يا له من عذاب يا فرنشيسكا ؟يا له من عذاب، كان عليها فى تلك اللحظة أن تحكى لولدها وابنتها عن الرجل الذى أحبته،!،كيف تعترف بما جرى معه فى الحقل وتحت ضوء الشموع فى غرفة المطبخ؟ كيف لها أن تصف ما جرى لها منذ التقت هذا الرجل ؟وكيف تحكى لهما عن والدهما الذى خانته قبل أن تخونهما؟شىء من المرارة والحزن والألم والدموع .
(لابد أن تفهما أننى أحببت والدكما،حباًهادئاً،كان طيبا معى ،ومنحنى إياكما،وأنتما كنزى فلا تنسيا ذلك،أما هو (روبرت كينكيد)فلم أر طوال حياتى شخص مثله،لا سمعت ولا قرأت عن شخص مثله.. من المستحيل أن علىّ أن أجعلكما تفهمانه تمام الفهم، أنتما لستما أنا،وكان لابد أن تكونا قريبين منه،أن ترياه،وهو يتحرك،أن تسمعاه وهو يتحدث).
(أعلم أن الأبناء يميلون للاعتقاد بأن آباءهم وآمهاتهم كائنات لا علاقة لها بالجنس تقريبا،لذلك أتمنى ألا يصدمكما ما سأقول،..فى مطبخنا القديم قضينا ساعات معا،وتحدثنا ورقصنا على ضوء الشموع..مارسنا الحب هناك فى غرفة النوم وفوق العشب والمرعى.. كانت ممارسة غير معقولة،قوية،فاقت كل حد،وقد تواصلت لأيام،من غير انقطاع).
حبست أنفاسها كثيرا،وكادت روحها تخرج منها وهى تكتب رسائلها لولدها وابنتها ،كانا قد كبرا وعرفا أن أبوهما (ريتشارد)طيب جدا،لكنه لم يكن يهتم كثيراً ولاقليلاً لأمر أمهما، حتى أن كل ما جرى مع الرجل الغريب كان فى غيابه المستمر عن البيت.
وبالفعل لم يكن ريتشارد يبدى اهتماما بالجنس لإ لماما،مرة أو أثنتين كل ثلاثة أشهر، كان الأمر ينتهى بسرعة،ويتسم بالبدائية ولا يكاد يحرك فيها ساكنا ،لم يهتم بشأن عطرها أوإزالة شعر ساقيها أو أى من تلك الأمور،لذلك كان من السهل عليها أن تتراخى فى الاعتناء بنفسها.
وأنا من الذين شاهدوا فيلم(جسور ماديسون) قبل قراءة الرواية بسنوات ،كان الفيديو هو رفاهية التسعينات قبل عصر الأطباق ،ونوادى الفيديو تحفظ أشكال زبائنها وتهدى إليهم أفلاما يحجزونها خصيصا،وكنت محظوظا عندما وجدت الفيلم الذى نصحنى به الصديق والكاتب هانى هنداوى، والعجيب الغريب أن كلينت إيستوود هو البطل والمخرج والمنتج وهذا زاد شغفى،ومن يومها ولا يوجد مشهد فى الفيلم لا يدهشنى بروعة الست مارى ستريب ورعشة شفتيها وهى تجرب الحب كما لم تتذوقه قبل أربعين عام!،وجبروت كلينت ايستوود النحيف إلى درجة الذوبان فى الحب مثل قطرات المطر التى كانت تهطل بغزارة على زجاج سيارته بينما يفارق حبيبته بدموع تتحول إلى سيول وأنهار بكاء فى عيني فرنشيسكا.
القصة تبدأ من المصور الفوتوغرافى (روبرت كينكيد ) الذى يعمل بنظام التعاقد مع ناشيونال جرافيك ،جاء بسيارته ومعداته إلى المقاطعة لتصوير جسور ماديسون والبحث عن الجسر السابع المغطى منذ الحرب العالمية،وحين توقف أمام بيت ريفى يسأل صاحبته الأربعينية،انقلبت الدنيا فى لحظة وانطلقت فى الفضاء رائحة حب خريفى ،ووجدت فرنشيسكا نفسها تتخلى عن خجلها وثقافة المكان الذى انتقلت إليه من إيطاليا منذ زواجها وينفلت لسانها لتقول له : “يسرنى أن آتى معك ” !،وبدا لها صوتها غريبا كما لو كان ينتمى لشخص آخر سواها ،إلى صبية مراهقة تميل ناظرة من شباك بيتها القديم فى نابولى
هذا هو جوهر الرواية التى كتبها ” جيمس والر” بعد أن استقبل فى مكتبه شاب وفتاة جاءا إليه ومعهما حكاية والدتهما التى تركت مذكراتها ورسائلها المتبادلة مع مصور الناشيونال جرافيك،وأنتجها وأخرجها “كلينت استوود” للسينما وقام ببطولتها أمام المبدعة الكبيرة ميريل ستريب، وتلك هى أجمل ترجمة يمكن أن تقرأها للرواية إذ إن المترجم ” محمد عبد النبى” كاتب روائى واسع الخيال والحضور واختيار الأعمال التى يترجمها يأتى من هذه المنطقة حتى وإن كانت دار الكرمة ساهمت بمجموعة المبدعين القائمين عليها فى هذا الاختيار، ولو وصلت هذه الترجمة لمؤلف الرواية السيد “روبرت جيمس والر” لرفع قبعته وقال إن شابا عربيا اسمه “محمد عبد النبى “ترجم روايته كما لو كان هو مؤلفها،ربما كنت مبالغا بحكم غرامى بالفيلم منذ شاهدته للمرة الأولى منتصف التسعينات ،ومن يومها حفظت اسم “ميريل ستريب” ، ليس لجمالها الآخاذ ولا لقدرتها على تجسيد دور فرنشيسكا الزوجة التى تقع فى الغرام وتنتابها رعشة الحب والخجل وهى تدخل الأربعين بكامل مشمشها وخوخها وضميرها الذى يلدغها كلما استفاقت من سكرات الهوى،ولكن لأسباب آخرى تضاف إلى كل ذلك،فقد
أحبت ميريل ستريب فى بداية حياتها جون كازال الممثل الموهوب ،وقعت فى غرامه وجعلت من قصتها معه أسطورة تتحاكى بها هوليود ويرفع لها “روبرت دى نيرو” القبعة، مؤكداً أنه لم يشهد فتاة تضحى من أجل الحب مثل ميريل
،كانت شابه تفتح لها استوديوهات هوليوود أبوابها ويتنبأ الجميع بموهبة غير مسبوقة تعلمت وتدربت على يد جون كازانى الموهوب الذى يمتلك ثقافة واسعة جعلته نجما استثنائيا بين كل عظماء هذا الجيل ،لم تكن تفارقه لحظة ليس فقط لأنه أستاذها وحبيبها العبقرى الذى تتفاخر بحبه،ولكن لأنه مريض، يتاكل جسده النحيف يوما بعد يوم، يضمر وتتلاشى ابتسامته ويسعل أكثر مما يتنفس ،حتى سقط السقطة الكبرى ونقلوه إلى المستشفى ، ولم تتردد ميريل وهى تعتذرعن استكمال عمل جديد سافرت لتصويره !،حزمت حقائبها وجاءت إليه وبقيت معه حتى تدهورت حالته الصحية وجاء رفقاء الشباب ليكونوا بجوار صديقهم فى محنته ودفع “روبرت دى نيرو” نفقات العلاج وقدم بعضهم الورد والهدايا ،وعادوا إلى منازلهم واستديوهاتم وبقيت ميريل حتى احتضن كازال يدها وهو يودع الحياة ويتركها فى انهيار استمر طويلا وخرجت منه وتألقت وحصدت الجوائز،وبقى كازال فى شرايينها ولم تغادرها ذكرياتهما يوما .. كما ستبقى تلك الترجمة البديعة .
اقرأ أيضًا:
جسور ماديسون .. الحب كما قال المطر!