دخلنا المنزل ، كانت خطواتي تتراجع إلى الخلف ، كنت مثقولاً مذعوراً كأنني لم أدخل هذا المكان من قبل ، رغم أني دخلته عدة مرات . فقد كنت أظن أن الصالة هي المرسم ، وأن التكديس والإهمال هنا شئ طبيعي في حياة رجل مُسنّ وفنان مُهم، لكن عندما شاهدة بقية حجرات المنزل ، واستنشقت رائحة المكان الكريهة، أحسست كأنني لم أرَ هذا المكان من قبل .
تعالت صرخات عمال شركتي الصغيرة لأعمال الديكور الذين حضروا معي للمساعدة ، وصعقت ابنته من هول ما رأت . نعم لقد دخل الزمن هنا ، ولم يغادر المكان منذ 82 عاماً عاشها الفنان . لقد دخل الزمن من الشباك فاستقر ولم يخرج ، افترض أرض المرسم والبيت ، وبعثر أوراقه ، ونشر رائحته على أحبال غسيل الذاكرة الحية لدينا في هذه اللحظة .
ففي كل مكان قُصاصات ورق مُدوَّن عليها أفكار رافع ، حتى ورقة لف قوالب السكر الصغيرة كان يكتب عليها ، ويدون علاقاته وأحزانه وأفراحه ، أما أكياس الملح فكتب عليها مُرّ الكلام ، وأوراق البنك كتب عليها آراءه في الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية ، حتى كرتون البيتزا وقصاصات الصغيرة لم يُلق شيئا منها في الزبالة .
كل شئ أمامنا : “حبه وصراخه ، معاركه وأحلامه ، مشاريعه وأهدافه”. أوراق تحدد ملامح الشخصيات التي تعامل معها رافع ، كل شخص له ملف دون فيه وجهة نظره عن هذا الشخص . فأصبحت تلك الملفات دلالات دامغة على فكره العام تجاه الناس . ملفات كثيرة لأسماء عديدة ، وأنا منها . مرة بها سب وقذف ومرة بها عدل واتزان .. لم أجد مكاناً للحب والمشاعر في هذه الملفات على الإطلاق .
حتى الطعام كان يلفه في أوراق ويضعه في الثلاجة بتاريخ الطهي واسم البقال أو السوبر ماركت والعنوان الذى اشترى منه. تكرر اسم زوجتي كثيراً في أوراق الثلاجة، مثبتا على بعض الأطعمة وبجوار اسمها خيالات الفنان ومُرّ العبارات .
أسرار وأسرار اختبأ رافع وراءها طيلة حياته . جاء الوقت ليرفع عنها الحجاب وتحدد وتكشف أدق التفاصيل من معالم شخصية كانت غامضة لكل البشر. لم يكن ذلك فقط ما يحيوه منزل رافع ، فهناك المكتبة التى حوت كمية كبيرة من فضلات (الحمام) الذى كان يحبه لدرجة العشق ، ويرسمه كل الوقت . فضلات تعطي الكتب التى تصرخ وتئن بصوت زوم الحمام . أما الأتربة فغطت كل شئ ، وساوت بين الثمين والرث ، شئ لم يتخيله فنان سريالي ، فكل شئ قد يدور في العقل الباطن لفنان سريالي وجدناه اليوم واقعا حين دخلنا منزل رافع .
هنا تجسدت السريالية ، بدلت أفكارها ؛ حتى المطبخ يصرخ من أدواته التي لم تنظف منذ زمن وصنبور الماء يقطر دمعا ودما والعتمة تغطي المكان ، فلقد انقطع التيار الكهربائي .
لوحة الزمن
لم أجد في هذا المكان شيئاً نظيفاً سوى الكرسي ، يبدو أنه كان المكان الأخير الذى استقبل جسد رافع على مر السنوات الأخيرة . فكان يستخدمه للنوم والراحة؛ لابد أنه لم يكن يعرف النوم إلا لبضع ساعات بعد أن كان يغادر منزلي كل ليلة .
الحزن يخيم على كل شئ ويحدد شكل حياته وكأن كل مبدع مبصر يرسم طريقه منذ البداية. فزمان سمير رافع 82 عاماً مرسوم في لوحة غريبة رسمها حين كان عمره ستة عشر عاماً، وهي “لوحة الزمن” . هذه اللوحة العبقرية التى عُرضت في أول معارض السرياليين المصريين، وكتب عنها جورج حنين: “لوحة الزمن رجل كهل ينظر إلى ماضيه ويتعجب”.
نعم، في منزل سمير رافع، جلس الزمن ينظر كيف رسمه سمير رافع لدرجة العشق. يكف رسمه هذا المبصر، وكأنه كان ينظر في مرايا عمره القادم . وكيف افترش طريقه أمامه ومشى عليه كي تشبه حياته تلك اللوحة التى رسمها سمير رافع ابن الثقافات العجيبة .
ولد سمير رافع لأب محام مصري وأم لبنانية ، أب مسلم وأم مسيحية ، أب شديد حاسم وأم أكثر تسامحاً وحباً حسب وصفه الدقيق . تناقض ثقافي ، أب يصطحبه للشيخ إسماعيل في الكتاب لتعلم اللغة العربية والقرآن وأم تأخذه للكنيسة وتعمده وتطلق عليه اسم “إسكندر” وتعلمه الفرنسية . مناخ مربك بحجم الغنى والعلم ، بحجم الاختلاف والقوة ، بحجم الصراع والدهشة .
مقهى المدفع Café Le Canon
على مقهى الكانون (المدفع) في ميدان ناسيون الشهير في باريس ، جلست مع المبدع الفنان د. سمير رافع صيف 2001 ، كان الجو حاراً جداً، وتمر من أمامنا البنات الهاربات من ملابسهن ، فباريس في الصيف أمر صعب على المبدعين ومستحيل على العامة لكثرة الموديلات والعاريات الهاربات من ضيق المنازل إلى الحدائق العامة .
بنات تعبر الطريق وتترك أثرا برائحة العطور؛ أما الشبان فيعلنون التمرد على فنجان القهوة الشهير ويطلبون مشروبات أخرى مثلجة؛ مما يثلج صدر العاملين في البار الذين لا يعبئون بالأصوات العالية حولهم؛ فهذا هو الموسم ، المقهى عامر بالشباب العرب . غالبا تجد رواده من العمال المصريين عكس مقاهي باريس الشهيرة مثل: سارة برنار في الشاتيليه ، أو مقهى الأوديون ؛ فسنجد رواده من المثقفين العرب . أما مقهى المدفع في حي ناسيون الهادئ فهو على أطراف العاصمة، وأجبرنا عليه؛ لأنه قريب من منزل د. سمير رافع . حاولنا أن نجلس معا في ركن بعيد نسبياً عن الضوضاء ، وجلسنا نتحدث بحميمية وود في موضوعات عديدة.. وتطرق بنا الحديث لنتحدث عن رافع الإنسان فسألته:
-كيف يرى سمير رافع الإنسان رافع الفنان؟
أجاب: كل فنان درس خلال أعوام آ راء مؤسسي الجماعات الفنية السائدة في مصر من 1938 وأقام معهم علاقات تلمذة وصداقة حتى أصبح الوحيد الذى كان يدعوه الأساتذة إلى بيوتهم أمثال: أحمد يوسف كامل ، أحمد صبري ، أحمد عثمان ، الحسين فوزي وأمين صبحي؛ ومن مدرسة الفنون الجميلة يوسف العفيفي ، سعد الخادم، عبد العزيز القوصي وغيرهم من المعهد العالى للتربية؛ وحبيب جورجي مؤسس جماعة الفن الشعبي المصري، وحامد سعيد الذى بدأ نشاطه التنظيري منذ 1942 بإلقاء ثلاث محاضرات في الفن، ثم جورج حنين الذى بدأ منذ 1938 تكوين جماعة الفن والحرية ، وكان من تلاميذ يوسف العفيفي سابقاً في مدرسة السعيدية ، مثل: سعد الخادم ، وراتب صديق ، وكامل التلمساني .
ويستكمل رافع: “نشأت صداقة بيني وبين بعض الفنانين الذين كانوا يعتبرون نماذج للفن أسير على خطاهم ، مثل: محمود سعيد وناجي أنجلو ديريز، وكان هدفي من كل هذه العلاقات دراسة الأسس الفكرية التى كانت تتكون منها الحركة الفنية في مصر، والتي كان الاختلاف بين بعضها يصل أحياناً إلى التناقض .
فلم أكتف بمشاهدة الأعمال في المعارض؛ إذ كنت قد قررت منذ ذلك العام 1938 أن أصبح فناناً بعد أن اكتشفت عجزي عن أن أصبح طبيباً أو مهندسا والتحقت بمدرسة الفنون الجميلة . أشاع البعض أني وصولي أريد التقرب من الكبار للوصول إلى المراكز الكبيرة، والحق أني ظللت في عالم الفن مكتفياً بالتدريس في كلية الفنون الجميلة”.
-عكاشة: “نعم، فلوحتك (القواقع) التى فازت بالميدالية الذهبية في صالون القاهرة 1942 تدل على ذلك ، وتؤكد وعيك وامتلاكك فكرا مميزا في مرحلة مبكرة”.
رافع: “نعم، ولقد أسست عام 1940 تحت إشراف أستاذ شفيق رزق جماعة الفن المعاصر مع إبراهيم مسعودة، كما يوسف، سالم الحبشي ومحمود خليل . وهي الجماعة التى انضم إليها بعد ذلك في عام 1946 حامد ندا وعبد الهادي الجزار بفضل حسين يوسف أمين الذى رشحه يوسف العفيفي عام 1945 لتنظيم المعرض الثالث للجماعة . وكان يكبر الأعضاء بخمسة عشر عاما ؛ وذلك لعمل الدعاية لنا عندما فشل الأعضاء في إقامة المعرض ذلك العام . وقد رجع اختيار الليسيه فرانسيه لتنظيم المعرض 1946 إلى الفنان أنجلو ديريز الذى كان أستاذاً للرسم والتصوير في الليسيه ، فأقنع المسئولين بترك قاعاتها تحت تصرف الجماعة”.
وخلافا لما شاع بعد ذلك منذ الستينيات ، توقفت المعارض بعد أن وضعت حدا رسميا في المحكمة لنشاط الجماعة عام 1954 ، فإن حسين يوسف أمين كان فقط أستاذاً لحامد ندا وعبد الهادي الجزار في مدرسة الحلمية ولم يكن أستاذا للأعضاء الأساسيين في مدرسة فاروق الأول الثانوية النموذجية الذين تخرجوا منها قبل أن يدرس الرسم فيها في النصف الثاني من العام الدراسي 1942/1943 . وذلك باستثنائي فقد تلقيت منه ثلاث حصص رسم في أواخر ذلك العام. وفي واقع الأمر، من المعروف تاريخياً أن حسين يوسف أمين لم يتعرف على أعضاء الجماعة إلا في عام 1945 بعد إنشائها في 1940، وبعد إقامة معرضين عامي 1941 و1943 اللذين نظمتهما بالتعاون مع الأستاذين شفيق رزق ويوسف العفيفي . وبعد ذلك تم الاستعانة بحسين يوسف أمين للاستفادة من قدراته الدعائية البارعة .
-وماذا عن رسوم الشخبطة التي سجل عليها اسم أكاديمية المعاصر عام 1945؟
عزيزي عبد الرازق، الرسوم بالشخبطة التى تشير إليها مؤرخة في عام 1943/1944 وليس عام 1945 . ولا أدري من أين جاء هذا التاريخ الأخير، اسم الأكاديمية هو أكاديمية المعاصر، ودامت بين عامي 1942 و1943 وأغلقناها بعد المعرض الثاني 1943 لجماعة الفن المعاصر في قاعات اتحاد أساتذة الرسم. ولم يكن حسن التلمساني معنا وقت إنشائها بل التحق بها عام 1943 لدراسة الرسم والتصوير. كتب إلى صديقه الإيطالي سيفريني ، الفنان المستقبلي، رسالة نشرت بعد ذلك بأعوام مقاطع منها في جريدة لوموند ، قال فيها إن سمير يستخدم عالمه الشخصي المحلي لإنتاج لوحات ذات صفة عالمية .
وبالرغم من أن كامل زهيري قد عرف بأمر هذه الرسالة في الجريدة الفرنسية فإنه رفض الكلام عنها في أعمدته اليومية، ولم أحاول استخدامها للدعاية سواء في مصر أو الخارج ؛ ولكن السفارة الفرنسية في الجزائر أشارت إليها في كتالوج أحد معارضي ونقلت عنها بعض السطور . ويحتفظ المؤرخ أندريه شاستل في أرشيفه بالخطاب الأصلي وكذلك خطاب سيفيريني .
أعتقد أن هذا التمكن من الرسم الخطي قد اكتسبته منذ كنت أدرس في الأزهر بين عام 1931 وعام 1935 ، حيث علمني أساتذتي كيف أتمكن من الأقلام لإجادة الخطوط العربية كالنسخ والرقعة .
يصمت رافع للحظات ، مستغرقا في ذكرياته ، ثم يستكمل حديثه قائلا : “أستاذة الفنون الجميلة كانوا يسمحون لي بالعمل في أقسامهم دون أن أكون مقيدا رسميا فيها؛ بل كنت مقيدا فقط في قسم الفنون الزخرفية . ففتح لي الحسين فوزي باباً في قسم الحفر وقسم التصوير ، وأمين صبحي قسم الفرسك ، وأحمد عثمان قسم النحت. وكنت ألقي محاضرات تاريخ الفن في جميع الأقسام بالكلية”.
مصر المناطق
يضيف الفنان سمير رافع: المناطق التى كنت أزورها في مصر للقاء أساتذة الفن والفنانين والأصدقاء هي : “المطرية” يوسف كامل ، و”المرج” أحمد عثمان، و”روض الفرج” حامد سعيد ، و”طريق الهرم ترعة الزمر” حسين أمين، وكانت تلك الزيارات عادة ما تكون يوم الجمعة .
فى عام 1939 بالقاهرة قرأت كتابا لهنري ميشو بعنوان: ” Lointain interieur” حيث كان يعمل لطف الله سليمان وهنري ميشو ومصور بلجيكي ، كانوا يتناولون المخدرات لاختراع عوامل سريالية، وكان كتابه مهما، وغير أشياء عديدة عندى، أعرت الكتاب لحسن التلمساني عام 1947 ، حيث بدأ يتعلم في مرسمي بالقلعة الرسم والتصوير في عام 1939 حتى 1946 .
-وماذا عن معارضك في تلك الفترة؟
كانت معارض رسومي منذ 1939 كتالى: معرض نوفمبر 1943 في اتحاد أساتذة الرسم في القاهرة ، ونظمه يوسف العفيفي . منذ 1939 معارض مستمرة في : مكتبة قطان، ومعارض متقطعة في مكتبة لطف الله سليمان ، ومعرض في ديسمبر 1942 ويناير 1943 في مبنى أكاديمية الفن المعاصر بالفجالة ، نظمه شفيق رزق الذى شجعنا على إنشاء الأكاديمية في 1942 . كامل التلسماني ، راتب صديق، سمير رافع معرض في فبراير 1946 في الليسيه الفرنسية، نظمه أنجلو ديريز، معرض في ديسمبر 1944 ، برسومي من عام 1938 إلى 1944 في الليسيه نظمه أنجلو ديريز المدرس في الليسيه .
بلاس ديتالي
في هذا اليوم قررت أن أصطحب دكتور سمير رافع إلى مكان آخر خارج منطقة ناسيون؛ فسرنا في اتجاه الباستيل الميدان الشهير ، والذى سقط أشهر معالمه عام 1789، م سجن شهير ليتحول إلى أوبرا حديثة تشهد احتفالات أشهر موسيقار عالمي يهودي منوين وغيره . سرنا نتحدث، رافع يتكلم وأنا أنظر إليه، أشعر أن المعلومات تخرج منه وتغادر جسده النحيل ، فيخف وزنه من هموم الزمن، ويزيد وزني من ثقل المعرفة. أسير بجواره على الطريق فتغمرني السعادة؛ لأني أسير على نفس الرصيف بجوار زمان سمير رافع: أرافق صديق جورج حنين، وكامل التلمساني والجزار، وحامد ندا .
أسير بجواره لكني أمشي للوراء فأعود وأسكن زمنا آخر من أزمنة الحداثة المصرية مع شاهد عصر تأسيس مراحل الطليعة المصرية . يسير هو على أسفلت الطريق وأسير أنا على دروب المعرفة ، يسير هو بكل ما يحمل من أفكار وأسير أنا بجواره بكل ما أحمل من عطش لا يروي، وظمأ من طفولة ودهشة.
أحمد الله أني عرفته قبل الرحيل ، ألوم الزمن العدو الذى يسرقنا كبشر؛ يهلكنا في سنوات تجري وتمر، ويرهق عقولنا في التفكير الحي لزمن الثلج الجارح حتى لو كنا في عصر الجمرة الحية .
كنا قد وصلنا الباستيل وشعرت أني قسوت على رافع في السير معي مسافة طويلة؛ فأنا عاشق للمشي في شوارع باريس التي أحفظها عن ظهر قلب . بعد أن وصلنا إلى الباستيل اقترحت عليه أن نأخذ أتوبيس 91 ، ونذهب إلى جوار منزلي في مقهى بلاس ديتالى أو (ميدان إيطاليا) الذى كتب منه سعد الدين وهبه “مذكرات كرات آخر العمر” ، سلسلة مقالات للأهرام في آ خر أيامه . وكنت أتردد عليه في زيارات سريعة مع صديقي د. سعيد اللاوندي .
وصلنا بلاس ديتالى فأشار رافع لي على شارع (موفتار) قائلاً : “في هذا الشارع سكن صديقي توفيق الحكيم ولويس عوض ” .
فقلت له : “نعم، أعرف ذلك إنه أول شارع سكنت فيه في باريس ، سيدي ، وأعرف عنه الكثير، مقهى شعراء إيرلندا ، مسرح بيتر بروك ، والمطاعم اليونانية والإسبانية ، إنه شارع العشاق والمحبين والدارسين في السوروبون . ابتسم رافع في وجهي لما قلته من معلومات ، وهو نادراً ما يبتسم ؛ لأنه كان يقف شريط ذكرياته عند عام 1967 ، لم أفهم سر هذا العام في هذه الفترة ، ولكن فيما بعد عرفت لماذا ارتبط هذا التاريخ بوجدان رافع ، ومحا ما قبله وما بعده ، وكيف أثر هذا التاريخ في حياة رافع .
بعد السير الطويل ، جلسنا على مقهى جميل في التراس الخارجي اسمه مقهى رينوار ، على اسم الفنان الفرنسي الكبير . نظرت لرافع فكان يدهشني فيه شيئان غريبان : حين يخرج المعلومة من تحت قباب أفكاره ثم يبدلها بسرعة قبل أن أحفظها، وكأنه يلعب معي لعبة التنوير والتضليل ، ولا أعرف سبباً لذلك ، غير أنه يلتحف بجلباب الزمن ، حتى لو كان زمناً زائفاً قبل ظهور فجر المعرفة .
كيف تُصنع الألوان وترسم لوحات السرياليين في مصر
بدأت حوارى معه على المقهى بسؤال: د. سمير ، بوصفك باحثاً في علوم التقنيات التشكيلية ، ما الطرق والتقنيات التى تتعامل بها لتحضير ألواح الأيقونات في أعمالك منذ البدايات الأولى ؟ ويكف كان ينظر الجمهور والمتخصصون إليك ؟ وماذا كنت تقدم كفنان وباحث خاصة أنك كنت لا تزال شاباً في السادسة عشرة من عمرك حين تعرفت إلى الشاعر جورج حنين ومؤسس السريالية المصرية ؟
رافع : أولاً يمكنني أن أوضح تكنيك تحضير ألواح الأيقونات عام 1943 التى تتكون من النشا ، نبات الزيزفون (التليو) ، والكلمة الفرنسية مأخوذة عن العربية. يتم اختيار لوحة من خشب شجرة التليو ، ورغم أنها تكون كبيرة جداً فإنه يمكن حملها ونقلها بسهولة؛ لأنها رفيعة ذات سمك متوسط معتدل ، وتكون مكونة من جزأين أو أجزاء ملتصقة ومثبتة في بعضها ، ويشترط أن تكون خالية من العُقد ومستوية جداً ، ولا تميل إلى التقوس ، ويجب صنفرتها عدة مرات لتصبح ملساء السطح إلى أقصى ما يمكن .
ويعود اختيار خشب شجرة التليو لأنه دائم الصلابة ولا يتشقق ولا يجوز استخدامه مباشرة، بعد فصله عن جذع الشجرة؛ بل يجب حفظه تحت حرارة الشمس ليجف تماماً خلال سنوات ، وكلما طالت المدة زادت صلاحية اللوحة ، ويجب على الأقل الانتظار مدة عام ليتسنى مرور الفصول الأربعة عليها، ويعد ذلك تبدأ بمعالجة اللوحة بعد الجفاف والصنفرة ، تغطى بطبقة أرضية للتحضير، بيضاء مكونة من النشا الذى يستخدم لجعل ياقات القمصان صلبة ، فيخلط بغراء الأرانب المستخرج من طبقة معينة من الجلد والأظافر، ولا يستخدم غراء أظافر الحمير؛ لأنه شديد الصلابة ، ويستخدم في لصق الخشب ، وليس فيه الليونة التى يحتفظ بها غراء الأرانب بعد الجفاف ، ثم إن هذا الغراء الأخير أصفر اللون شفاف ؛ بينما غراء أظافر الحمير قاتم اللون يؤثر في بياض التحضير .
وعادة تكون طبقة التحضير الأولى سائلة إلى حد ما ، بحيث لا تكون عجينة النشا والصمغ سميكة ، وبعد جفافها لابد من الصنفرة، ثم تغطى بطبقة ثانية أكثر سمكاً وأقل سيولة ؛ كي تتمكن ألياف الخشب من امتصاص النشا والصمغ تدريجياً ، وهي بحاجة إلى حوالى عشر طبقات أي حوالي سبعة بعجينة طبيعية في سُمكها . ويجب الصنفرة بعد كل طبقة ، ثم صنفرة الطبقة الأخيرة ، وعلى حركات اليد أن تتنوع في كل الاتجاهات أثناء عملية الصنفرة ، الألوان والفرشات ، ويفضل تكوين الألوان ابتداء من البودرة .
–وماذا عن البدايات الدراسية لك في الفنون الجميلة والخبرات الأولى كفنان تُعد من رموز الفن المعاصر في مصر والعالم العربي؟
رافع : العام الدراسي 1942/1941 الخبرة الأولى كانت بالألوان الزيتية ، خلال وبعد إجازة الصيف في عام 1941 حيث أخبرت الأستاذ شفيق رزق عن رغبتي في تجربة التصوير بالألوان الزيتية ، دون ترك الألوان المائية التى لم أكن أشعر بسهولة في استخدامها . كانت حينذاك أنابيب الألوان الزيتية تكاد تكون منعدمة في السوق بسبب الحرب العالمية وصعوبة تجديد الطلبيات . ولكن أحد المصريين كان قد استغل الفرصة وافتتح متجراً لبيع خامات الرسم والتصوير بأثمان معقولة ، وكان يتعاون مع أخيه ومع زميل آخر في صنع ما يمكن صنعه محلياً من هذه الخامات لعمل إنجازات فنية تجذب الأفكار . أول ما اشتريته منه كان خمسة ألوان زيتية من صناعة مصرية ، هي الألوان الرئيسية الثلاثة: الأزرق والأحمر والأصفر ثم الأبيض والأسود . ونصحني أن آخذ كميتين من الأبيض لكثرة استخدامه في الألوان الزيتية . وكانت أولى محاولاتي الزيتية في أواخر إجازة الصيف مستخدماً ما اشتريته دون قيادة أو نصح أحد ، إذ لم يكن بين أساتذتي أو زملائي حينذاك من يستخدم الألوان الزيتية ؛ فذهبت أتخبط في التجارب والخلط واستخدام الأدوات بأنواعها والسكاكين والفرشات … إلخ .
يستكمل رافع: كان والدي يشجعني ، قائلاً : إن أحسن طرق التعلم هي التجربة أولاً قبل تطبيق النصائح ، فمن يريد تعلم السباحة عليه أول الأمر أن يُلقي بنفسه في الماء ويتخبط حتى لا يغرق . وتأتي بعد ذلك مرحلة ثانية ، وهي تطبيق نصائح المعلم؛ إذ يمكن الاستفادة منها بسبب الحاجة ؛ لأن السباح المبتدئ قد أدرك في محاولات التخبط الأولى ما هو في حاجة إليه من حركات يتجنب بها الغرق .
وجاء بعد ذلك دور أنجلو ديريز الذى كان يعرف والدي ووالدتي وكان يسكن في حي القلعة في درب اللبانة؛ فذهبت إليه طالباً النصح ، وحاملاً معي صندوق ألواني، وما كنت قد أنجزته من محاولات لم يجف بعضها وجف البعض الآخر المخلوط بالسيكاتيف، وتشقق بعض هذا وزاد ، ولم يمر عليه من الزمن إلا عدة أسابيع أو شهور قليلة ، كانت إجازة صيف 1942 قد انتهت ، فنصحني أنجلو أن أستأجر مرسماً في درب اللبانة لأن استخدام الألوان الزيتية لن يكون سهلاً في منزل العئالة؛ ونظراً لأنني قد بدأت رغبتي في صنع ألوان الزيت بنفسي كما كان الفنانون يفعلون ذلك قديماً في مراسم الفيوم والعصور الوسطى وعصر النهضة الإيطالية .
وافقني أنجلو بسبب رداءة الألوان التى كان يصنعها ويبيعها المتجر ، فاطصحبني لشراء ألوان عديدة من البودرة خزنتها في برطمانات زجاجية ، واشتريت زجاجات عديدة من زيت الكتان . فحصها أنجلو ليتأكد من تركيبها ، ثم زجاجات أخرى من التربنتينا ، ونصحني ألا أخلطها مع البنزين أو الجاز المستخدم لإضاءة المصابيح كما يفعل كثير من الفنانين المصريين حينذاك بدلاً من استخدامه فقط لغسل الفراجين واليدين وغير ذلك . كانت معلومات أنجلو في مجال صنع الألوان محدودة؛ لأنه كان لا يستخدم إلا أنابيب الألوان ذات الماركات المشهورة ، ولكني بدأت أضع زجاجات زيت الكتان فوق سطح المنزل لتطبخها حرارة الشمس ، وكان طبخها بهذه الطريقة يستغرق عاماً أو عامين ، وبشرط أن يكون لون الزجاجات أبيض لا يميل إلى الأزرق أو الأخضر.
أما عن خلط بودرة الألوان بالزيت ، فلم يكن يسبقها مجهود السحق؛ لأن الحجارة وهي الشكل الأول كانت مسحوقة جاهزة ، بعكس ما كان يفعله الفنانون قديماً، كانوا يستخدمون تلاميذهم في تكسيرها وسحقها؛ مما يستغرق عدة ساعات وساعات ومجهودات كثيرة . لم يكن أمامي إذاً إلا أن أخلط البودرة بالزيت داخل البرطمانات الشفافة ، وكانت هذه الشفافية لازمة لتسهيل مراقبة العجينة من الخارج ، والتأكد من أن دقائق المسحوق تختفي مبتلعة الزيت ، وتضيع فيه فتختفي الحبيبات الدقيقة التي يغلف الزيت كلاً منها دون أن يدخلها ويمتصها ويذيبها . وكان يجرب ترك برطمان لمدة عام تحت الضوء والشمس مع فتحها من وقت لآخر، ثم إعادة عملية دوران قطعة خشبية في العجينة حتى يزداد خلط البودرة بالزيت ، ويتم المزج ليصبحا عجينة واحدة.
وفي انتظار مرور الوقت للتأكد من عملية الدمج والطبخ ، رأيت أنجلو ديريز يستخدم الذهب وأحياناً الفضة في بعض براويز اللوحات ، حسب الطلبيات . كان يستخدم الألوان الفضية والذهبية السائلة ، يغطي بها الخشب وكان أحياناً أخرى يغطي الخشب بسائل للتثبيت ، ثم ينفخ البودرة فوقه من قريب ، فيثبت بعضها فوقه، ويقع البعض حول الإطار فوق أوراق جريدة تستقبله ليجمع من جديد ولا يضيع في الهواء. هذه العمليات التى كان يجريها أمامي أنجلو عام 1942 ، وعمل لوحات بعضها بالذهب وبعضها بالفضة، وذلك بعد أن رأيت في كنيسة ماري جرجس أيقونات خشبية تمثل المسيح فوق أرضيات ذهبية أنجزت هكذا . بعد سبتمبر 1942 أنتجت 42 لوحة بعضها ذهبي والآخر فضي تمثل قواقع وأحجاراً ، أو بعض الفاكهة في منظر طبيعي أو فوق المناضد ، وعرضها أنجلو في يناير 1943 في الليسيه فرانسيه التى كان يُدرس فيها الرسم والتصوير . وفي عام 1943 ، ظللت استخدم هذين الأسلوبين في بعض اللوحات الطبيعية الصامتة بعد أن تمكنت من التكنيك ، وأصبحت أستطيع التعبير عن أجواء وأضواء أستخدم لإنجازها الألوان الزيتية ولكن إلى جانب إشعاعات وانعكاسات ذهبية أو فضية . وفي أواخر عام 1942 زارني يوماً سعد الخادم ، وشاهد على البالتة الألوان التى كنت أستخدمها؛ فقال لي محذراً: “إياك أتن تخلط الأزرق الروسي بهذا الأصفر الليموني لتحصل على أخضر ، تراه في التو واللحظة جميلا ، ولكنه يصبح بعد ذلك أسود ، ويتغير حسب الألوان في اللوحة “.
كمياء الألوان
وكانت هذه التجارب بمثابة ناقوس يؤذن ببدء دراسات جديدة في عالم كمياء الألوان، ومازال الكلام لرافع: كمياء الألوان عالم كنت أجهله ، وكان سعد الخادم الذى تتلمذت على يديه فيما بعد لا يلم إلا بالقليل منه، وهو القليل المعروف لدى أساتذة التصوير، ويتمكنون من ذلك بالخبرة . بحثت في مكتبة قطان التي كان أستاذ شفيق رزق يعرض فيها كل سنة نخبة من رسومي، فلم أجد فيها من الكتب عن كمياء الألوان ما يفيد؛ فاتجه تفكيري إلى لطف الله سليمان، وكان قد سبق أن أهداني كتابا في عام 1940 عندما أسسنا جماعة الفن المعاصر ، وكان كتاباً ضخماً بالفرنسية عن تاريخ الفنون في الفن البدائي .
لطف الله سليمان كان ملماً برموز الكتب ، ويتعامل مع مؤسسات أجنبية لبيع الكتب في مصر؛ فأهداني كتابين في موضوع كمياء الألوان. في الواقع، إن دوره كان كبيرا وغير معروف في الفن المعاصر، فهو الذى كان يهدي أصدقاءه من الفنانين والمؤلفين والصحفيين ما كانوا يحتاجون إليه من كتب . وقد لعب أنجلو ديريز نفس الدور المجهول في مساعدة كثير من الفنانين ، سواء من حيث الإنتاج أو تسهيل العرض في الليسيه فرانسيه ، ولم يكتب عنهم نقاد الفن بعد وسقطوا من الكتابة عن الحركة الفنية في مصر، ولم يُشر إلى أفضالهم كل من استفادوا منها، وهذا أمر غريب.
يستطرد رافع: عرفت من هذه الكتب التى تعالج أسرار الخامات واستخدامها مثلاً: كيف كان من الخطر عرض اللوحة قبل جفافها التام عاماً كاملاً، ثم مدى تأثر خامات اللوحة من طبيعة كل فصول السنة الأربعة ، كما عرفت طرق تحضير القماش أو الورق أو الخشب قبل تغطيتها بألوان اللوحة ، ثم ضرورة الانتظار عاما بعد ذلك للتحضير . وعرفت كيف تتميز مع الوقت بعض الألوان بالشفافية، فهي تغطي أولا بوضوح ألوان أخرى ، ولكنها تتطاير وتختفي مع الزمن أو يقل مدى تغطيتها لما تحتها من ألوان…. إلخ .
أجبرنى كل هذا على تغيير ألوان المجموعتين من كراسات المذكرات ؛ فجعلت الكراسات التى تحوي مذكرات تاريخ الفن بلون أصفر ، وأصبحت كراريس مذكرات التكنيك والخامات ذات لون أزرق ، غير مثبتة داخل الكراسات ؛ بل كانت حرة، يمكن تغيير أماكنها بترتيب معين حسب ما أكتشفه من معلومات جديدة ، أضيف أوراقها في المكان اللائق بها . وقد علمتني الخبرة ألا أكتب في وجه واحد من وجي الورقة حتى أستطيع بعد ذلك إضافة أوراق جديدة بين ما هو مكتب في كل من الصفحتين .
وأخيراً أستطيع القول بأن كل ما أنجزته من لوحات زيتية بين عام 1942 إلى عام 1954 هو بالألوان التى صنعتها بنفسي .
بينالي إيران الدولى
استيقظت اليوم الأحد في الساعة السادسة والنصف صباحاً على اتصال تليفوني من مديرة بينالي إيران الدولي ، وكانت هذه عادتهم دائماً معي حينما يريدون مني ترشيح أحد الفنانين للبينالي الدولي في طهران للفنون التشكيلية أو حتى مهرجان السينما. وأذكر أنني زودتهم بأرقام من أعرف ومن لا أعرف من الفنانين في مصر والعالم العربي، لكن اتصالهم هذه المرة مختلف؛ حيث قالت لي السيدة الموقرة مدام شجار: “إننا نريد تقديم معرض للفن المصري المعاصر على جانب البينالي”..
أتذكر أن الوقت كان في شهر يناير والبينالي في مارس ، واعتذرت في البداية لضيق الوقت. لكن تحت إصرار مدير الأكاديمية المُنظمة للبينالي الفنان حبيب الله صدقي ، وكذلك صديقي المخرج الكبير عبد الرحمن شاهين ، أمام رغبتهم القوية قبلت واخترت مجموعة رائعة من الأعمال للفنان عمر النجدي ، والفنان جورج بهجوري، والفنان سعد الجرجاوي صاحب لوحة “العارف” الموجودة في متحف الفن الحديث، بالإضافة إلى مجموعة من أعمال بعض الفنانين الشبان المتميزين. وطبعاً لم يفتني الاتصال بالدكتور سمير رافع لدعوته للمشاركة ، فقال : “أعطني مهلة يومين وسوف أرد عليك” . وفعلا بعد يومين جاءني د. سمير إلى منزلي حاملا خمس لوحات صغيرة؛ سعدت جدا بأني نجحت في أن أقنعته بالعودة لمعارض الفن مع المصريين، فكان قد مضى أكثر من 30 عاماً لم يعرض رافع في معارض مشتركة .
وحدثني د. سمير عن أحد الأعمال التى اختارها لبينالي إيران المسماة بـ “فتاة الليل والبُرنس”. بالطبع بحثت في اللوحة عن برنس فلم أجد إلا كلبه الشهير وفتاة عارية. دهشت وصدمت ولم أعلق لكني كنت سعيداً . ليلة السفر إلى طهران نمت ونامت أعمال رافع أمام ناظري ، وفي الخامسة فجرا وضعت الحقيبة وحقيبة اللوحات في السيارة متجها إلى المطار . وفي حدود الساعة السادسة صباحا ، رن التليفون وكان د. سمير رافع ، فتخيلت أنه يريد وداعي ، لكن صوت الرجل كان مليئا بالحزن، وقال لي: “ممكن ترجع الأعمال مع زوجتك؟”. اندهشت . كيف؟ … إنهم طبعوا الدعوة والكتالوج ، وصار بين أيدي الإعلاميين وهناك أخبار نشرت. قال لي رافع جملة واحدة: “أنا أريد أعمالى”. وأعدت الأعمال فعلاً مع زوجتي ولم أفهم السبب .
سافرت للبينالي وعندما عدت اتصلت به وتقابلنا في مطعم باكستاني ، كان مطعمنا المفضل حيث يقدم لنا وجبة (الكاري) لحم بالبهارات الباكستاني والخبز الساخن، إذ أعتقد أنها أطعم وأشهى أكلة عرفتها في 30 دولة زرتها من العالم . أكلنا وحل العتاب محل الطعام ، وبدأ رافع في توضيح موقفه قائلاً:
“لقد أجبرت على هذا الموقف ، كنت عندك سعيداً بدعوتك للبينالي وبابنك ناصر ومنزلك العامر دائما بالأصدقاء . ولكن حين غادرت ، طلبت من أحد الموجودين في ضيافتك على العشاء أن يوصلني لمنزلي بسيارته ، وكان بصحبة زوجته. هذا الشخص – أشرف الذى تعرفت إليه في بيتك في هذا اليوم – لم يتوقف طول طريق عودتي إلى منزلي عن التجريح فيك؛ واندهشت وصدمت من أمانة الناس مع بعضهم، وكيف لشخص يصادق إنسانا ، ويأكل في بيته وفور خروجه يسبه.. وقعت تحت تأثير الموقف وفضلت الانسحاب”.
فهمت وعذرت رافع على موقفه ، ولأول مرة شعرت أنني بدأت أفك طلاسم شخصية رافع. رأيته إنسانا حساسا جدا ، يتأثر من الغدر وخيانة الأصدقاء، تدهشه الخسة ونكران الجميل . وقتها شعرت أنني أراه من جديد …
توثيق حركة الحداثة في مصر
أخذنا الحديث إلى موضوعات شتى ، تحدثنا عن الحياة والتاريخ والفن وعن حركة توثيق الفن في مصر؛ فبدأت أسأله:
-ماذا عن تأسيس حركات الحداثة في مصر؟ هل كان هناك توثيق للحركات الفنية من وجهة نظرك في مصر؟ وكيف وُثق رافع للحركة في أرشيفه؟
رافع: “في العام الدراسي 1944/1943 السنة الإعدادية في الفنون الجميلة، كنا نرسم بالفحم على ورق أنجر الوجوه الرومانية والإغريقية، من الجبس الأبيض المفرغ كنا نرسم سقراط ، نيرون أوجست ، كاليجولا وغيرهم . وقتها طلب مني رمسيس يونان أن أرسم له قناع وجه كاليجولا؛ طلبت من الأستاذ المسئول أن أستعيد الرسم بعد عرضه على التحكيم . وبدأت أرسم على اللوحة بالجواش الأسود الداكن كل الصفحة خلف وجه كاليجولا ، فاشتد بياضه على الأرضية السوداء، وبدا وكأنه مقصوص ملصوق على سطحها؛ وأعجب به رمسيس لدرجة أنه بروز اللوحة ووضعها على الحائط في حجرته، وقال إن سبب إعجابه بها هو اللون الأسود المغطي لأرضية اللوحة . في 1964 ، اطلعني رمسيس يونان على رسوم بالرصاص رسمها عام 1960 على حبر أسود، وعام 1938 أصدر كتاب رسالة الفنان المصري لرمسيس يونان، وفي عام 1939/1940 عمل جورج حنين على تأليف جماعة الفن والحرية. وفي عام 1941، تكونت جماعة الفن المعاصر تحت إشراف شفيق رزق، وفي عام 1942/1943 نظمت مسابقة الفنانين الناشئين، وقدمت (لوحة القواقع) في متحف التعليم، وحصلت على الميدالية الذهبية ، ومن ثم جاء معرضي في مكتبة قطان .
جورج حنين وسلامة موسى
يستكمل رافع: “شفيق رزق أستاذي كان صديقا لجورج حنين ، ويدعون لزيارة معرضي؛ فتعرفت إلى جورج حنين ، ودعاني للعرض فقبلت العرض معهم في جماعة الفن والحرية. وكان شفيق زرق صديقا لسعد الخادم، ويوسف عفيفي، وحامد سعيد. وفي عام 1942 ، ترك سلامة موسى إدارة المجلة الجديدة للفنان رمسيس يونان، وقد قام جورج حنين بتحضير الاجتماعات في المجلة مع فؤاد كامل. وقد قامت حكومة صدقي باشا بغلق المجلة في 1944. دفعني فؤاد كامل 1943/1945 لترجمة سبع قصائد من الشعر الفرنسي، كما دفعني لترجمة قصيدة لجورج حنين 1943، وصدر عن مكتبة الفنون الجميلة نقد لرسالة “رسالة الفنان” لرمسيس يونان، وشرع جورج حنين لنشرها في المجلة الجديدة، ولكن لم يستطع بسبب قرار غلق المجلة.
ورسبت في مسابقة الرسم الإنساني البدائي الذى كنت مشاركا فيه بلوحة وجه كاليجولا.
وفي عام 1945 ، حصلت على التوجيهية (الثانوية العامة) التى لم تكن شرطا للالتحاق بكلية الفنون الجميلة ، كان الأهم اجتياز امتحان القدرات الفنية كشرط للقبول، ونجحت والتحقت بالدراسة بالكلية . وفي ذلك العام بدأ رمسيس يونان مشروع الترجمة؛ فترجم كاليجولا لألبير كامو ، وبدأ في ترجمة فصل في الجحيم لأرتير رامبو ، ولكنه وجد مشقة في الترجمة؛ لأنه من الشعر وليس من النثر.
وكان رمسيس حينذاك متقيدا بالقاموس الفرنسي العربي؛ فنصحه جورج حنين أن أتعاون معه في الترجمة ، وتعاونت معه . ولكن رمسيس كان دائماً متغيرا متقلبا من الناحية النفسية ؛ كان لديه سرور خفي وغضب مستور ثم رغبات ومصاعب. هنا لم تستمر الصداقة بيننا ، وتوقفت عن الترجمة وواصلتها في صيف 1964 ، اجتمعت مع رمسيس عند حسن التلمساني في عمارة غمرة ، وقال رمسيس إنه يرغب في أن نراجع معا الترجمة النهائية لفصل في الجحيم . وكانت هناك ثلاث نسخ: واحدة عندي، وأخرى عن رمسيس ، والثالثة عند حسن التلمساني. ذهبت إلى رمسيس في منزله ومعي نسختي ، ولكنه قال إنه غير رأيه ولا يرغب في مراجعة الترجمة .
وفي عام 1953 ، طلبت مني الوزارة عمل تجميع لإنتاجي في الكتابة عن الفن لإرسالي في بعثة تاريخ الفن؛ فوضعت في الدوسيه نسخة من ترجمة فصل الجحيم، وكتبت عليها “ترجمة رمسيس يونان وسمير رافع”، وأخبرت رمسيس بذلك، وكان في باريس فلم يرد عليّ، بل كتب إلى حسن التلمساني يقول له: “قل لسمير رافع إنني غير موافق، وإنني أكاد أنفض يدي من تلك الترجمة؛ لأنها كأولاد الحرام لا تنسب لي ولا لسمير”. ملاحظة : في عام 1946 أراد رمسيس طبع الترجمة، فقال جورج حنين : “يجب أن يذكر اسمي”. فقال رمسيس : “الحقيقة هي أن الترجمة مازالت غير مُرضية ؛ ولذا يجب أن ننتظر”. في عام 1965 ، كتب حسن التلمساني وكنت في الجزائر ، يقول: “إن رمسيس على وشك طبع الترجمة، وأعطى نسخة للأستاذ لويس عوض ليكتب له مقدمة؛ فكتبت إلى رمسيس خطاباً مسجلا عن طريق والدي المحامي أطالب فيه بضرورة وضع اسمي على الكتاب .
المعرض الثاني لجماعة الفن المعاصر
ذهب رمسيس إلى باريس في زيارة خاطفة عام 1946 ، واستقر في باريس منذ 1947. كنت أرسل له أنا وحسن التلمساني النقود، وتركت مرسمي الذى كنت أستأجره من “بيبي مارثان”، وأستأجرت مرسم رمسيس يونان . وبدأت أحضر للمشاركة في المعرض الثاني لجماعة الفن المعاصر ، واخترت من بين 215 لوحة عدداً من اللوحات للعرض في المعرض الذى أقامه يوسف عفيفي بمساعدة شفيق رزق في قاعات اتحاد أساتذة الرسم . وقام سعد الخادم باختيار المعروضات ، وعرض بعد ذلك كثيراً منها في معارض متعددة . وأعطيت عدداً من لوحاتي لأساتذة وزملاء، وانتقى منها جورج ثلاث لوحات ، وقد أصر على دفع ثمنها .
وفي عام 1953 ، وضع حسن التلسماني يده على الدراسات التى أعددتها عن الفن، وكان يعارض رأيي أن أتركها في مصر، كما كان رأيه في كل الدراسات منذ 1938؛ فاختار 190 دراسة نصحني أن أحملها معي إلى باريس مع الدراسات التى اختارها من الأعوام الأخرى . وعندما أسست في باريس أكاديمية الفن المعاصر، اهتم بعض المنتسبين إليها بهذه الدراسات . وبعد إغلاق الأكاديمية ، بدأت في إعادة ترتيب كل دراساتي بين عامي 1938 و1958 ، حفظتها في دفاتر خاصة بكل عام.
وفي عام 1946 ، بدأت الدعوة إلى معرض “الفن والحرية” وطلب جورج حنين من الجزار أن يرسم تصميماً لدعوة معرض “الفن والحرية” وبالفعل قام بتصميمها، ولكن أراد جورج حنين أن أنجز أنا أيضا تكوينا لنفس الدعوة ، مقترحا أن استخدم فيه الحيوانات الخرافية التى اخترعتها، وأكثرت من تجسيدها في لوحات منذ 1945.
وكان يرى أنها تعبر عن نوازع خفية في العقل الباطن بما يتماشى مع مفهوم السريالية في هذا الوقت . وبالفعل أنجزت ثلاثة تكوينات: منها الرسم بالقلم الرصاص، وهو رقم 2 بعد إنجاز رقم 1 بالحبر الذى وصل إلى وجدان جورج حنين؛ لأنه أكثر سهولة واقتصاداً في الطبع؛ حيث ترى في المنظور الأول بصرياً فينوس بذراعيها المفقودتين تغطيها مع خيوط شبكة العنكبوت ، وفي المنظور الثاني بصرياً تخيل لكائنات سريالية شكلت مع خيوط العنكبوت أرضية تبني عليها العلاقات التشكيلية التي أصبحت ترتبط وتمتد لتخطيط حركة المرأة التي يمثلها تمثال فينوس ، ليتلاحم ويرتبط كلا التكوينين في النهاية بأسلوب متناسق.
الجزار وتأسيس الجماعات الفنية
– وماذا عن علاقة عبد الهادي الجزار بالجماعات الفنية آنذاك ، فمن المعروف أن الجزار وحامد ندا كان لهما دور مهم في تأسيس تلك الجماعات؟
رافع: في أواخر 1945 التحق عبد الهادي الجزار بجامعتنا ، فمنحته كثيراً من رسومي لمعرض “الفن المعاصر” . وكان هذا بداية تركه الأسلوب الأكاديمي الذى كان يمارسه في مدرسة الفنون الجميلة ، ثم بداية الصداقة العميقة بيننا . وقد كان يدعوني لقضاء الإجازات المدرسية معه عند عائلته في الإسكندرية، فمنحته كثيرا من أعمالى التي كانت تنال إعجابه ، وخاصة ما رسمته بالفحم. وفي عام 1946، استعان بمساعدتي وتشجيعي بالحيوان الخرافي الذى يحتل الجانب الأكبر في التكوين في أعمالي ، فانتقد البعض ذلك ، وكتب إبراهيم العثماوي في 4 أكتوبر 1950 مقالة تحت عنوان “امسك حرامي”.
والواقع أن مثل هذه الاستعارات كانت من أسلوب جماعة “الفن المعاصر” لتحقيق إنتاج جماعي ، عكس ما تصور الناقد . تأرجح الجزار بين الأكاديمية والأسلوب الحرفي أعوام 1946/1950 وهو عام تخرجه في مدرسة الفنون الجميلة؛ إذ أصبح يمارس فناً تقليدياً أكاديمياً في إطار آخر متحرر أو في إطار جماعة الفن المعاصر. وعند انتهاء الدراسة الرسمية ، دمر كل لوحاته ليتبرأ من تلك الفترة ، وقد غطاها كلها بالألوان الرمادية ليصور فوقها لوحات جديدة مع الاحتفاظ بلوحة واحدة نموذجاً، وهي “لوحة السقا” التي مثلت نموذجاً لتلك المرحلة .
لا أدري كيف كان يتداخل زمن رافع مع زماني؟ كنا في صيف 2002 ، ولقد التقى في تلك اللحظة زمانه بطوله وعرضه بزماني البسيط الحالم ، ولوهلة شعرت بأن الزمنين يتحدثان إلى بعضهما على رصيف واحد هو رصيف شارع سان ميشيل بالقرب من نهر السين ونافورة تمثال سان ميشيل التى يلتقي عندها العشاق من العالم، يرقصون ويضحكون ، أو يتحدثون في أحلام ومشاريع ثقافية في تلك اللحظة.
رحلة مع حامد عبد الله
أنظر في وجه رافع وأسمع همسات تبدو قادمة من التاريخ ، أحيانا لا أفهمها . كان الرجل أنيقا ، يحافظ على مظهره رغم تقدمه في السن ومنزله الذى ماتت فيه كل الأشياء من زمن طويل ، حتى إنه كان يغلق الشباك وكأنه يريد قتل الهواء العابر. أصبح يرفض التجديد في حياته التى أصبحت وأمست عامرة بالمتناقضات .
حكي في ألم شديد موقفا حدث له مع حامد عبد الله حين قال له رافع ذات يوم : إن عنده موعدا مع شخص مهم جدا كوربيزيه أحد أهم معماري القرن العشرين ؛ فهاجم عبد الله رافع، وقال له: “من يكون كوربيزيه؟ معماري مجدد؟ أنا حامد عبد الله مجدد روح اللوحة العربية”، ولم ألتق حامد عبد الله منذ هذه الفترة أظن من عام 1956 .
-قلت له : ما رأيك في أن تلتقي بحامد عبد الله الآن؟
ابتسم رافع ، ونظر لي مندهشاً ، وقال: قد توفى عبد الله منذ عام 1985، فكيف نلتقيه؟
فاتصلت على الفور بزوجة الفنان حامد عبد الله ، وقلت لها: نريد أن نحضر أنا والفنان سمير رافع لمشاهدة أعمال الرائع حامد عبد الله، ورحبت كثيرا بنا السيدة كريستين – التى مازالت على قيد الحياة – وساعدتني بعد هذا اللقاء في تنظيم أول معرض لي في مستشفى مونبرناس الذى كانت تعمل به ممرضة، وكان يعالج فيه حامد عبد الله . وقدمت كذلك معرضا لأعمال حامد عبد الله في شسارع موفتار؛ مما شجعني لمشاركة أعمال عبد الله في صالون باريس الذى حصل فيه على جائزة التصوير بعد عشرة أعوام من رحيله؛ مما يؤكد أنه كان صاحب رؤية مستقبلية مميزة. وكان لي شرف الحصول على جائزة النحت في هذا الصالون في نفس الدورة عن تمثال الصقر العربي ، والذى اشتراه الياباني متشو ياما، ويوجد في مقر قريب من البورصة في مدينة “كوب ” باليابان .
نعود إلى رافع وماضيه الذى بدأ يتحرك ؛ وزمني الذى بدأ يفرح ويسعد؛ لأني أدخلت رافع بيت عبد الله ، والاثنان كبار الهامة والقامة في المحترف المصري والعربي. بعد هذا العمر كان رافع بحسه الشديد وتفكيره العميق الذى لا أعرفه ولا يفهمه أحد يدون كل ذلك ، عندما ذهب لمنزل عبد الله. كان يهتم بطرح أسئلته ، كل صباح يتصل بي ، ويبدأ في سرد أسئلته حول عبد الله التى تنهال على رأسي بلا سبب؛ فأستيقظ وأعرف أن زمانه لا يسير مع زمني، ولا يجب لزمني أن يفرح؛ لأن أعباء الأسئلة والأجوبة من فنان حساس ترهقني وترهق عمري القادم .
لقاء بيكاسو
وفي مساء يوم جديد ، استضفت رافع بمنزلي . جلس رافع وأتذكر يومها أنه كان يحمل معه لأول مرة هدية: لوحة وزجاجة نبيذ معتق تركها من زمن بعيد.
-طلبت من رافع أن يستكمل حديثه حول تأسيس الجماعات الفنية في مصر…
فقال: 15 أغسطس 1960 وضعت ألبوم أعمالي التي رسمتها في 1943. هذا الألبوم يضم 157 دراسة احتفظت بها عندي من أصل 184 أنجزتها كلها فيما بين ديسمبر 1942 إلى يناير 1944 . وفي عام 1981، أخرجت بعضها وطورته حتى بلغ مجموع ما طورته 30 عملاً ، وكنت قد عرضت منها مختارات في المعرض الثاني لجماعة الفن المعاصر عام 1943 الذى نظمنه أستاذنا يوسف العفيفي للفن التجريبي باعتبارها تجارب متسلسلة لتحقيق تطوير أهداف مترابطة .
وفي أبريل 1944 اختار منها أنجلو ديريز، وكان أحد أصدقاء الجماعة، فقام بعرض 50 دراسة في قاعة الليسيه حيث كان أستاذاً للرسم والتصوير .
وفي فرنسا عام 1958 عندما أراد أميديه أوزنفان الذى كان منذ عام 1931 الموجه الأساسي لسياسة العفيفي في تعليم الفن ، ثم أصبح في أواخر الثلاثينيات في أكاديميته في لندن أستاذا لحامد سعيد وراتب صديق وسعد الخادم ، وقبل أن يقدمني إلى بيكاسو في مدينة “كان” أشار علي أن أحمل معي بعضاً من رسومي الأولى بينها رسوم 1943 ؛ فأعجب بها بيكاسو ، ثم تطورت علاقتنا بفضل رسوم تلك الزيارة الأولى .
اقرأ أيضًا:
عبدالرازق عكاشة وحكاية جديدة عن وجوه الفيوم