، ولن أنسى ما حييت ذلك المقال العظيم الذى كتبه بكرى عن صرخة العقيد فى زمن الهوان العربى والذى سنتوقف معه لنعرف كيف كان الكاتب يدارى الجراح ويعتصره الألم وهو يضع القذافى فى سلة المجانين وأعداء الشعوب ، كما لن انسى ما حييت مشهدا درامتيكيا للاستاذ بكرى وهو يكاد يبكى فى أحد البرامج التى استضافته مع الكاتب الرياضى محمود معروف ، نعم كانت الدموع تكاد تفر من عينيه القويتين وهو يؤكد أن إهانة المصريين فى الخارج لا يمكن الصمت عليها وقال فى مقطع شهير تتداوله مواقع اليوتيوب وغيرها : ” لو مواطن ليبى اتعرض للاهانة كان العقيد القذافى هيسكت ؟!” ،صحيح أن المذيع لم يسأله عن مواقف رؤساء أخرين لكنه اختار العقيد نموذجا للقائد الذى يحترم شعبه ويحرص على كرامته .
ولأن احمد قذاف الدم يحمل رائحة العقيد بحكم صلة القرابة ، فقد ارتبط الاستاذ بكرى به ارتباطاً وثيقا ،وكان الأخير لايثق فى أحد سواه ،وفى كل الحفلات والمناسبات التى كان يحضرها قذاف الدم كنتُ أشاهذ الأستاذ مصطفى بكرى معه قلباً واحداً وحساً وطنياً واحداً .. وأحيانا كانت الدموع تفر من مقلتى لتلك المشاهد الدرامتيكية للاستاذ بكرى وهو يرتدى الكوفية الفلسطينية على قناة “الساعة” الليبية صارخا فى فى الحكام العرب كى ينتفضوا لنصرة غزة .
يا الله . أحدثكم عن أيام حزن حقيقيه فى حياة الكاتب مصطفى بكرى ، الذى كان قبلها بأيام أيضا يفقد ثقته فى الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك ، فقد كان لمبارك مكانة تقدير واحترام بالغ فى نفس كاتبنا الكبير ـ سنعود اليها ـ لكن بكرى المعروف بمواقفه الواضحة انتفض حين شم رائحة الفساد تفوح من جنبات قصر الرئاسة عقب سقوط مبارك وراح يطارد الرئيس المخلوع وعائلته، ولا تظن ـ يا عزيزى ـ أن كل ذلك بالأمر السهل ،ولا تظن أن أى شخص يمكنه امتلاك تلك القوة وتلك الصلابة فى مواجهة الصعاب ، فأنت تعرف كم هى ثقيلة على النفس ان تكتشف حقيقة الكذب والخداع ، وأنا أحدثكم عن كاتب له من الخبرات الطويلة الكثير والكثير ومع ذلك فقد انخدع فى هؤلاء الذين خذلوه وخيبوا آماله وأضاعوا الكثير من الأحلام بوطن العزة والكرامة .
ولنبدأ معا من مدينة نيويوك التى وصل اليها العقيد معمر القذافى فى 22 سبتمبر 2009 فى زيارة هى الأولى منذ وصوله الى الحكم عام 1969 للمشاركة فى جلسة دولية لمجلس الأمن شارك فيها العديد من زعماء العالم،وفى اليوم التالى كان الأستاذ بكرى هو الكاتب الوحيد الذى سجل بطولات القذافى فى مقر مجلس الأمن ، فى حين تخاذل باقى الصحفيين ورؤساء التحرير فى مصر والعالم العربى ممن لا تشعلهم هموم الامة العربية ،وكتب ” بكرى”مقالا بليغاً وجاءت عناوينه موحية بالقوة : (ـ القذافى يدق جرس الإنذار”لاتكونوا مجرد ديكور!!
– مجلس الرعب ‘الأمن سابقًا’ يمارس الإرهاب ضد الجميع ومطلوب إعادة تشكيله علي أسس عادلة – الغرب نهب الثروات واستعمر بلداننا ولايزالون يصرون علي التدخل في شئوننا – الشارع العربى: خطاب القذافى صرخة فى زمن الهوان).
أما متن المقال فكان وثيقة تاريخية للزعيم والقائد ، ولولا ضيق المساحة لنشرت المقال كاملا لما تضمنه من روح وطنية وثّابة وحس قومى عروبى يشق عنان السماء، لكننى فقط سأكتفى ببعض الفقرات لتعرف يا عزيزى أن المواقف ليست بالساهل ، يقول كاتبنا فى إحدى الفقرات :”كان خطابًا قويًا، ترقبته كافة الدوائر السياسية والدبلوماسية والشعبية، انطلقت التحذيرات من واشنطن تطالب القذافى بالحذر فى كلماته، والبعد عما يسمونه بلغة الاستفزاز، غير أن العقيد القذافى كان قد أعد العدة، واطلق خطابه النارى، وكأنه بيان اعلان قيام الثورة، واجه العالم بأسره بالحقيقة المرة”.
ويقول كاتبنا فى فقرة ثانية : ” وقد استقبل الشارع العربى كلمات القذافى بحالة شديدة من الاعجاب خاصة مع منطقية الطرح والغوص فى خضم الأزمات، وطرح العلاج الناجع لأوضاع العالم ومنظماته الدولية ..”
ويقول فى فقرة ثالثة اختتم بها المقال : “لقد تابعت ردود الأفعال فى الشارع المصرى، والاتصالات التى تلقيتها من العديد من الأصدقاء والمواطنين فى البلدان العربية وكذلك تعليقات القراء على مواقع الانترنت، ويكفى أن أنشر هنا بعض هذه التعليقات ليدرك الناس أن ما قاله القذافى لم يكن إلا تعبيرًا عن رأى الشارع العربى ،لقد نشر موقع ‘الجزيرة نت’ ملخصًا لخطاب القذافى وقد تضمنت التعليقات عددًا من آراء المواطنين أبرزها: محمد المصرىـ مصر:
الحمد لله الذى ابقى فينا رجلا يحمينا ويحمى الاسلام والعروبة والحقوق الانسانية، بارك الله فيك يا معمر وجعلك دائمًا معمرا للأرض ولكل العالم من قلب الشعب المصرى”
وبعد أن ينقل كاتبنا الكثير من تعليقات الشعب العربى السعيد بانتصار القذافى على الأمم المتحدة ، يقول فى فقرة أخيرة تلخص الأمر : ..” إذن هذه العينة العشوائية التى نشرها موقع ‘الجزيرة نت’ وهى توضح أن قائد ثورة الفاتح ورئيس الاتحاد الافريقى لم يكن يتحدث باسم ليبيا ولا باسم افريقا فقط، لكنه كان يتحدث باسم كل شرفاء العالم الذين اكتووا بظلم وقهر النازيين الجدد، إن خطاب القذافي سيكون له تأثيره الكبير على مسارات الأحداث فى الفترة القادمة، فهو قال مالم يستطع غيره قوله، وهو أمسك بمشرط جراح ماهر ليشخص الداء والدواء، وفى ظل خطاب استسلامى اصبح سائدًا فى هذا العالم، جاء معمر القذافى ليقول كلمة للتاريخ، وليعلن ولادة زعيم افريقى استطاع ان يهز الضمير العالمى وأن يكسر حالة الهوان والانصياع”.
نقلت لكم عينات من كتابات كثيرة ، حتى يعرف الجميع أن الأستاذ بكرى كان يعتصره الألم وهو يودع القذافى مع الثورة الليبية ، ليس هذا فحسب ، ففى الزيارة التى قام بها العقيد لقبائل الفيوم وبنى سويف والمنيا (7يوليو 2008) كان الأستاذ ” بكرى” يتقدم صفوف المستقبلين مرحبا بقائد الثورة على أرض مصر ، وكتب محرروا المصرى اليوم “محاسن السنوسى ومحمد فرغلى وحمدى قاسم ” تقريرا بعنوان: ” مؤتمر القذافى بالفيوم: القبائل ترحب.. وبكرى يهلل.. والمحافظ يغيب “، والتهليل مقصود به الترحيب الزائد بالضيف الكبير والقائد الذى تراهن عليه الأمة العربية بالطبع .
فى وداع حسنى مبارك
نعم كان العقيد يحتل مكانة خاصة فى قلب كاتبنا ، لكنه وبخبرته مع ثورة 25 يناير كان يعرف أن القذافى انتهى ،وأن أسطورة القائد سقطت تماما ، لذلك دهس بكرى قلبه وتخلص من العواطف الجياشة وراح يصفه بالمجنون الذى يحرق الشعب ،وكانت تلك ضربة موجعة أعقبت ضربة أشد ألماً ،فهاهو العقيد يلحق بمبارك الذى كان يحتل مكانة إجلال وتقدير من كاتبنا الذى لم يشك لحظة فى طيبة وأخلاق مبارك ، ولم يكن يتصور أن الرئيس الذى ركب معه الطائرة وشاهده حنونا وطيبا كان يسبح فى مستنقع فساد!، لقد اكتشف كل شىء بعد أن ظل محافظا على صورة الاحترام والتقدير للرئيس المخلوع رافضاً الانسياق وراء حملات الهجوم التى كان يتعرض سيادته من 2008 ، وكتب ناصحا هؤلاء المتهورين بأن الانتقاد يجب أن يكون فى حدود المعقول ،بل إن بكرى لم يجد حرجا فى الاحتفال بعيد ميلاد مبارك ليس على طريقة المنافقين الكلاسيكيين فى الصحف القومية بل على طريقته الخاصة ككاتب مستقل لا يداهن ولا يساوم ، وكتب مقالاً جريئا فى مايو 2008 بعنوان “كل عام وأنت بخير ياريس” نقتطف منه بعض الفقرات التى إن دلت فإنما تدل على وعى ويقظة بما يحمل الرئيس السابق من طيبة قلب ومواقف إنسانية وحرص على الصحافة والحرية :
يقول بكرى ” فى حياة الرئيس مبارك محطات عديدة ومتعددة قضاها منذ أن كان طالبا،ثم ضابطا،ثم قائدا،ثم نائبا للرئيس وأخيرا رئيسا للجمهورية
ومنذ انطلاق هذه الصحيفة ( الأسبوع) ونحن نتبنى خطابا إعلاميا بعيدا عن الإسفاف وعن الإهانات وعن الترصد الشخصى.. كنا ندرك أن انحياز الرئيس لحرية الصحافة هو واحد من ثوابته الأساسية،لا يفرق بين صحفى ينتمى لمؤسسة قومية وآخر ينتمى إلي مؤسسة مستقلة أو معارضة،فقد كان يقول دوما: ان الجميع مصريون ووطنيون وانحياز الرئيس إلي حرية الصحافة جر عليه الكثير من المشاكل خاصة من قوى الخارج وتحديدا أمريكا وإسرائيل لقد تعرض الرئيس لانتقادات عديدة داخل الكونجرس حيث طالبوه بالتدخل فى شئون الصحافة ومصادرة من كانوا يسمونهم بالمعادين للسامية ولإسرائيل ولأمريكا كان الرئيس يقول لهم دوما،إذن أين هى حرية الصحافة التى تتحدثون عنها ؟”.
وفى فقرة ثانية يتوسط الأستاذ بكرى للكاتب عبد الحليم قنديل لدى الرئيس مبارك ـ قبل الخلع ـ ويكتب تلك الواقعة بحس إنسانى كبير :
” أتذكر فى إحدى المرات كنت أحدثك عن الزميل عبدالحليم قنديل وكان وقتها رئيسا لتحرير صحيفة الكرامة يومها كان المجلس الأعلي للصحافة قد أحاله إلى نقابة الصحفيين بتهمة توجيه انتقادات عنيفة إلي سيادتكم، لقد كان صدرك واسعا وأنت تقول أنا لا أكن كراهية لأحد وليس لدى مانع من أن يأتى معنا فى الطائرة فى أى وقت ،هكذا أنت تتجاوز أشياء كثيرة وتفتح صدرك لكل الآراء والأفكار حتى وإن اعتبرها البعض تجاوزا.. فى مواقف عديدة كنت تجرى الاتصالات بكتاب وصحفيين كانوا يعارضون مواقفك ويوجهون الانتقادات إلى سياساتك لكنك لم تتردد للحظة واحدة فى معالجة مريض على نفقة الدولة أو تتابع حالته وحالة أسرته ..هذه المواقف الإنسانية ربما لا يعرف تفاصيلها الدقيقة الكثيرون،لكنك كنت دوما تجعلها عنوانا يعكس مواقفك من الآخرين.
سيادة الرئيس حفاظك على البعد الإنسانى فى العلاقة واحترامك للرأى الآخر هما سمتان يحفظهما لك الجميع،ولذلك مهما تصاعدت لغة النقد للسياسات،فنحن على ثقة أنك ستبقى درعا قويا يحفظ للصحافة حريتها وللإعلام حقه فى أن يعرض الحقائق للجميع مهما كانت مرارة هذه الحقائق
سيادة الرئيس لدى انتقادات كثيرة وتحفظات متعددة لمواقف وسياسات أعبر عنها من خلال مقالتى ب’الأسبوع أو من خلال الفضائيات ،لكننى فى هذه المرة رأيت أن أكتب إليك كلمة من القلب أقول لسيادتك كمواطن وصحفى كل عام وأنت بألف خير يا ريس”.
هذا بعض من فيض ، فهل عرفتم الآن كم كان كاتبنا يتألم ويعتصره الألم وهو ينتفض مترفعاً على العواطف الجياشة ومؤدياً دوره الوطنى المعهود فما اصعب ان ينخدع كاتب سياسى يتعيش بالكلمات ويعيش لها لانه ساعتها سيصرخ كالملدوغ ،وهذا حال كاتبنا فى هذه الايام الصعبة التى يتحمل مرارتها وحده خاصة بعد أن قرر عدد من زملائنا فى صحيفة الأسبوع الاعتصام فى النقابة مطالبين بتعديل لائحة الأجور ، هذا إلى جانب انتشار غريب على صفحات الفيس بوك لصورة تجمع كاتبنا بنجل الرئيس المخلوع فى الصحافة المصرية.
من كتاب
البغاء الصحفى
دار ميريت
2012
اقرأ أيضًا:
شركة هالة زايد تطيح بأحلام مجدى الجلاد فى الجنسية!
مصطفى بكرى .. فارس الأحزان الكبرى!