كان مصطفى إسماعيل في أوائل العشرينيات من عمره عندما استقر في منزل بمدينة طنطا مستجيبا لاتساع شهرته في مديرية الغربية كلها، ولم يتوجس خيفة من وجود عدد كبير من القارئين المشهورين في طنطا أمثال الشيخ عوض والشيخ شفيق شهبة والشيخ محمد السعودي والشيخ محمد العقلة وغيرهم ..
وهؤلاء القراء جميعا سبق للشيخ مصطفى إسماعيل أن قرأ معهم في المناسبات والمآتم وهو بعد صبي في السادسة عشرة من عمره، ويروي الشيخ مصطفى هذه النادرة الطريفة عن أول مناسبة جمعته بهؤلاء الق راء الكبار.
“كان السيد حسين القصبي من أعيان طنطا ومديرية الغربية كلها ، وكان عضوا بمجلس الشيوخ ، ومن ميزاته أنه كان شديد التذوق للقراءة المؤداه بالصوت الحسن والفن الجميل ، وبلغ من إعجابه بي وأنا في نحو السادسة عشرة من عمري أنه جمع أكابر القراء في البلد وأجلسهم معه يستمعون لقراءتي…”
“وسافر السيد القصبي في منتصف العشرينيات تقريبا إلى اسطنبول للتصييف، فتوفى هناك ، وأعيد إلى الإسكندرية في الباخرة ، ونقل من الإسكندرية إلى طنطا بقطار خاص…”
“وكنت جالساً في بيتي بالجلباب ، وفوق رأسي طاقية ، إذ طرق الباب رجل من أسرة القصبي ودعاني لتلاوة القرآن في مأتمه مع الشيخ محمد رفعت وآخرين”..
“ورآني الرجل بجلبابي وطاقيتي ، فسألني : أليس عندك ملابس مثل ملابس المشايخ.. عمة.. جبة.. قفطان.. كاكولة؟!… فقلت له: عندي كل هذه الملابس، ثم أحضرتها وارتديتها وذهبت معه إلى السرادق الضخم المقام لمآتم السيد القصبي…”
“لم تكن الميكروفونات تستخدم في العشرينيات ، فكان الجمهور يجد صعوبة في التقاط أصوات القراء ، فقلت في نفسي، سأسمعهم صوتي بوضوح إن شاء الله!..
ولما انتهى أول القراء من تلاوته نزل من الدكة فقفزت أنا وجلست مكانه، فنظر نحوي قارئ يدعى الشيخ حسن صبح، ونهرني قائلا: انزل يا ولد .. هو شغل عيال؟!..
“وتشبثت بالدكة ولم أنزل حتى حضر أحد أقارب السيد القصبي وقال للشيخ حسن : هذا قارئ مدعو للتلاوة الليلة ،
فسكت الشيخ حسن على مضض!..
وكانت قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل في هذه الليلة التي أحتشد فيها صفوة أهل مديرية الغربية وأكابر أعيان عاصمتها طنطا ، بداية حقيقية لانطلاقه في طريق الشهرة الواسعة في الوجه البحري كله ، وحتى الإسكندرية وبورسعيد ودمياط ومدن الساحل ومدن منطقة قناة السويس …
ولكن هذه الانطلاقة لم تكن سهلة ولم تسلم من العقبات والعثرات ، فقد حاربه الذين أزعجهم نجاحه ، وكان أكبر ما يعيبونه به في ذلك الوقت صغر سنه، وتحاشي بعضهم القراءة معه في المناسبات ، وبعضهم كان ينسحب من السرادق إذا وجد الشيخ مصطفى إسماعيل هناك …
وفي سنة 1927 توفى سعد زغلول باشا قائد ثورة 1919 وزعيم الأمة المصرية، فأقيمت لتأبينه الاحتفالات في جميع أنحاء مصر، ومنها احتفال أقيم في دمياط ودعى إليه القارئ الشاب الذى اتسعت شهرته حينذاك ، وذهب الشيخ مصطفى إسماعيل إلى دمياط ، وقرأ في السرادق ، وهز مشاعر الناس بجمال صوته وأدائه ..
يقول الشيخ مصطفى إسماعيل وهو يتذكر تلك الأيام من شبابه:
“كنت في الثانية والعشرين من عمري عندما قرأت في السرادق المقام في دمياط لتأبين سعد زغلول باشا.
“وبعد أن فرغت من التلاوة ونلت استحسان الحاضرين ، اقترب مني الأستاذ محمد عمر صاحب المدارس المعروفة باسمه في دمياط ، وكان من علماء الدين ، ودعاني إلى تناول الشاي في منزله في بكرة الصباح ..
ولما ذهبت إلى منزل الأستاذ محمد عمر رأيت مصادفة فتاة صغيرة تطل من نافذة المنزل ، ولم أكن أعلم أن الأقدار قد كتبت لي أن أتزوج هذه الفتاة ..
ففي العام التالي عدت إلى دمياط ، وكان الأستاذ محمد عمر – والد الفتاة – قد توفى إلى رحمة الله ، فخطبتها من أمها وشقيقها الأكبر ، وكانت هذه شريكة حياتي ووالدة بناتي الثلاث وأبنائي الثلاثة…
وبفضل زواجي المبكر استطعت الصمود في طنطا ، واتسع نشاطي شمالا وجنوبا، حتى وجدتني في حاجة إلى “مكتب” لتنظيم مواعيد عملي والاتفاق عليها مع “الزبائن” … ففتحت مكتبا في شارع البورصة ، وأسندت إدارته إلى أخي الشيخ محمد…”.
ويضحك الشيخ مصطفى ويقول:
“… ثم تبين لي أن التليفون بالمكتب ضروري جداً ، ولم أكن استعملت في قريتي إلا تليفون دوار العمدة …
وتقدمت بطلب تليفون لمكتبي في طنطا ، وتليفون آخر لمنزلي بميت غزال ، وسرعان ما حصلت لمكتبي على التليفون رقم 9 ، أما تليفون منزلي بميت غزال فتأخر بعض الوقت ، إذ لم تكن هناك “كابينة” للتليفونات متصلة بميت غزال، وكان موظفو التليفونات من المعجبين بي فأنشأوا كابينة خاصة مدوا منها خطا إلى منزلي بميت غزال ، وكان رقمه “1” لأنه أول تليفون دخل القرية بعد “تليفون الحكومة” في دوار العمدة.. وهكذا أصبح الاتصال بمن يطلبونني سهلا ، سواء كنت في طنطا أو في ميت غزال…”
وبقية القصة يكملها عاطف مصطفى إسماعيل أكبر أنجال القارئ الشهير ، فيقول:
“لبث عمي الشيخ محمد يدير مكتب والدي في طنطا ثلاثة أعوام ، حتى كبرت انا قليلا ، فكنت أقضي عطلتى الدراسية السنوية كل عام في مكتب والدي بطنطا، أرتب مواعيده بدقة ، وكانت مواعيده محجوزة دائما لشهر مقدما .. وكان والدي يضطر احيانا إلى الموافقة على القراءة في الليلة الواحدة في مكانين مختلفين”…
وفي الليالي المتلاحقة كان يستمع إلى الشيخ مصطفى إسماعيل أحيانا بعض القادمين من القاهرة إلى مديرية الغربية، وكان السفر بين الأقاليم حينذاك لا يحدث إلا لضرورة، فكان عدد هؤلاء المستمعين القاهريين قليلا ، بل نادرا ، إلا أن أحدهم، واسمه محمد العوايجي سمع الشيخ مصطفى ذات ليلة فأبدى إعجابه الشديد به، وتعرف عليه وصار صديقا له ، فلما توفيت والدة الرجل اتصل تليفونيا بالشيخ مصطفى ودعاه إلى القراءة في مأتمها بالقاهرة … وكانت هذه أول دعوة يتلقاها الشيخ مصطفى إسماعيل للقراءة في القاهرة ..
وبعدها صار للقاهرة مع الشيخ مصطفى إسماعيل حديث طويل لم ينقطع منذ تلك الليلة إلى أن لبى الشيخ نداء ربه بعد تلك الليلة بأربعين عاماً تقريباً .
…
كمال النجمى
كتاب: مصطفى إسماعيل حياته
الهلال
اقرأ أيضًا:
دموع الأميرة فايزة على كتف صلاح سالم!
ماأحلى وأمتع اختيارتك وكتاباتك يا أشرف من زماااااان أتوق لقراءة كل مايتعلق بهذا الشيخ الجليل والدنيا تخدني وأنسى .
لك كل الشكر والله يرحمه هو والأستاذ النجمي