اللوحة للفنان سمير رافع
استفاض المستشرق فى الكتابة عن حى المنيل القاهرى العريق،وخطف عقل فتاة شابة فعرضته على صديقتها التى هى (نداهة المنيل) أو البطلة فى القصة التى حملت عنوان هذه المجموعة القصصية اللطيفة التى تكشف خبرات واسعة للكاتبة تاميران محمود التى اعتمدت على مخزونها الثقافى والمعرفى فى بناء قصصها،فمن القصة الأولى (البهو) تكشف موظفة الاستقبال عن ثقافتها،فهى تراقب النزلاء وتصنع صورة ذهنية لكل شخصية،مشغولة دائما بتسجيل يومياتها وقراءة الروايات كأنها وحيدة فى هذا البهو المتسع،وأول حوار يدور بينها وبين أحد النزلاء يكون عن المرأة ورؤية توفيق الحكيم لها فى مؤلفاته،وتصحيحها لما كان يظنه النزيل من تعبير (عدو المرأة)،فمن البداية أنت مع كاتبة متمرسة ولا يمكن أن تكون تلك القصص عملها الأدلى الأول!،تستطيع تاميران صناعة قصصها من مخزونها المعرفى،وعليك أن تستعد لما هو قادم،وهذا حسن،وعظيم،فقد تخّوفتُ كثيراُ قبل قراءة هذه المجموعة لما يجمعنى مع الكاتبة تاميران محمود من مودة،فماذا سأقول لو جاءت المجموعة لا توافق ذوقى و مزاجى؟!،ولكن ها أنا أعبرمعها من البهو إلى سوق الخضار حيث نلمح بعيون البطلة بائع الكرنب المفتول العضلات الذى يلمع العرق على جبهته فيبدو كتمثال عظيم يثير شهية البطلة التى تبدو كملكة غارقة فى البرفانات وتهىء نفسها كعاهرة آثارها هذا البيان الجسدى،فتقترب من الكرنب وتطلب كرنبة بدلال الهوانم ،ثم تطلب رقم تليفونه،وتتركه وتمضى ،وتجلس معنا لتنتظر مكالمته فى شغف وحرقة،ويتصل بائع الكرنب ونستعد لمشاهدة لقاء حميمى فاتن بين الكرنب والآيس كريم،حتى نكتشف أنها تعمل بمجال الإعلانات وأنها مشغولة بالبحث عن شخصية تناسب إعلانات عن ملابس داخلية،وأن القصة ستبدأ من هنا!،من محاولة إقناع بائع الكرنب بالوقف أمام الكاميرات مرتديا الفانلة واللباس!كانوا قد صنعوا منه شخصية جديدة من اهتمام ورعاية وملابس جديدة تجعله نجما قادما ومطاعم فخمة وعطور وفلوس،لكنه عند هذه اللحظة تعطل!،وراح يصرخ كالملدوغ،وراحوا يحاولون تهدئته ،ثم نكتشف أنه يخجل من الظهور عاريا لأسباب كوميدية لا علاقة لها بتقاليد الصعيد والمعانى الكبرى: ( يا ست هانم بلاش قلع الخلاجات ده لو الناس شافونى مش ها اعرف أبيع كرنب تانى)!
نبوية فى القصة التى حملت اسمها، لا تختلف كثيرا عن حال بائع الكرنب،سينقذها فنان كبير من بيوت الدعارة يحولها إلى موديل،ثم يرسم لها حياة هانئة مع زوج يصونها على ئان يبقى الفنان بجوارهما، وهى من القصص المستلهمة من حياة الفنان الكبير محمود سعيد،ومع قراءة قصص تاميران محمود الصادرة عن داربيت الحكمة، ستجد هذا الأمر كثيراً،القديم يعيش فى الجديد،والفلكور الشعبى يستيقظ ليقوم بدور الحكاء،لاشىء قديم ،وها أنت فى ساحة عامرة بالمفاجآت والشخصيات والنماذج البشرية المختلفة، وبالعودة إلى نداهة المنيل ،فالقصة عن الحنين إلى مكان عاشت فيه بطلة القصة وحفظت شوارعه وعرفت أسطورته وشكل البائعين والمتسولين وأماكن تواجدهم، تعرف كم شجرة تحيط بميدان الباشا وكم شارع يؤدى إلى كورنيش المنيل حيث هواة الصيد ينتظرون فى صبر واستمتاع سمكة صغيرة ،والمستشرق يكتب عن رائحة روث وشحاذين وتجمعات أصولية!،
ـ أنت لا تعرف المنيل يا مسيو جازيو.
تقول البطلة العارفة بأسطورة المنيل،وهى تكاد تخرج لسانها للفرنسي بيير جازيو وكتابه (نداهة القاهرة) الذى كتبه عن فترة اقامته في المنيل، وليس لجازيو فقط ،بل لكل مستشرق يحاول الكتابة عن أحياء نعرفها من رائحتها،وهكذا قصص تاميران التى لابد وأنها جربت كثيراً قبل نشر هذه المجموعة،فهناك كاتبة تعرف كل شىء عن فن القصةوتجيد تسخير هذا الفن ليعبر عن أفكارها من خلال أبطالها،مريم التى تبدو أمامك كأرملة تبحث عن معاش زوجها بين أروقة المكاتب الحكومية فى قصة(ما قالته مريم)،ليست كذلك،فهى فتاة ثلاثينية تحرص على أناقتها وتحظى باحترام كبير من زملائها فى العمل، لكنها الآن وهى تتحدث بغضب كما العادة مع خطيبها مالك، بدت عجوزا شمطاء،غاضبة ترطن بشتائم وتكاد دموعها تخنقها بينما خطيبها يركب سيارته ويغادرها لتسرح قليلا قبل أن تخبطها سيارة خبطة صغيرة،فتتماسك حتى وهى تكاد تسقط على الأرض فينزل صاحب السيارة ويصمم على توصيلها إلى المكان الذى تريده بعد هذه الغلطة غير المقصودة،وفى الطريق من مصر الجديدة لإإلى مقر عملها بالزمالك تتحول كآبتها رويداً رويداً إلى سعادة وانتشاء بمغازلة لطيفة من صاحب السيارة اللطيف فى حديثه والذى يجبرها على أن تكون أكثر لطافة فيطلب منها أن تشاركه سماع أغنية تختارها ثم يتحدث عن حبه للحيونات وتتحدث هى قطها الصغير وينسجما حتى تصل وتشكره على التوصيلة فيمد يده أصابعه إليها بكارت،تتطلع لتعرف بياناته حتى تتلاشى ابتسامتها حين وجدت تحت اسم الشاب الوسيم عبارة كابتن أوبر!!
تشعر مريم بأنها ارتكبت خطأ ما،وأن عليها الآن أن تبحث عن ظل رجل آخر غير خطيبها،فتتصل بوالدتها وتطلب منها الموافقة على(حمزة) العريس الذى جاءت به خالتها!،هى لاتحب حمزة مثلما تحب مالك،لكنها بحاجة لرجل يظل إلى جوارها ولو مضطرا.
اقرأ أيضًا:
الساحرة التى سرقت عقول كبار الأدباء فى العالم