أخذ مخدته متأففاً من هذا الحر الذى لا يطاق فى بيته الضيق الخانق،وذهب إلى الحديقة العامة لينعم بنوم هادىء وسط الأشجار والنسيم العليل،لقد خلق الله الطبيعة لكى ينعم بها الإنسان بشكل عام،فما بالك ب)ماركو فالدو(البائس الفقير!،تنشقّ ماركو هواء الشارع واخترق ضاحية صغيرة حتى وصل الحديقة ، كانت الدكة الخشبية المناسبة لنوم هادىء مشغولة بعاشقين يتجادلان فى مسألة غرامية وكان صوتهما مرتفعاً لدرجة أن “ماركو فالدو” عرف القصة كلها ، ويكاد يجزم بأن المسألة فى طريقها للحل ، فالفتاة بدأت تقتنع بأنه لم يُقبل الفتاة الآخرى،وأن ما بينهما لا يزيد عن صداقة ،وقبض على يدها وأنصرفا .
وصل الدكة بهدوء ووضع مخدته حيث ترتاح رأسه، لتبدأ أحداث ليلة رهيبة من القلق والهواجس التى تتراءى له من لافتات النيون الضخمة التى تحيط به من كل مكان .
هذا هو”ماركو فالدو” بطل العمل الخالد والأعظم للإيطالى”إيتالو كالفينو”،بطل مهزوم ولا يكف عن ابتكار وسائل الانتصار التى تزيد الهزائم سخرية وضحكاً من واقع أليم وضع العالم كله بثرواته ونزواته ورفاهيته فى قبضة الأثرياء وترك فقراء المدن وأبناء الضواحى النائية فى قلب أوربا يعيشون فى بدائية تثير الحزن والشجن.
لا يتوقف ماركو فالدو عن الحلم،فها هو يلمح الكنز المدفون فى قلب الطبيعة وهو يتوجه إلى عمله فى الصباح، كيف لم يلحظ هذا العطاء الكريم من الطبيعة؟!، إنه “عش غراب”ينمو على حواف الطريق بعيداً عن عيون الجميع ،يا الله!، وترآى لماركو فالدو أن العالم البائس الذى يحيط به ويخنقه أصبح كله قطعة من الكرم والثراء المدفون فى باطن الأرض،وكأن هناك من الحياة أشياء مازال بالإمكان انتظارها إضافة إلى الراتب الشهرى الشحيح ،لقد صبر ماركو فالدو كثيرا،واحتمل الفقر ورفض الانغماس فى الرذئل وها هى السماء تُنعم عليه بعش الغراب،العلاج السحرى لكل أزمات العائلية.
وعندما عاد إلى البيت فى المساء اجتمع بالعائلة وأبلغهم بالخبر السعيد،ونظر إلى أطفاله الأصغر سنا، والذين لم يكونوا ليعرفوا ما تعنيه كلمة “عش غراب”أصلا، وراح يشرح لهم وبحماس بالغ، عن الأنواع العديدة لهذه النبتة، وعن جمالها الآخاذ، عن رهافتها وطيب مذاقها، وطريقة طبخها،الأمر الذى جذب زوجته إلى أن تنخرط فى محادثة لم تكن مؤمنه بها أساسا،فقد بدأت تشعر هى الآخرى بأن النعيم قادم وأن وجبات عش الغراب ستكفى البيت أياما،ليس هذا فحسب، عش الغراب سيكون مشروع المستقبل ستجنى العائلة بكل جهدها عش الغراب وسيتم تجهيزه للبيع وربما التصدير.
واستحسنت العائلة أن تجرب العشاء الدافىء بعش الغراب وبوصفات ماركو فالدو بالطبع ،كان ذلك فى الثامنة مساءً،وفى التاسعة تماما، كانت العائلة بكامل عددها فى المستشفى تُجرى عملية غسيل معدة بعد تناول كميات من عش الغراب المطبوخ ، وينتهى حلم ماركو فالدو الذى كان كريماً مع كثيرين من سكان الحى وشجعهم على قطف ثمار عش الغرب الذى نضج وغطى مساحات واسعة !
هكذا هى حياة ” ماركو فالدو” فى فصول مدهشة وممتعة كتبها ” إيتالوا كالفينو ” بعد تأمل طويل لحياة البائسين والمشردين والفقراء حول المدن الفارهة التى غطت العالم مع صعود الولايات المتحدة الأمريكية ورويداً رويداً تحولت إلى وحش رأسمالى بشع غارق فى التكنولوجيا والتجارة والصفقات الضخمة لشركات متعددة الجنسيات تحتل العالم بالألوان والإعلانات والتلوث والصخب وتدهس الفقراء وتجردهم من حقوقهم فى الهواء والطعام والهدوء، وتفرض عليه هذا النمط الاستهلاكى القاتل ،ماركو فالدو مثل كل هؤلاء الذين يتشبثون بالأرض انتظاراً للحياة .
وحتى عام 2008 لم أكن أعرف عن الكاتب الإيطالى ” إيتالو كالفينو” سوى اسمه ،ومع صدور روايتى “ودع هواك ” لفت نظرى عدد من النقاد إلى وجود تشابه كبير بين كتابتى وأسلوب هذا الكاتب!، ولم يكن من اللائق أن تظل معرفتى بالكاتب الشهير متوقفة عند الاسم فها نحن نتشابه!، وقرأت “ماركو فالدو ” فى ترجمة لا أتذكر اسم صاحبها وإن كان وجود اسم فخرى صالح كمراجع هو ما بقى فى الذاكرة،وبدأت علاقتى مع كتابات السيد إيتالو تتطور،وعندما أصدرت دار ميريت ترجمة للعمل نفسه بعنوان “نوادر ماركو فالدو” فتحت الصفحات الأولى اختبر هذا المترجم ” المحمود إبراهيم “الذى أقدم على ” إيتالو كالفينو” المعروف بخفة الدم والسخرية المؤلمة من الواقع، والتهمت الصفحات حتى وصلت إلى الصفحة الأخيرة واتصلت بالناشر والصديق محمد هاشم أسأله عن رقم تليفون هذا المترجم المبهر الذى تخيلته شاباً خفيف الروح لم يتجاوز الأربعين ،وكانت المفاجأة ، فقد رحل ” المحمود إبراهيم “عن عالمنا منذ سنوات!!، وكان الفضل فى ظهور تلك الترجمة ونشرها شقيقه الفنان الريس ” زكريا إبراهيم ” الذى رحل هو الآخر منذ شهور رحمها الله رحمة واسعة، وظللت أسعى وراء المحمودى حتى عرفت أن الصديق علاء كمال كان مقربا منه ووعدنى بكتابة مقال عن ذلك الرجل المبهر الذى أضاف إلى ترجمة نوادر ماركو فالدو الكثير من الفلفل المصرى واستخدم العامية فى أجزاء لا تصلح معها سوى عبارات مثل ” فى ستين داهية .. ليلة كُحل ..”، ثم إن شخصية ماركو تبدو مصرية أكثر منها أمريكية أو إيطالية . وتلك هى روح المترجم
اقرأ أيضًا:
ماذا تعرف عن الأديان غير السماوية؟