قالت لي السيدة عطيات – أو عطية كما كان يناديها زوجها أحمد رامي – بدون غضب: لم يكن رامي يحب أم كلثوم كما قلت! وكان ذلك في حفل أقامته إحدى الجهات احتفالا بمسلسل أم كلثوم ، وقابلت فيه لأول مرة السيدة الفاضلة فضلا عن أولادها: الدكتور محمد والأستاذ توحيد والسيدة إلهام .
وفي لحظة فكرت في موقف هذه السيدة، والناس يتحدثون عن حب زوجها لامرأة أخرى. وأسعفتني القريحة كما يقولون فقلت معتذرا: إنها ضرورات التأليف كما تعرفين! لكنها بعد هذا الحديث بقليل قالت لي: كان رامي يحب أم كلثوم ومن كان لا يحبها؟!
ولاشك أنها من أشهر قصص الحب في مصر في القرن العشرين، وقد شبهها أحد النقاد “بروميو وجولييت”! وشهرتها أتت من شهرة صاحبيها، فأم كلثوم هى أشهر امرأة عربية منذ “شجرة الدر” حتى الآن ، أو هذا ما أظنه ، وهى المرأة التي بلغت في فن الغناء شأوا لم يسابقها فيه مغنية أخرى في تاريخ العرب، وهي مالكة أفئدة الناس خمسين عاما ونيفا ، وأحمد رامي البطل الثاني للقصة هو واحد من شعراء مصر الكبار ، وتمتع رغم تعففه بشهرة عريضة، وبرغم تحوله إلى العامية بنسبة كبيرة، إلا أنه ظل شاعرا متميزا فضلا عن نشاطه الأدبي والفني العام فلقد كتب قصصا وحوارا للأفلام السينمائية.
فضلا عن أن شهرة هذه العلاقة أتت من حرج إعلانها في مجتمع محافظ خاصة وأنها بدأت عام 1923 وأنها كانت تتجدد مع كل أغنية يكتبها لها..
وكان أول لقاء لهما في عام 1923 وبعد أن عاد أحمد رامي من بعثته في فرنسا لدراسة فهرسة الكتب ، وكان يعمل في دار الكتب ..
وكان قد جاوز الثلاثين ومرت عليه بالطبع أكثر من قصة حب ، كادت إحداها تصل للزواج ، لكن الزواج لم يتم ، ولاشك أن فترة فرنسا فعلت في نفسه مثلما فعلت في توفيق الحكيم ، لكن المرأة التي كانت امرأة عامة، ولم تكن له قصة معينة تذكر ، وقصائد رامي في باريس لا تتوقف عن المرأة بل يلفت نظرنا حنينه إلى أبيه الذى فقده صغيراً..
مع العودة إلى مصر لاشك أن الشاعر الشاب كان مهيأ لقصة حب …
أما أم كلثوم فلقد كانت أصغر منه إذ كانت في الخامسة والعشرين على إحدى الروايات ، ولاشك أنها كانت أقل استعداداً لقصة الحب فلقد شغلها ولاشك أنها تتحول من مطربة ريفية تائهة بين القرى والدساكر إلى مطربة مهمة في العاصمة تسعى إلى منافسة سلطان الطرب منيرة المهدية وفتحية أحمد وتوحيدة… وإن كان هذا الطموح لا يلغى مشاعرها..
وكان بين رامي وأم كلثوم أغنية “الصب تفضحه عيونه” التي لحنها الشيخ أبو العلا محمد، يقال إن الشيخ أبو العلا محمد أخذ القصيدة من رامي قبل سفره إلى باريس ولحنها وغناها ، وعندما أتت أم كلثوم إلى القاهرة وقد تبناها الشيخ أبو العلا ، وكانت معجبة به أشد الإعجاب ، طلبت منه أن تغني الأغنية ، وقبل ذلك مرحباً..
ولكن أم كلثوم “كتبت” في عام 1948 أن القصيدة أطلعها عليها الشيخ أبو العلا فأعجبت “بخفة وزنها، ورقة ألفاظها ومعانيها، فطلبت إليه أن يلحنها ، وأخذت أغنيها في الحفلات العامة والخاصة، وكلما رأيت شدة الإقبال على سماعها، ازداد إعجابي بها وبنظمها الموفق الجيد”..
ويداعبنا الشك في رواية أم كلثوم فلا نظن أنها في ذلك الوقت المبكر – وكانت لا تزال تلبس ملابس الرجال – قادرة على أن تطلب من الشيخ أبو العلا أن يلحن لها رغم إعجابه الشديد بها ولقد “كتبت” أم كلثوم هذه الشهادة بعد وفاة الطرف الآخر فيها، أما احمد رامي فما كان يكذبها في شئ كهذا ، فضلا عن أنه كان غائبا عند تلحين القصيدة وغنائها لأول مرة…
ولأن أحمد رامي كان محبا للغناء وأهله فلقد سمع بمجرد عودته عن فتاة ريفية اسمها أم كلثوم تحصد إعجاب الناس بهمة عالية، وأنها غنت له “الصب تفضحه عيونه” وذهب رامي ليسمعها في الأزبكية …
وتكاد أم كلثوم في شهادتها تقول إنها تعرفت على رامي عندما حضر ليسمعها لأول مرة وعندما جلس في الصف الأول متتبعا الغناء بعناية ملحوظة..
وقد يكون هذا صحيحا.. إذ تقول الروايات الأخرى إن رامي صعد إلى المسرح بعد الوصلة الأولى وهنأها وقال لها: “أنا غريب وأريدك أن تغني قصيدتي” فقالت له فوراً: حاضر يا سي رامي!!
هل تعرفت عليه لأن هذه القصيدة هي القصيدة التي غنتها لشخص على قيد الحياة، او لمعرفتها – أيضا – أنه غائب في فرنسا ، وربما سمعت – وإن لم يذكر أحد هذا- أنه قد عاد من بعثته ، وفي كل الأحوال كانت تحيتها لرامي دون أن يعرفها بنفسه بصراحة دليلا على الذكاء وسرعة الخاطر …
وغنت أم كلثوم:
الصب تفضحه عيونه
وتنم عن وجد شجونه
إنا تكتمنا الهوى
والداء اقتله دفينه
ولابد أن رامي تأثر تأثرا كبيرا ، فهو رجل يملك أحاسيس مشتعلة، والمطربة كانت تملك من الجاذبية ما يؤثر في أي رجل.. وأكبر دليل على تأثر رامي أن قصيدته التالية بدأت بـ “صوتك”…
وكان اللقاء الأول لرامي وأم كلثوم في آخر حفلاتها.. وبعد ذلك سافرت إلى رأس البر حيث قضت شهور الصيف في ضيافة أمين بك المهدي الذى كان عاشقا للموسيقى والغناء وكان قد تعرف هو وأسرته على أم كلثوم منذ وقت مبكر…
وعندما عادت أم كلثوم غنت في “تياترو البسفور” وعندما ارتفع الستار رأته في الصف الأول، فغنت له قصيدته ، وأثناء الاستراحة ذهب لتحيتها مع بعض أصدقائه الذين قالوا لها إنه يكتب قصيدة جديدة يقول فيها:
صوتك هاج الشجو في سمعي
وأرسل الكون في أدمعي..
وأسمعها أبياتا أولى من القصيدة ، وطلبت منه أن تغنيها، فرحب لكنه قال إنه لم يتمها بعد ، تقول أم كلثوم في شهادتها :
“ووعد بان يزورني بعد أيام في منزلي بحي عابدين” ، ليقدمها لي بعد أن يتمها”..
وهي صيغة لا نعرف منها إذا كان هو الذى اقترح زيارتها، أم أنها كانت هي التى دعته، ونميل إلى الثانية لحياء رامي.
وبدأت قصة الحب ، وكان ستارها تعليم وتثقيف أم كلثوم، فلقد كان رامي يأتي لها بكتاب أو أكثر في يوم الاثنين وهو يوم إجازة دار الكتب ، وفي الأسبوع الثاني يناقشا فيما قرأت..
رامي والتحول إلى العامية
وكان العاشق قد قدم تضحيته الكبرى عندما تحول للكتابة بالعامية وهو الذى كان مخلصا للعربية، وربما كان أحمد شوقي هو الذى شجعه عندما كتب بالعامية لمحمد عبد الوهاب ، لكن أحمد شوقي توقف عند بضع أغان ، أما رامي فلقد تحول إلى العامية حتى لم يعد الناس يذكرون له إلا روائعه بها …
ولا نعرف هل تجاوبت أم كلثوم مع طلب رامي فبادلته حبا بحب أم أنها توقفت عند استثمار هذا الحب ، ويبدو أن أم كلثوم توصلت إلى فكرة مؤداها أنه طالما رامي يحبها دون زواج سيبدع شعره الجميل .. وأنها إذا تزوجت فلن يكون لديه دافع عاطفي لكتابة هذا الشعر، وهي فكرة كانت سائدة في تلك الفترة وربما تكون موجودة حتى الآن ، وقد لاحظت أن أم كلثوم عندما تصل إلى فكرة تؤمن بها ، ولا تغيرها…
وكانت من الأفكار التى تسيطر عليها مثلا حرصها على ألا يعرف أحد شيئا عن حياتها الخاصة ، بل أحيانا عن عملها ، إذ لم تكن تعلن اسم الأغنية التي ستغنيها إلا أمام الجمهور…
شهادة أم كلثوم حول رامي
وقصة الحب في تلك الفترة أشد غموضا من أي وقت آخر ، وإن كنا نتخيل أنها “معركة” بين شاعر يقدم أرقى الأحاسيس ولقد “كتبت” أم كلثوم عن رامي في شهادتها أنه: مجموعة روحانية من الأحاسيس الملهمة والثورة العميقة المكبوت، والهدوء الرزين ، مع ظرف نادر” وخيال محلق وخاطر سريع ، وإخلاص لذات الإخلاص …
وأنا لم أعرف أحمد رامي عن قرب لكن ما قالته أم كلثوم هو ما قاله كل عارفيه في سطور محددة .
ولم يقدم الشاعر أحاسيسه فقط ، بل قد أستاذيته التي صنعت في النهاية مع أستاذية القصبجي ، أعظم مطربة في الشرق ، ولكن يبدو أن فكرة العلاقة الروحية سيطرت على أم كلثوم …
سار أحمد رامي رحلته مع أم كلثوم فكتب أو أغانيه بالعامية:
خايف يكون حبك ليه
شفقة على
وأنت أملي في الدنيا دي
ضي عيني
أم كلثوم ملحنة لأغاني رامي
وفي السنوات الأولى غنت له 14 أغنية في عام واحد “1926” وفي عام آخر غنت له خمس أغان منها اثنتان من تلحينها (1928) ولقد لحنت أم كلثوم ثلاث أغان كلها من تأليف رامي ، وفي عام آخر غنت له 17 أغنية “1931” وإذ عرفنا أن الأغنية تحتاج إلى نقاش في كلماتها ، وتحتاج إلى مراحل في التلحين وإلى تجارب كثيرة حتى تخرج إلى الناس، فمعنى هذا أنهما كانا يقضيان معا وقتا طويلا .. ثم كانت القارعة ..
فلقد احتفل معهد الموسيقى العربية بأم كلثوم وكان قد احتفل من قبل بمحمد عبد الوهاب ، وألقى أحمد رامي قصيدتين في المناسبتين ، ولكن سرى تعليق بأن القصيدة التي كتبها رامي في أم كلثوم هى نفسها التي كتبها من قبل في عبد الوهاب مع تغييرات طفيفة ، ونشرت روزاليوسف كاريكاتيرا بهذا المعنى …
وبالطبع صدمت أم كلثوم صدمة كبيرة فلقد كانت تؤمن أن أحمد رامي هو المتعبد في محرابها ، فضلا عن أن المنافسة بينها ويبن عبد الوهاب كانت قد اشتدت، فلا منافس أمامها غيره …
ويبدو أن أم كلثوم تجاوزت الحدود المعقولة في غضبها من رامي، الأمر الذى جعله يقطع علاقته بها ، وعندما سافرت في عام 1935 إلى فلسطين لتقيم حفلات في القدس ويافا وحيفا أيام كانت عربية رفض أن يودعها ، وحتى عندما عادت ودخلت المستشفى وأجرت عملية الزائدة الدودية التي أجراها لها الجراح الكبير الدكتور على إبراهيم وكانت آنئذ عملية خطيرة ، لم يزرها إلا عندما سألت عنه وشكت أنه لم يزرها …
وعادت قصة الحب لكن بدستور جديد ، لقد تزوج رامي من عطيات التي حذرها الجميع من أن رامي يحب أم كلثوم ، فقالت ومن لا يحبها؟!!… لقد قبل كل منهما ألا يتجاوز هذا الحب حدوده ليتطور إلى الزواج …
رامي رقم واحد
ورغم أن أم كلثوم عرفت وغنت لشعراء آخرين مثل بيرم التونسي وعبد الفتاح مصطفى وطاهر أبو فاشا وعبد الوهاب محمد وغيرهم إلا أن أحمد رامي ظل رقم واحد في فنها ، وحسب الدراسة اتي أجراها المركز القومي لتوثيق التراث الحضاري والطبيعى كتب 46.7% من أغانيها، أي النصف تقريبا ، والشاعر الذى يليه مباشرة هو بيرم التونسي كتب 12.28% من أغانيها.
وكان أحمد رامي مستمعا مثابرا يجلس في نفس المقعد ، وكان يسمعها غالبا مغمض العينين ، وحدث مرة أو مرتين أن تأخر في الدخول إلى الصالة فأعادت ما غنت فهي تغني للناس وله…
واستمرت علاقة الحب بين الوصل والهجر إلى أن تحولت إلى صداقة عميقة.. فلقد أدرك كل منهما أن ما كان بينه وبين الآخر أكبر من أي زواج أو قصة حب …
وفي نهاية 1974 او بداية 1975 زارها في فيلتها بالزمالك ، وقضى معها وقتا طويلا يستعيدان ذكريات الماضى، وربما تحدث عن الأصدقاء الذين رحلوا في رحلة الحياة : محمد القصبجي الذى بدأ معهما الرحلة والذى لحن لأم كلثوم أكثر من 22% من أغانيها ولم ينافسه سوى زكريا أحمد ولم يسبقه سوى رياض السنباطي، وربما تحدثا عن غير القصبجي ، ومن يدري ربما استرجعا قصة حبهما ، وأبديا الرضا أو عدم الرضا …
وعندما جاء وقت الرحيل رفضت أن تتركه وصحبته في سيارتها إلى حدائق القبة لتقضي معه أطول فترة ، وكأنه لقاء وداع ، فلقد زاد المرض عليها بعد ذلك حتى جاءت النهاية فرحلت أم كلثوم في 3 فبراير 1975 ، ورغم الحزن الذى ساد الجميع، إلا أن البعض التفتوا ليروا أحمد رامي رفيق رحلة العمر ، وليحاولوا معرفة مدى ألمه .
وقال رامي:
ما جال في خاطري أني سأرثيها
بعد الذى صغت من أشجى أغانيها
قد كنت أسمعها تشدو فتطربني
واليوم أسمعني أبكي وأبكيها …
وقصص الحب تنتهي عادة أما قصة حب رامي وأم كلثوم فهي قصة باقية على الأقل بتلك الأغاني التي مازالت تسحرنا وتدفع الفرح إلى قلوبنا والدموع إلى عيوننا..
اقرأ أيضًا:
قصة زواج ليلى مراد من أنور وجدى
معركة الفلفل والكمون بين ليلى وأنور