من خلال تجربة الموت والفقد تدخلنا مريم حسين إلي سيرة المكان، بل سيرة الإنسان في المكان في روايتها ” السيرة قبل الأخيرة للبيوت”، حيث أفلحت الكاتبة في تشكيل مصائر شخصياتها المختلفة، وقد عانت جميعها من الفقد، سواء الفقد النفسي والروحي أو الفقد المادي، فيصبح” الفقد” تيمة رئيسية في الرواية، فموت الأب وفقد الحبيب جعل بطلة العمل تتخذ ربما قرارها الأول في حياتها بلا مساعدة أو استشارة أحد ألا وهو البعد عن ذلك البيت المليء بأنفاس الموت. وما إن تستقر في بيتها الجديد؛ حتى تكتشف أن داخلها تعشش كل البيوت التي عاشت فيها من قبل،تلك البيوت التي ستكون هي مادتها الخام كي تحكي لنا سيرتها فقط من أجل فك الاشتباك بين سيرة البيت وسيرة من يسكنها؛ كي نكتشف الأثر الذي يتركه كل منهما على الآخر.ومن خلال تقنيات السرد المختلفة تمضي في أزمنة متعارضة زمن الحاضر الذي يحاصرها بأشباح في شقتها الجديدة وزمن الماضي الذي تتذكر فيه كل حياتها السابقة لنكتشف معا مظاهر تدهور أوضاع الطبقة الوسطى المصرية التي تعرضت للتآكل اعتبارا من منتصف سبعينيات القرن الماضي بعد أن تبنت الدولة فيما عُرف بسياسات الانفتاح الاقتصادي التي أدت إلى ما وصلنا إليه . ومن خلال سرد مليء بالجدية والسخرية واللعب الذكي، تبحث الرواية في سيرة المحامي الشاب الذي جاء من إحدى قرى الفيوم لدراسة القانون في القاهرة ثم اتخذ بعد تخرجه قرارا بالعيش في القاهرة الكبرى وتكوين عائلة، لكن أوضاعه المالية تتدهور بسبب التحولات التي عاشتها مصر خلال زمن السرد. تتمركز الرواية حول شخصية الأب تلك الشخصية الغنية والجريئة والمبدعة، الأب داخل الحياة التي اختارها بمحض إرادته ومن خلال فرحه القليل وعذاباته المستمرة تحت نير الفقر الذي سعى إليه بمحبة كفارس حقيقي من فرسان الزمن، وكقديس أيضا. ومذ أحست أمه المتعلمة والتي فقدت قبله ثلاثة أجنة، بوجع الطلق وهي في مقام الحسين وعادت إلى المنزل بالسيدة زينب، حتى خرج إلى الحياة ذلك النور. والد المحامي هو مهندس في السكة الحديد، لكن كان أديبا وفنانا أيضا. لوحاته التي عرضتها علينا حفيدته تؤكد ذلك، كلام ابنه صاحب الرصيد الوافر من الشخصيات الموشومة بمحبة وقدرة ومعلمة تنضح منه . أما والد الساردة فهو الفتى الذي أحب القاهرة وسكن أحراشها وتخرج من الجامعة وعمل محامي وتزوج وأنجب ثلاث بنات، في البداية سكن في منطقة بشتيل تلك المنطقة الوليدة في بداية الثمانينيات،كانت عبارة عن أرض مزروعة وتحولت إلي منطقة عشوائية البناء، لعشر سنوات مكث ذلك المبدع في تلك المنطقة التي تصلح لرعاية الحيوانات لا أكثر ولا أقل، وعلى مر الأيام تآكلت أرض بشتيل الخضراء الجميلة بين فكي البيوت العشوائية التي يقطنها أصحاب اللحى وبعض الأبراج، وصمدت مساحات صغيرة من الأرض الزراعية ظل يعيش فيها أصحابها ودوابهم من بقر وحمير وأحصنة وجمال تمضي في طريقها غير عابئة بزحف الطوب الأحمر. حين قرر والد الساردة الذهاب إلى شارع الشوربجي ببولاق، حيث المنازل قريبة من بعضها جدا، حتى أننا نسمع معظم تفاصيل المناقشات بل كثيرا ما سمعنا مضاجعات عديدة في أوقات مختلفة من اليوم، كل شقة كانت تعتبر غرفة نوم، والشارع هو غرفة المعيشة التي نتقابل فيها جميعا وندردش معا ،والشارع العمومي هو باب الشقة التي لم تزد إلا أمتار قليلة عن جحر بشتيل. وتعامل المحامي مع أهل المنطقة بنفس نظرية الفارس النبيل، استنجدوا به في قضاياهم وأسعفهم بمشورات قانونية دون أن يأخذ منهم مليما إلا ما يحتاجه لتخليص الأوراق. اختار مكتبا في شارع عباس في بولاق الدكرور، بمحاذاة مكتب المحافظ القديم واستأجره كعين تجارية من الوغد سيد كامل.
اللوحة للفنان سمير رافع
كانت المسافة بين البيت الجديد والمكتب عبارة عن شارعين جانبيين تأخذهم العربة البوكس في خمس دقائق، لكنه كان يقطع المسافة على قدميه في ربع ساعة. كان المكتب أو العين هي عبارة عن حجرة مترين في أقل منهما. يسع بالكاد كرسيا ومكتبا ودولابا وكرسيا للعميل. وعندما مات وأرادت ابنته الساردة / الكاتبة أن تتركه لأحد تلاميذ الأب رفض تماما؛ نظرا لسوء المكان وندرة الزبائن. وبالرغم من ذلك ظل ذلك الأب سنوات طويلة يرفض أن يترك هؤلاء الطيبين الذين أحبوه بحق، فقد لمسوا تواضعه واحترامه لبؤسهم وغلبهم، وكثيرا ما أوضح لهم أنه لا يقل عنهم غلبا وبؤسا. رفض أن يسافر إلى الخارج من أجل هؤلاء الذين تحولوا بمرور السنوات إلى أصدقاء له، يقضي معهم وقت عمله وفراغه على القهوة أو معزوم على الغداء عند أحد منهم. وكان هو بالنسبة لهم “الأستاذ المحامي الشهم اللي بيكتب قصص”. تحكي الساردة عن البطل الذي عاش من أجل هؤلاء البؤساء والمهمشين، لمدة لا تقل عن خمسة وعشرين بسعادة وسط ناسه وأهله. ولما يضطر إلى السفر تحت الحاجة إلى عمان لا يستطيع العيش هناك أكثر من شهرين ليعود خالي الوفاض؛ ليكمل مسيرته الإبداعية، ثم يصاب بفشل كلوي ويكتشف أن الفقراء لا يحق لهم العلاج في المستشفيات الكبيرة. يضطر إلى الجلوس تحت جهاز الغسيل أربع ساعات كل يومين، ويصاب بفيروس أثناء غسيل الكلى، فيدخل القصر العيني ويموت بعد تسعة أيام، تاركا زوجة وثلاثة بنات، لتقول الكاتبة:”برحيل أبي لم ننج من الأشرار،ولم يحمنا دعم الطيبين”.أعود إلى الغابة التي سكنتها الكاتبة في الشوربجي بعد خروجها من مستنقع بشتيل، لأدخل من عتبة باب النص الأولى في المغربية على عملية قتل قام بها محمد السماك لزوجته هويدا أمام بناتها الثلاثة ثم خرج إلى الشارع. قرر إغلاق الشارع، وبدأ الجميع يفر خائفا منه، حتى تأتي الشرطة وبعد إصابات عديدة تتمكن من القبض عليه، هذا إذن حدث مأسوي بحت، ربما أتى بالدموع وما يلزمه من شحتفة وخلافه، لكنه أبدا لن يأتي بالضحك للبطلة التي وصلتها رسالة طويلة بالأحداث على شاشة المحمول. فما الذي تحدثه الكاتبة؟ لأركز أكثر ريثما تتضح الحالة، فها هي تتهيأ للخروج بعد أن قالت يا لهوي ثم تعقبها بضحكة تظهر قورتها العريضة من أثر ما كانت تفعله الأم بشعرها منذ الصغر وهي تشد الخصلات بقوة .هل جاءت سيرة الأم، لا أعرف لماذا غيبت تلك الأم طوال أحداث الرواية إلا فيما ندر،وأظن أن البطلة قد اتخذت موقفا من الأم متطرفا وربما كان أحد أهم الأسباب هو شد الشعر الذي منحها قورة عريضة لا تحبها ، لكنني سأخبركم بالحقيقة التي مرت عليها الكاتبة بخفوت وربما بقسوة في مواقف عدة. بالطبع وكما وضح من أحداث الرواية هي كانت تعشق أباها ، كغيرها من البنات، لكن دور الأم جاء خافتا رغم وقوفها بجانب الأب طوال أيام حياته البائسة. إن الأم سوسن هي الابنة الوحيدة على تسعة أولاد،عاشت طفولتها في منزل عريق في كيمان فارس وعلي بحر يوسف. أبوها كان مدير السكة الحديد يفخر دائما بنسبه إلى الأشراف الهاشميين وأمها كانت مديرة مدرسة ثانوي، هي آخر العنقود كما قلنا ولهذا دللها أبوها بشدة، في مراهقتها عندما احتضنت صور عبد الحليم حافظ باكية بحرقة موته،ضربها أخوها الأكبر ومزّق جميع الصور. نزل الأب في حينها؛ ليحضر لها كل ما وجده في المحلات من صور للمغني وكثيرا منها كان ملونا.تلك البنت التي قرأت في الأدب والشعر والتاريخ ، التقت بحبيبها وتزوجت به وهي لا تعلم أنها ستسف التراب لتبقي عائلتها الصغيرة منتصبة كما تمنت. استمر شقاؤها ثلاثين عاما متواصلة؛ لتعوض بناتها الثلاث عما لم يقدر أبوهن عليه، فهو قد اختار أن يكون محاميا للبسطاء،وهي ظلت تلك المدة الطويلة تعمل مدرسة في إحدى المدارس، وتكافح من أجل هؤلاء الفتيات اللاتي تمنت أن توفر لهن حياة كريمة مثل التي عاشتها في بيت والدها. استمر شقاؤها ثلاثين عاما ثم قررت الانسحاب من الحياة، ووضعت على رأسها حجابا لتختفي أو تخفي نفسها عن العالم. لقد اختل توازن الحب لديها. سألته في نفاذ صبر في الثالثة صباحا: ما ذنب هؤلاء الأطفال؟ تنهد ورد بقلة حيلته وبأنه يبذل كل ما في وسعه، وأنه لا يأخذ شيئا لنفسه. ومذ تلك اللحظة بدأت في الانسحاب بشكل تدريجي من غرفته لتعيش ما تبقي مع البنات. بعد أن شاركته سنوات طويلة أحلامه وتعبت قدماها وهي تلف معه على دور السينما والمسرح ومعارض الفن التشكيلي، وها هي تكتفي بأن تهيئ لبناتها معيشة كريمة ولم تعد تشارك ذلك القديس أحلامه اليوتوبية . نعود إلى الكاتبة التي ما إن مات الأب؛ حتى قررت أن ترحل عن ذلك المكان. هي لن تستطيع أن تعيش فيه بعد الفقد الكبير للأب الذي ظل يحتفظ بقصتها الأولى التي كتبتها وهي في الصف الثالث الابتدائي، هو احتفظ بالنسخة التي كتبتها تحت عنوان الكلب صديق الإنسان فقط أضاف التاريخ والساعة والمكان،ثم كتبها بخطه الجميل مع الرسم.ليس ذلك فحسب، فهي مازالت تحتفظ في الذاكرة بتلك العلاقة المميزة مع أبيها وأخواتها البنات. تكتب لغة مشهدية كادرا سينمائيا مع الأب الذي يمسك بيد أختها رنا، وتمسك رنا بيد ريم، لتمسك ريم بيد البطلة، وتبدأ الجوقة في الغناء. فوق التل تن نتن تن ،تحت التلة ت نتن تن، في الأخبار تن تن تن ، الجيل الجديد شعلة نار تن تن تن، في ذلك اليوم الذي زين الأب بناته الثلاثة كي يشاهدوا وصول المحافظ إلى بشتيل، كي يفتتح مركز الشباب، ما إن يتراص الأطفال حين يظهر الموكب ويبدأ في غناء: اسلمي يا مصر في وجود موكب الأحصنة التي ترقص لجناب المحافظ، وحين ذلك يتمرد الحصان الأسود ويرفض الرقص ويحاول السايس بقسوة أن يدخله إلى إيقاع الرقص، فيصمم ويبدأ في الدوران حول نفسه بقوة وقسوة ويتجه بعشوائية إلي المحافظ، فيجري إلى عربته والحصان يتبعه في لحظة هرج ومرج ثم يجري وراء الأطفال. كما إنها مازالت تتذكر رحلات الفيوم في الأتوبيس وكيف كانت تجلس الأم بجوار الشباك وفوق قدميها ريم، وبجانبها الأب يضع رنا علي حجره وبينهم البطلة السُفيّفَة الجسم، حتي إذا سألها الكمسري عن عمرها قالت في ثقة ست سنوات، وعندما تنجح الخطة ينظر الأب إلى البطلة ويبدأ في وصلة ضحك، فقد صدق الكمسري أنها بعد صغيرة ، ولم يصر على أن يأخذ من الأب ثمن تذكرة لها، ويزيد فرح الصغيرات بأن يشتري لهن الأب بثمن الأجرة حلويات لذيذة. وتكتشف البطلة أن أمر الرحيل عن الشوربجي بسيط جدا، فقط عليها أن تزيح بعض التراب ،وتأخذ كل شيء في حضنها وترحل، فقط تلملم مصارينها وتثبتها في التواءتها ثم تخيط الجلد وكله يصبح تمام. ومن تلك اللحظة التي تأخذ فيه قرار الرحيل تأخذ أيضا قرار كتابة سيرة البيوت. وأول ما خطر في رأس الكاتبة يوم وفاة الأب كان مكتبه ،وكتبه وقضاياه مذ عمل محاميا في عام 1981. بعد الرحيل أيقنت أنه لا جدوى من الاحتفاظ بالمكتب، فذهبت إلى سيد كامل، وله حكايا طويلة اتركها للقراء، وتنازلت له عن العين، وراحت لتخلع اللافتة المكتوب عليه اسم أبيها. وكما عرفنا أن المكتب شديد الضيق لا يسع شخصين متجاورين” كانت اللافتة المكتوب عليها اسمه وصفته وتليفونه متوسطة الحجم ومثبتة جيدا في الحائط، ساعتان وربع وأنا أحاول خلعها دون إفسادها ولم أستطع،ظلت ممسكة بسمار رفض الخضوغ لي، بذلت جهدي لدفع المسامر للخارج إلي أن أفلت فجأة،طرت أنا واللافتة،تدحرجت على السلم لأصل إلي الدور السفلي،نهضت بسرعة مفزوعة أتلفت حولي وأتحسس جبهتي، جريت إلى المكتب وبيدي اللافتة أحرص على ألا يراني أحد أبناء سيد الراشقين تجنبا للشماتة والسخرية ، كتمت جرح رأسي بكم قميصي وأنا أتحسس برفق تورم حاجبي الأيمن وشفتي،محاولة تجاهل فكرة أن المكتب زعل مني لأنني قررت الرحيل”. وهكذا تذهب البطلة إلي مكان جديد ونعرف أنها تعمل مدرسة للموسيقى في إحدى مدارس هضبة الأهرام ،تلك المدرسة التي تملكها سيدة متشددة في إسلامها، تفاجأ أن الأرض ملك لكنيسة منذ خمسة عشر سنة. رفضت المتشددة الرحيل عن الأرض وكذلك أبناء الكنيسة ظللوا متمسكين ،وفي نفس العام يتم إنشاء الاثنين معا، المدرسة والكنيسة، رغم أنهما يقعان في منطقة خالية تماما،”كل صباح بالضبط في ميعاد الطابور تقرع الأجراس لعشر دقائق متواصلة،كل قرعة أقوي من سابقتها،لا ينتظر حتى يختفي الصوت تدريجيا ثم يعاد القرع،بل في منتصف انسحاب القرعة السابقة تدق اللاحقة،ليدوي صليل متواصل يفضي إلى الجنون،أكانت تعويذة ؟أكانت تذكيرا دائما للمدرسة والناس أنها من الأساس ارض الكنيسة،أم إعلان مستمرا عن السلطة التابعة لها الهضبة.حكي لي أكثر من شخص أنه حين كانت المدرسة في طور البناء ،تسلل أفراد من الكنيسة ليلا في غفلة من العمال وحارس المكان الموجودين بأعداد زائدة مقصودة،أغشوهم كيلا يبصرون،ثم حفروا أسفل الباب الرئيسي للمدرسة حفرة عميقة،ودفنوا شيئا ما يعبر عليه المدرسون في كل خروج ودخول؛ لتصبح أرضا ملعونة،فكرت وتأملت زملائي،ثلاث أرباع المدرسة مطلقون ومطلقات وأرامل والمتزوجون يعشقون غير أزواجهم حتى الأجانب “.أعرف أن فائدة التبسيط تأتي علي حساب الدقة. وتورثنا دائما أخطاء منهجية. لكنني سوف أغامر بنفسي أمام ذلك النص الذي ما إن انتهيت منه حتى أمسك بتلابيبي.في الحقيقة إني ظللت طوال قراءتي لمتن رواية مريم مأخوذا بمعرفة حياة الأب لأعرف مصيره ومصير أخويه الاثنين ،ذلك الفنان الذي انتحر،,الثاني الذي توقف نموه العصبي عند السادسة عشر وتلك الأم الرءوم التي زوجت ذلك الموقوف النمو عقليا من زوجة استطاعت بدهاء أن تسرق البيت من أبناء حسين، وعندما عدت للقراءة للمرة الثانية اكتشفت أن مريم حسين قد كتبت سيرة البيوت وصنعت أشخاصا من لحم ودم بحيوات زاخرة. أحبت وأحبها آخرون، منهم الزملاء والمعملون أيضا، كما أنها رسمت شخصيات من ورق من خلال تلك البيوت “بمتابعتي أثر السكان السابقين في المكان رسمت لهم صورة في خيالي،هائلة أفرادهم ضخام الجثث، دبة أقدامهم على الأرض،تهز الشقة، وتشاركهم العفاريت”. وفي لحظات اخري تتجاوز الرواية الاهتمام بالبشر والحجر والمكان وتفسح مجالا كذلك للاهتمام بالحيوانات والحشرات والأبراص التي ترافق ذاكرة البطلة.: دعنا نقتل الوقت.. نعد حبات الأرز المضيئة وذرات السكر المصفرّة، نعد حروف أحاديثنا مع أسراب الطيور الكثيفة التي تحلق وتتركنا نتساءل مبتسمين بدهشة : كم نحن حمقى! نعد بلورات الملح الخشن وفتات الملح الناعم، درجات الألوان اللانهائية في لوحاتي والألوان المحدودة على أجساد سمك البساريا الفضية والشفافة، نعد حبات الرمال شديدة الملوحة المبتلة بعض الشيء التي تبتلع أمواج البحيرة على مهل كمريض يبتلع ريقه بصعوبة، نبتلّ وحيدين.. ينقصنا الحب.. قلبي رقيق مثل سمك الباساريا وجوفي مظلم كقاع البحيرة وعقلي مليء بالمربعات المتداخلة، كلما خرج مربع جديد من ضلع مربع قديم ينفد وقت:كثيرة هي الشخصيات التي شاركت مريم في بناءها، حكايات عن أشخاص عديدين عاشوا في أزمنة مختلفة. أتذكر منهم عبد الحميد مثلا صديق الأب، سائق التوكتوك الذي بمساعدته وحده استطاع أن يدخل الكاتب الكبير الذي أصيب بالفيروس إحدى الأماكن الآدمية كي يغسل الكلى حتى صار الكاتب يطلق عليه الأستاذ. في تلك الرواية الكبيرة ستجد كل ما تبحث عنه،هناك قصص الحب المختلفة ما بين الأشخاص الهامشيين،أو ملح الأرض،كيفية نشأة الجماعة الإسلامية في بشتيل ،نداءت الباعة وعيادات الأطباء ،بائعي المخدرات والبرشام وكيف وصل من وصل ومات من مات، حركة عربة البوكس التي لا تتبع البوليس ولكنها وسيلة النقل في الأماكن التي كتبت سيرتها بمحبة وقدرة وحبكة ولغة وكل ما يخطر لك علي بال. وهناك أيضا تلك الاختيارات التي وضعتها الكاتبة كي تجعلنا نفكر بتمعن في مصائر بعض الشخصيات مثلما فعل يوسف الذي اختار الانسحاب للبحيرة وقرار الانتحار ، أو كيفية اختيار ميمي لذلك المحب المدعو صالح، فبالرغم من أن العلاقة بصالح هي علاقة البطلة الوحيدة مع الحب داخل النص. لكن العلاقة نفسها كان بها الكثير من التعرجات والعراقيل والتردد، والأمنيات، والخذلان، والفشل. وأعتقد أن اختفاء صالح مع رحيل الأب صدفة هو ما جعل البطلة تسارع في مغادرة البيت ،بل إنه بدا لها هو الحل الوحيد كي تتخلص من أوجاعها، تماما كما كان تفعل مع أخواتها اللاتي كن يفضلن اللعب على سلالم بشتيل بدلًا من سلالم الحي الراقي حيث ينزعج السكان هناك ولما لا وتلك الدرجات الرخامية الفاخرة تخاف من القصص التي يقومون بتمثيلها عليها ،كما أن الخذلان قد عصف بمعظم قصص الحب فى تلك الرواية، ميمى وصالح، جينا ودكتور مجدي، انجريد ومحمد، يوسف وسارة، الأب والأم، ميمى وصالح.
اقرأ أيضًا:
كل هذه الكتب الجميلة .. تطاردنى !
الساحرة التى سرقت عقول كبار الأدباء فى العالم