“الفتوة” اختير في أكثر من استفتاء لاحق كواحد من أهم 10 أفلام قدمتها السينما المصرية في نصف قرن ، وقد وصفته الناقدة الألمانية أريكا ريشتر بأنه عمل رائد متميز وفريد ، وأضافت أنه العمل الذى تخطيت به الحدود المحلية إلى العالمية ، “غنه ليس أهم أفلام مخرجه فقط بل من أهم أفلام السينما العربية كلها” .. على حد قولها …. “هو فيلم يجمع بين التحليل السياسي المتقدم والأصالة الفنية ويوحد بينهما… لذلك فهو فيلم خاص لم يتكرر مثله”، على حد قولها كذلك .
وقد جاءت الفكرة في أثناء دردشة عامة في شركة إنتاج فريد شوقي عن أن سعر الطماطم أصبح في القمة ، وقيل إن الطماطم مجنونة ، وقيل إن السبب جشع التجار، وقيل إن الوسطاء هم السبب ، ثم جاءت سيرة قضية زيدان التي كانت الصحف قد نشرتها من قبل ، وزيدان كان يطلق عليه “ملك سوق الخضار” ، وكان يتحكم في أسعار الخضار والفاكهة ويلعب بها دون أن يجرؤ أحد على وقفه عند حده ، وثبت أن الملك فاروق وحاشيته كانوا يدعمونه مقابل أموال يدفعها ، فقلت: ما رأيكم أن نعمل فيلما عن سوق الخضار والعصابات التى تتحكم فيه ، وتحمس الآخرون .
فرحت أدرس قضية زيدان ، وطلبت من محمود صبحي أن يكتب المعالجة السينمائية، ومحمود صبحي أديب موهوب كان يشرف على الصفحة الأدبية في جريدة “المصري” وتحول ما كتبه إلى سيناريو على يد نجيب محفوظ والسيد بدير . ولم أكتف بالسيناريو وإنما كنت أذهب إلى سوق الخضار في حي روض الفرج قبل الفجر لمدة شهر يومياً حتى أعرف طبيعة ما يجري في هذا العالم. وفي يوم انتبهوا إلى وجودى وتصورا أنني بوليس سري فأخذوني إلى معلم من المعلمين الكبار وسألني : ما الذى تفعله في السوق؟ فقلت إنني أتفرج على مزادات بيع الفاكهة والخضار.
وفي اليوم التالي وجدوني أيضا وكادوا أن يفتكون بي لولا أن تدخل محرر من جريدة “أخبار اليوم” كان في السوق صدفة وأنقذتني منهم معرفته بشخص ، فساعدوني كثيرا وسمحوا لي بتصوير لقطات متنوعة دون تدخل ، وقد ساعدتنا هذه اللقطات في إقناع المتفرجين والنقاد بأن الفيلم صور في أماكن السوق الحقيقية وهو ما لم يحدث لأن التصوير كان في الاستديو لا في السوق ..
لقد نقلت السوق إلى الاستديو بدقة ، وكانت عملية صعبة لكنني تغلبت عليها بسبب حبي للفيلم وبسبب وجود مهندس ديكور فنان ومبدع هو شادي عبد السلام .
ولد اسمه شادى عبد السلام
كان شادي عبد السلام يسكن بالقرب مني في حي الزمالك ، ولم أكن أعرفه ولا كان غيري يعرفه ، وفي أحد الأيام اتصل بي تليفونياً وقال: أنا اسمي شادي عبد السلام تخرجت في كلية الفنون الجميلة ، أريد أن أشتغل معك في السينما في الديكور، ممكن تجربني و”المية تكدب الغطاس”؟
وفي اليوم نفسه قابلته وأحسست أنه فنان موهوب وحساس ، وقررت أن يعمل معي في فيلم “الفتوة” لكنني قلت له: “أريد أن أتحدث معك بصراحة ، إنك لو دخلت مباشرة في هذا العالم لن يتركوك تمر … إنهم يشعرون بحدة المنافسة في الديكور والإكسسوار ومن ثم سيحاربونك بضراوة ، أدخل هذا العالم كمساعد في شؤون الديكور والإكسسوار فلن يشعروا بك ولن ينفروا منك “.
وبالفعل بدأ حياته السينمائية في “الفتوة” على هذا النحو ، كان يلتقط الصور الفوتوغرافية ويهتم بثياب “حُسنة” أو تحية كاريوكا ، وكان يقدم ملاحظاته الواعية والفنية والحساسة بيني ويبنه ، وفي نصف الفيلم عرف البعض المسؤول عن الإكسسوار عليه ، فجاء غاضبا وسألني:
– ما الذى يفعله هذا الشاب هنا ؟
– قلت: إنه مساعدي، أليس لي الحق في التدخل في الإكسسوار؟!
– نعم ، أنت المخرج .
– وأنا لا وقت عندي لمراجعة الإكسسوار والديكور ، وهو مندوبي في هذه العملية.
والحقيقة أن أخلاق شادي عبد السلام الدمثة جعلته يصادق الجميع ، وحساسيته المفرطة جعلته لا يصطدم بأحد ، وهكذا كانت بداية هذا الفنان السينمائي الكبير الذى أبهر العالم كله بإحساسه المصري بالفيلم المعروف “المومياء”.
لماذا شعر فريد شوقى بالندم بعد نجاح الفتوة؟!
قام ببطولة الفيلم فريد شوقي الذى كان المنتج أيضا ، ولكنه كمنتج كان يتحمل أكثر فيلم “بورسعيد” الذى كان يمثله ويموله في الوقت نفسه وكان يعد الأهم بالنسبة إليه ومن ثم كان قليل الإنفاق على “الفتوة”، كما أنه كان يأتي متعباً من الفيلم الآخر ، وهذا ضاعف من مجهودي ،خصوصاً أن “الفتوة” يعتمد على المجاميع وفيه مشاجرات ومتنوع الديكور، وهنا لابد أن أعترف بالدور المبهر الذى لعبه المصور وديد سري .
وعندما عُرض “الفتوة” ونجح بقوة ، أحس فريد شوقي بالندم على سوء تقديره ..
وقد كانت في القاهرة في ذلك الوقت ندوه ثقافية تحظى باحترام كبار المثقفين تُعرف باسم “ندوة مختار” نسبة إلى المثال والنحات الأشهر محمود مختار ، وفي هذه الندوة عُرض الفيلم وناقشوه في حضور وزير الثقافة وقتها فتحي رضوان الذى شاهد الفيلم وعده أحسن فيلم مصري ، وفي ذلك الوقت أيضاً جاءت لجنة من السينمائيين التشيكوسلوفاكيين لاختيار فيلم مصري يُعرض في مهرجان “كالروفي فاري” الذى كان يقام لأول مرة ، وراح أعضاء اللجنة يشاهدون العديد من الأفلام المصرية ولم يختاروا منها سوى “الفتوة” وقالوا إنه الفيلم المصري الوحيد الذى يعبر عن الواقع ، وبمستوى فني مرتفع وبمستوى سياسي واضح ، ولم يترددوا في القول بأنه سيأخذ الجائزة الأولى بلا جدال ..
قبل السفر بالفيلم إلى “كارلوفي فاري” اعترض وزير الثقافة فتحي رضوان ، وطلب أن يسافر الفيلم إلى مهرجان برلين وأن يسافر إلى “كارلوفي فاري” فيلم آخر كان يعد من الأفلام الملونة الأولى . وحاولت أن أشرح له أن المهرجان له طبيعة خاصة وأن “الفتوة” مناسب لـ “كارلوفي فاري” لا برلين ، ولكنه أصر على رأيه فلم يفز أحد في المهرجان .
فلسفة السينما فى حكاية هريدى والمعلمة حُسنة
يبدأ فيلم “الفتوة” بعبارة :
“وقعت حوادث هذه القصة في أيام كانت فئة قليلة تتحكم في أرزاق الناس وأقواتهم”. ثم نرى هريدي (فريد شوقي) الفلاح الصعيدي الفقير وهو يصل إلى القاهرة بحثا عن الرزق في سوق الخضار مثل معظم بلدياته، ولكن بدلا من العمل يأخذ صفعة على قفاه ، والصفعة هي أول ما يتلقاه كل وارد جديد كتأشيرة دخول مملكة الخضار. ويحاول هريدي أن يرد الصفعة لكنه يمسك نفسه عملاً بنصيحة أحد أقاربه . وهنا تبرز المعلمة حُسنة (تحية كاريوكا) وتسخر منه:
– صحتين وعافية على بدنك يا تلح .
– صحتين على إيه؟
– على القلم اللي أتلزقته على قفاك بقى واحد طويل عريض يفصلوا منه اتنين يتلزق قلم على قفاه وما يشيلش إده ويردوهله تاني .. وأنت بخيبتك القوة دي عايز تاكل عيش هنا.. والله ما أنت معمر في السوق.
– ليه يا ست؟
– عشان اللي عايز يعيش وسط الديابة لازم يبقى سبع ويرد بدراعه الضربة ضربتين .
يرد هريدي الصفعة ويستوعب الدرس ثم يبحث عن فرصة عمل في السوق ، ولا تأتي الفرصة إلا عندما يمرض حمار أحد الباعة الجائلين ، ويعمل هريدي بدلاً من الحمار وهو يجر العربة . وينجح هريدي في جمع القليل من المال ويحاول أن يجرب حظه في التجارة ويشترى بعض البطيخ من أبو زيد (زكي رستم) ملك السوق، ولكنه يفشل في تجربته التجارية الأولى لأن البطيخ ردئ كأنه “لفتا” ويتعلم هريدي اللعب في السوق وخدعه ويفهم قانونه ويحاول الإمساك به..
ويتعلق هريدي بُحسنة التاجرة الجريئة الحلوة التى تصبح زوجته في ما بعد ويحاول معها ومن خلال أصدقائها التجار أن يكسوا احتكار أبو زيد ، واشتروا الطماطم من خارج نطاق نفوذه ، من قرية قريبة ليبيعوها بسعر أرخص في السوق . ولكن رجال أبو زيد يجهضون المحاولة مستخدمين القوة التى يحمي بها أبو زيد نفسه ويفرض بها قوانينه وسطوته واحتكاره . ويتعلم هريدي من خطته ، يتعلم أن الحرب لا تفيد وأن عليه أن يلجأ إلى الخداع والمكر .
وتقرب من أبو زيد ووضع نفسه في خدمته ، ومن خلال اقترابه منه يعرف أسراره ويحاربه في صفقات ومزادات مزارع الفاكهة .
إنه يعرف هذه الأسرار ويرسل صديقه ليدخل المزاد ضد أبو زيد الذى يضطر إلى أن يدفع مبالغ أكثر من المال حتى يرسو عليه المزاد أو يدفع بعض المال لصديق هريدي حتى يترك المزاد . ويتقاسم هريدي وأصدقاؤه مال أبو زيد ، وتتكرر اللعبة حتى يدب الشك في صدر أبو زيد ، ثم يتأكد الشك فيقرر أبو زيد التخلص من هريدي الذى ينجو من محاولة القتل ، ويُقبض على أبو زيد بسبب تهربه من الضرائب ويصبح في السجن ويتولى هريدي عرش السوق ، لكنه يكرر ما كان يفعله الملك المخلوع : يرفع الأسعار، ويحتكر الثمار ، ويتقرب من القصر الملكي والحاشية ليسهل صفقاته ، ويدفع مبلغ من المال يحصل على رتبة البكوية، وينفر من زوجته حُسنة التي لم تعد تناسبه ولم تعد تناسب وضعه الجديد في المجتمع . وفي أحد المزادات تتكرر اللعبة القديمة وتقف حُسنة أمامه وترفع الثمن حتى يعود إلى رشده ، ويظهر أبو زيد بعد أن يخرج من السجن ويحاول استعادة عرشه القديم، وتدب بينهما خناقة حامية سرعان ما تستعل في السوق كلها وتأتي على كل ما فيها، ويُقتل أبو زيد ويصبح هريدي عاجزاً… وفي حطام السوق يدخل صعيدي جديد (محمود المليجي) خام … وصل لتوه من القرية… ليفتش عن رزقه في السوق… فيتلقى صفعة على قفاه، نفس الصفعة القديمة، وتخرج تاجرة صغيرة (هدى سلطان) لتشرح له معنى البداية ، وينتهي الفيلم .
لقد أردت القول إن القوة يجب أن تتوافر في من يدخل حلبة الصراع الاقتصادي والاجتماعي … عليه أن يبدأ قويا صبورا كما بدأ هريدي كالحمار للعربة . ولا فرق بينه وبين الحمار … والتشبيه واضح … من يريد أن يكون قويا وثريا عليه أن يبدأ من هنا ، من مرحلة الحمار!
وأردت توضيح الشخصيات مع نمو المجتمع واستفادة كل جيل من الجيل الذى سبقه، فهو يركب سيارة حديثة متجاوزة لأبو زيد الذى كان يستخدم الحنطور، وهريدي لا يكتفي بالثروة مثل أبو زيد وإنما يضيف إليها البكوية التى تفتح له أبواب الارستقراطية التى تمنحه سلطة والسلطة تمنحه المزيد من الثروة .
وهذا ما جعل نهاية الفيلم مفتوحة… فالمشكلة ليست في الأشخاص وإنما في النظام وما دام هذا النظام فإن الدائرة تدور واللعبة ستتكرر والمأساة ستستمر ، والحل ليس في تبديل الأشخاص وإنما في تبديل المجتمع … تغيير الأشخاص هو استبدال طاغية بطاغية آ خر ، ومن ثم لابد من الثورة على النظام كله.
عملت دكتوراة فى هذا الفيلم !
وقد لعب فريد شوقي دوره ببراعة ، انتقل في الأداء من السذاجة الشديدة إلى القسوة الشرسة ، ومن الاستسلام للفقر إلى مباراة الحياة الارستقراطية، وأمامه كان زكي رستم عملاقا كالمعتاد … إن زكي رستم يتقمص دوره ويعيش فيه … وهذا سر براعته في أدوار متنوعة ، متناقضة ، يصعب على الممثل أن يؤديها كلها .. معلم في سوق الخضار .. باشا .. لص .. فقير .. موظف … متواضع .. إنه لا يتعامل مع التمثيل كأنه صنعة .. ويرفض التصوير إلا إذا أحس الشخصية كان يطلب مني دائما أن أعطيه 10 دقائق قبل كل مشهد حتى يندمج .
وحدث أن أوقف تصوير أحد مشاهد الفيلم وصرخ: استوب ، كان المشهد هو مشهد إدخال هريدي ثلاجة الفاكهة لقتله في الداخل في البرودة بعد أن اكتشف خيانته… إنه يقول لهريدي: “قوم هاتلك شوي فاكهة من التلاجة يا عريس”. وبعد أن يدخل يغلق الباب ويقول : “يا خاين … يا دون .. “، وقبل أن يكمل زكي رستم عبارته وجدناه يطلب إيقاف التصوير!
كنا في قلب المشهد وتعجبنا من طلبه . وسألته: ليه يا أستاذ زكي؟ فقال في غضب: شوف…
كان فريد شوقي قد خرج من ديكور الثلاجة وجاء للفرجة على زكي رستم وهو يكمل بقية المشهد لأنه كان يحبه كممثل ، فوقف فريد شوقي إلى جواري وأنا وراء الكاميرا ووقعت عين زكي رستم عليه فأوقف التمثيل، وقال: “كيف أمثل وهو أمامي والمفروض أنه داخل الثلاجة؟!” واندهشت وتساءلت:
– إيه يعني؟
– مش ممكن أبداً؟
واضطررنا إلى أن يعيد المشهد بعد اختفاء فريد شوقي من البلاتوه .
ورغم أن “الفتوة” داعب أحلام السياسيين في أن تساهم السينما في تغيير المجتمع، فإنني لم أتفاءل .. فحتى تفعل السينما ذلك يجب أن يشكل صناع الأفلام تياراً واحداً، كما حدث في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا لم يحدث في مصر ، فكل مخرج هو اتجاه بمفرده ؛ يوسف شاهين غير عاطف سالم ، وكمال الشيخ غير خليل شوقي ، وحسام الدين مصطفى غير بركات … كل منا يعمل بمفرده ، لا فكرة تجمعنا ولا أسلوب ولا حزب سياسي ، ولا يكفي أن أكون واقعيا حتى أفرض الواقعية بمخرج واحد في هذا الاتجاه … لا يكفي ، خصوصا أنني حرصت على أن لا أقدم سوى فيلم واحد في السنة حتى يتاح لي تجهيز كل شئ ودراسته بدقة.. إنني أتعامل في الفيلم كأنني أدرس للحصول على الدكتوراه …
لذلك كان يكفي في “الفتوة” أن أشير في النهاية إلى أن التغيير يجب أن يشمل النظام لا الأفراد، أما السؤال التالي: كيف؟ فهذا ليس مشكلتي،إنها مشكلة الجماعات السياسية والمفكرين وأصحاب القرار .
وقد حرصت على أن يقوم بلقطة النهاية ممثل نجم كبير مثل محمود المليجي ، مع أنها لقطة يمكن لأي كومبارس أن يؤديها ، وكانت معه نجمة أخرى هي هدى سلطان ، وذلك لتأكيد المعنى الذى توصلت إليه في نهاية الفيلم .
وذات يوم وبعد عدة سنوات على عرض “الفتوة” اتصل بي تليفونياً فريد المزاوي ، وكان مسؤولا عن المركز الكاثوليكي للسينما ، وقال:
-تحب تشوف “الفتوة” إيطالي؟
-تقصد ترجمة الفيلم إلى الإيطالية؟
-لا … أقصد لطشوا فيلمك وقدموه بالإيطالية .
-أين الفيلم؟
-يُعرض في سينما “أوديون”.
-وتاريخ إنتاجه؟
-سنة 1958 .
-يعني بعد “الفتوة” بسنتين .
-على الأقل .
-واسمه “سنعيد التحدي” ومخرجه روزري ، إنه من أشهر مخرجي إيطاليا .
-نعم .
وشاهدت الفيلم .. ووجدته مثل “الفتوة” تماما بما في ذلك محاولة قتل البطل ليلة زفافه ، وأغلب الظن أن المخرج الإيطالي اقتبس “الفتوة” عندما عُرض في مهرجان برلين ، وحمدت الله أن فيلمي كان يسبق الفيلم الإيطالي وغلا اتهموني بالسرقة … ولم يشأ أحد أن يشير إلى هذه الواقعة التى تؤكد أن الطريق إلى العالمية يبدأ بالمحلية .
اقرأ أيضًا:
صلاح ابو سيف لعادل حمودة شباب امرأة ..جزء من تجربتى العاطفية فى باريس!