بدأت أطياف الخيال تداعب سعيد شيمى من شرفة البيت التى كان يرى من خلالها مواكب قصر عابدين ، شاهد موكب عودة القوات المصرية التي خاضت حرب 1948 في فلسطين, وموكب جرحي رجال البوليس في مدينة الإسماعيلية, وما ترتب علي حريق القاهرة وما تم بعدها من إجراءات في ميدان عابدين أمام السراي الملكية يوم قيام ثورة 1952 وما تلاه.
وهكذا عاش يعيد شيمي في جو خاص مبكر مشبع بالأحاسيس الوطنية. وعرف من تاريخ أسرته أن والده حفيد علي فهمي باشا أحد أقطاب الثورة العرابية الذي نفي إلي جزيرة سيلان مع أحمد عرابي ورفاقه وتشتت أسرته وأملاكه. كما أن جده محمد سعيد شيمي (الذي يحمل سعيد اسمه من بعده) نفي من مصر عام 1914 مع الخديوي عباس حلمي الثاني, لكونه ضابطًا مناوئًا للاستعمار الإنجليزي مناضلًا من خلال الحزب الطني القديم من أجل استقلال مصر.. وخاله الأصغر عبد الرحيم قويدر كان قد تطوع في حرب فلسطين عام 1948 وحصل علي رتبة عسكرية شرفيًا. وعانت الأسرة كثيرًا من كل هذا, ولذلك كان أبوه يحاول دائمًا أن يبعده عن حب العسكرية وان يصبح طبيبًا مثله.
حكاية ( ميمى ) صديق الطفولة الذى أصبح محمد خان !
ظل الوالد يحلم لابنه بمستقبل حتى مرضت الوالدة ، فقرر الأب أن يصطحب سعيد وأختيه إلي دور السينما الكثيرة المنتشرة في ذلك الوقت في حي عابدين وحول العتبة وشارع عماد الدين من أجل الترويح عنهم بعد رجوعه من العيادة وفي الأجازات الصيفية. وكنوع من تعويض غياب الأم ،وهكذا اعتاد سعد شيمي منذ سن مبكرة مشاهدة الأفلام الإيطاليه والفرنسية والإنجليزية إلي جانب الأفلام الأمريكية والمصرية بطبيعة الحال, حتي الأفلام الهندية كانت قد بدأت تشغل بعض شاشاتنا في تلك المرحلة. وكان إهتمام سعد أكثر ما يكون وقتئذ بأفلام الحركة. وكثيرًا ما قام الشجار بينه وبين أخته الكبري لاختياره مشاهدة فيلم حركة وهي تريد مشاهدة فيلم رومانسي لليلي مراد أو سوزان هيوارد. وكان صديقه ميمي يؤيده في اختياره الآخر مشغوف بمشاهدة أفلام الحركة. وكانت عائلة هذا الصديق علي علاقة حميمة بعائلة سعيد ويجمع بينهما حب مشاهدة الأفلام. وميمي هذا هو محمد خان الذي أصبح بعد ذلك مخرجًا سينمائيًا مرموقًا، وقد استمرت العلاقة بينهما وطيدة طوال الوقت.
عندما أصيب السيد الوالد بالشلل فى السينما!
تسربت السينما إلى دماء سعيد شيمى ، أصبح مهووسا بتلك الشاشة السحرية :
عالم غريب فانتازي حالم خيالي تشاهد فيه كل شيئ،وتفرغ طاقتك كطفل وتطلق لخيالك العنان بلا حدود.. كان جلوسي دائمًا بجوار والدي في دار العرض لكي يمسك يدي بقوة طوال المشاهدة حتي لا أنفعل بأحداث الفيلم وبجدني فوق الكرسي الذ أمامي, أو ضاربًا بالبوكس من يجلس بجانبيزز وكثيرًا ما كنت اقترب ناظراً إلي الشاشة العملاقة وكان يدهشني أن أجد أن الصورة أصبحت كبيرة الحبيبات مليئة بالنقاط الملونة أو السوداء وأصبحت الوجوه والأجسام أكبر ، وأخذت أسجل كل فيلم أشاهدة في دفتر خاص وأعطيه درجة من تقديري, وأجمع صور إعلانات الأفلام من الصحف والمجلات, وأعيد تمثيل بعض المشاهد مع أصدقائي أولاد الجيران.. بل إنني ابتكرت من صندوق الأحذية الكرتوني شاشة عرض مصغرة, فكنت افتح فتحة مستطيلة في واجهة الصندوق ومن خلال عمودين رفيعيين من الخشب شمال ويمين الفتحة من الداخل ألف الصور المسلسة من مجلة (علي بابا) و (سندباد) علي أحد العمودين واشد الصور بعد لصقها في تسلسلها من العمود الآخر لتمر أمام الفتحة وأروي ما يدور علي الأولاد الجالسين وكأنهم في دار عرض.. وقد اقفز من فوق الدولاب كالشجيع معترضًا صديق طفولتي ميمي (محمد خان) متعاركًا معه, وكانت نتيجة إحدي هذه القفزات كسر ذراعي ).
لكن الحياة لم تبخل بالدراما ، فقد أصيب والد سعيد شمي بالشلل أثناء مشاهد أحد الأفلام مع أبنائه !،فجأة انتهت الطفولة السعيدة البرئية وأصبح الواقع شيئًا آخر مرًا. فالوالد طبيب لا يملك إلا رزق يومه من العمل في عيادته, بل كان في أحيان كثيرة يعالج مرضاه بدون مقابل إذا استشعر منهم ضيق ذات اليد.
يصف سعيد شيمي تلك المشاعر برقة وعذوبة :
بموت أبي في صيف 1959 عشت في وحشه كبيرة, فحتي وهو مريض كان يشعرني بالحماية, كان عطوفًا محبًا لأولاده وخاصة ان والدتي كانت غير موجودة معنا كما سبق ان ذكرت. وكانت عمتي الكبيرة تشرف علي تربيتنا. وفي نفس هذا العام قرأت في الصحف عن افتتاح المعهد العالي للسينما في 24 أكتوبر ولم أكن أعلم أن السينما علم يدرس ولها معهد أكاديمي وقلت هذا هو طريقي في الحياة.
وكانت مرحلة الدراسة الثانوية في مدرسة النقراشي النموذجية بحدائق القبة هي الفترة التي بدأ فيها سعيد شيمي ممارسة هواية التصوير الفوتوغرافي بإهتمام, مع المزيد من مشاهدة الأفلام السينمائية ولكن بقدر أكبر من الوعي والاختيار
خالى أجبرنى على العمل بائع فى (قويدر )
دارت الدنيا ،وانتقل صديقه محمد خان للإقامة مع عائلته في لندن, فاستمرا في التراسل بخطابات فنية عما يشاهده كل منهما من أفلام وما يستجد من أخبار. كان محمد خان نافذة علي السينما العالمية بالنسبة لسعيد, وكان سعيد نافذة مستمرة علي السينما المصرية بالنسبة لمحمد خان.
وفي إحدي مرات التراسل مع محمد خان خلال عام 1963 أرسل له سعيد شيمي إعلانًا منشورًا في الجرائد عن شركة من شركات المؤسسة المصرية العامة للسينما التابعة للقطاع العام تطلب فيه شبانًا مؤهلين للعمل في السينما. واتصل محمد خان بالشركة فرحبت بتعيينه فيها, فحضر إلي مصر وعمل في الشركة في لجنة القراءة, وهي قسم جديد أنشأه رئيس الشركة في ذلك الوقت المخرج الكبير صلاح أبو سيف وضم مجموعة من بعض المهتمين بالسينما لإبداء رأيهم تحت قيادته في النصوص المقدمة للشركة لتحويلها إلي أفلام سواء كانت النصوص في صيغة قصة أو سيناريو. وكانت هذه اللجنة تضم عددًا من الذين أصبح لهم شأن هام في السينما المصرية بعد ذلك, من بينهم إلي جانب محمد خان, أحمد راشد ورأفت الميهي وحورية حبيشة وأحمد قناوي وسيناء الغزالي ومسعود أحمد وعبد العزيز غنيم وفخري صلاح الدين.. وأصبح هؤلاء فيما بعد ضمن الدفعة الأولي والأخيرة من خريجي معهد السيناريو الذ أنشأة المخرج صلاح أبو سيف أيضًا.
وبعد انتهاء سعيد من الدراسة الثانوية تقدم إلي إمتحان القبول في المعهد العالي للسينما, ولكن بالرغم من توفيقه في اجتياز كل الاختبارات لم يتم قبوله!! فتقدم إلي كلية الآداب بجامعة القاهرة وقبل في أكتوبر 1963 والتحق بقسم التاريخ, وكان معه في القسم نفسه فاروق الرشيدي وإمام عمر, أما صديق الدراسة وليام دانيال فقد التحق بقسم الصحافة بالكلية نفسها.
وعندما عرف أكبر أخوال سعيد والذي أصبح ولي أمره أنه كان ينوي الاتجاه لدراسة السينما أعتبر ذلك دربًا من الجنون من ناحية سعيد, إذ كان هذا الخال يفضل أن يتجه سعيد إلي التجارة, وبناء علي ذلك ألحقه بالعمل في أحد محلات قويدر للحلويات الشرقية التي يملكها أخواله في وقت فراغه مقابل مكافأة شهرية بعد أن جعله ينتقل للعيش في بيت جده عند والدته.
لكن الفتى المفتون بالسينما لم يتوقف عن البحث عن فرصة حتى تعاقد في عام 1966 سعيد شيمي كمساعد بأجر للمصور السينمائي سمير حسين خريج معهد السينما, أثناء تصوير الفيلم التسجيلي ( الطريق إلي حلوان) من إخراج محمد سعيد, الذي تعرف عليه في جمعية الفيلم (والذي هاجر بعد ذلك إلي استراليا) وكانت هذه المهمة هي أول علاقة لسعيد بعالم الاحتراف تقاضي عنها مبلغ 30 جنيه.
لقاء شادى عبد السلام وبداية المشوار
وجاءت علاقته الثانية كمحترف عقب ذلك مباشرة عندما تعاقد سعيد علي العمل مساعدًا للمصور محمود عبد السميع ( الذي تعرف عليه عن طريق عضوية جمعية الفيلم) في العام نفسه عند بدء تصوير فيلم (الإيقاع) من إخراج صبحي شفيق وإنتاج شركة فيلمنتاج.
ومع نكسة 1967 فكر سعيد شيمي في وضع سيناريو تفصيلي لفيلم يحمل أسم (العار لأمريكا) يعتمد علي مجموعة من الصور الفوتوغرافية في تسلسل وتعاقب في أحجام مختلفة يؤدي إلي وصول المضمون إلي المتفرج. وبذل سعيد جهدًا شاقًا في ليلة واحدة في اختيار الصور وتخيل أحجامها والأجزاء المقصودة من كل منها حتي أصبح الفيم في صورته النهائبة مكتملًا في ذهنه وعلي الورق. وتم تصويلا الفيلم بألد تصوير الرسوم المتحركة والخدع (التروكاج), وذكرت عناوين الفيلم أنه من إخراج سعد نديم وأحمد راشد وكان كل ما نسب إلي سعيد شيمي هو إعداد الصور.
وفي سبتمبر 1967 تقدم سعيد شيمي للمرة الخامسة كعادته السنوية التي بدأها عام 1963 إلي اجتياز امتحان القبول بالمعهد العالي للسينما, وجاءت المفاجأة هذه المرة بقبوله ضمن طلبة قسم التصوير وكان ترتيبه في القبول الأول وكانت أبية فريد هي الثانية في الترتيب, وبناء علي هذا الحدث ترك سعيد دراسته في الجامعة وتفرغ لدراسة الفن الذي كان مصممًا من قبل علي أن يكون هو مهنته في مستقبل حياته, كما ذكرت من قبل.
وكان العمل التالي لسعيد شمي كمحترف هو القيام بمهمة مصور في فيلم ( التعليم في مصر) من إنتاج مركز الأفلام التسجيلية والقصيرة ومن إخراج أحمد راشد وتصوير محمود عبد السميع.
وأثناء حرب الاستنزاف التي دارت في منطقة قناة الثسويس سافر سعيد شيمي ليشترك في تصوير فيلم عنها من إخراج فؤاد التهامي, وكان سعيد مكلفًا بمهمتين في هذه الحالة: أن يعمل مساعدًا للمصور محمود عبد عبد السميع عند التصوير بكاميرا 35مم, وأن يعمل مصورًا منفردًا بكاميرا 16مم ليسجل لقطات صالحة لنفس الموضوع. وكان هذا خلال عام 1968.
وفي 1970 أتيحت الفرصة لسعيد شيمي وكان مازال طالبًا بالسنة الثالثة بمعهد السينما لكي يصبح مدير تصوير في مجال الاحتراف, عندما اختاره الفنان شادي عبد السلام مدير المركز التسجيلى وقتئذ ليتولي تصوير فيلم عن صناعة الزجاج من إخراج أحمد متولي, المونتير المشهور حاليًا. ولكن الفيلم الذي كان يحمل اسم (الزجاج المصري) لم يكتمل.
وفي عام 1971 تخرج سعيد من المعهد العالي للسينما بتقدير جيد جدًا, وكانت الفرصة سائحة لكي يتولي مسئولية تصوير فيلم أو أكثر من أفلام التخرج لزملائه من طلبة قسم الإخراج بالمعهر. وكان نصيب سعيد أن تولي تصوير فيم (أزمة) من إخراج إسماعيل راغب وفيلم (طيور بلا أجنحة) من إخراج حسين عمارة. كما قام أيضًا بتصوير فيلم (مدينة) من إخراج سامي السلاموني, بصفة خاصة حيث كان سامي يتخرج وقتئذ من دفعة الجامعيين (دراسة عامين فقط بدلاً من أربعة أعوام). والأفلام الثلاثة من مقاس 16مم ناطقة وبالأبيض والأسود.
اقرأ أيضًا:
سعيد شيمي..ماهذا الجمال يارب العالمين!
جين فوندا.. ودراما البحث عن أب !
حكايات للسيد الوزير عن فرقة باليه دار الأوبرا
كيف ألفت مسرحية “حسن ومرقص وكوهين” مع نجيب الريحاني؟