ها قد وصل إلى أهرامات الجيزة، يا لها من سعادة بالغة فقد عبرّ الصحراء من أسبانيا إلى إفريقيا وجاء فى رحلة شاقة للغاية إلى هذا الكنز المدفون كما رآه فى الحلم ،وهاهى الشجرة التى كان يبكى عندها ،والعرّافة كانت صادقة فيما قالت،لقد ترك أغنامه فى الكنيسة المهجورة وظل يتتبع الإشارات والتنبيهات حتى وصل ..وهاهى أهرامات الجيزة بالفعل،وراح يحفر بحثا عن الكنز المدفون فى سعادة بالغة،وفجأة حدث ما أعاده إلى الكنيسة المهجورة من جديد .
هكذا وبتلك الإثارة يمكنك أن تدخل إلى عالم باولو كويليو
فى روايته الخالدة (السيمائى ـ أو الخيميائى ) التى ترجمها بهاء طاهر.
فهذا الراعى الطيب (سانتياجو) الذى يجلس أمامك يتحدث إلى أغنامه سيكون بطل الرواية، والصبى الصغير الذى يأتيه فى الحلم ويتحدث إليه عن الكنز المدفون فى أهرامات الجيزة سيأتيه كل ليلة وفى كل مرة يتركه قبل أن يحدد له مكان وطريق الكنز .
مسكين سانتياجو، لكنه أسطورة ،حتى الفتاة التى رآها مرة واحدة حين كان يقص صوف الخرفان عند أحد التجار ستظل تراود أحلامه وسيبحث عنها محاولاً أن يتذكر الطريق إلى بيت التاجر، لكنه الآن يتحدث إلى أغنامه كما ترى وينادى كل خروف باسمه وكل معزة باسمها.
سانتياجو،لم يكن طفلا مشردا قبل أن يصبح راعيا للأغنام كما فى الأفلام ، لكنه تعلم اللاتينية،وحرص والده على تعليمه اللاهوت، لكنه ظل يحلم بأن يجوب بلاد الله كلها،فقال الأب : ذلك يحتاج مالا كثيرا يا ولدى، أو أن يكون المرء راعيا حتى يستطيع السياحة فى البلاد ،وقال سانتياجو لأصبح راعيا .
في اليوم التالى جاءه أبوه بصندوق فيه عملات إسبانية،
وقال له: اشترِ بها قطيعًا، واضرب فى الأرض، إلى أن يأتى اليوم الذي تعرف فيه أن قصرنا الذى لا يعجبك هو أحق القصور بعنايتك، وأن نساءنا هن أجمل النساء .
وانطلق سانتياجو فى رحلته ،لكنه قرر أن يبحث فى بداية الطريق عن العجوز الغجرية التى يمكنها أن تفسر له الحلم الذى يراوده كل ليلة عن صبى صغير يأتى إليه ويلعب مع الخرفان والمعيز ويأخذه بيديه إلى أهرامات مصر ويقول له : لو وصلت إلى هنا ستجد كنزا عظيما !وفى كل مرة يصحو من المنام قبل أن يعرف مكان الكنز فى الصحراء الواسعة!
،قالت العجوز: إنك إذا ذهبت إلى أهرام مصر فستجد الكنز، ولن أطلب أجرًا الآن، بل أريد عُشر الكنز،وجعلت سانتياجو يُقسم على ذلك.
قرر سانتياجو ألا يصدق ذلك، وجلس ليقرأ، وحين بدأ يحس بروعة ما يقرأ وجد عجوزًا يجلس جواره ويحادثه ببساطة، وأخبره بعد ذلك أنه ملك مدينة (سالم)، وأخذ يحدثه عما ينبغي أن يفعله حتى يصل إلى حلمه ويحقق أسطورته الذاتية، لكنه طلب منه أن يأتيه في الغد بعشر غنمه حتى يعلمه كيف يصل إلى الكنز المخبوء، ثم اختفى في واحدة من زوايا الميدان!
في اليوم التالي باع سانتياجو خرافه؛ ليتزود بالمال لرحلته،واستبقى ستة من الخراف أعطاها للعجوز، وانتظر أن يخبره كيف يحصل على الكنز، فقال له الرجل: الكنز في مصر بالقرب من الأهرام!.
أحس سانتياجو أن الرجل يخدعه، لكن العجوز واصل كلامه: ولكن انتبه للعلامات.. إنها ستساعدك لتحقيق أسطورتك الذاتية وتحقيق حلمك، ثم قال له: سألخص لك الأمر في قصة توضح سر السعادة :
يحكى أن واحدًا من التجار أرسل ابنه ليتعلم سر السعادة عند رجل حكيم، وقطع الصحراء للوصول إليه ووجده في قصر كبير، ودخل على الرجل الذي طلب منه التجول فى القصر ليرى أثاثه وغرف الطعام العامرة،والبساتين المزهرة،لكنه أعطاه ملعقة فيها نقطتان من الزيت وقال: تجول كما تشاء،ولكن لا تسقط قطرتي الزيت!، فجاءه بعد أن تجوَّل في القصر دون أن يسقط قطرتي الزيت، لكنه لم يستطع أن يستمتع بجمال القصر،ثم راح الفتى مرة ثانية، وأوصاه الحكيم أن يشاهد ما في البيت من بساتين وجمال وطعام، لكنه لما عاد كان قد سكب نقطتى الزيت!
قال الرجل العجوز: إن سر السعادة هو أن ترى روائع الكون، ولكن دون أن تسكب قطرتي الزيت!.
جلس الشاب في مقهى بعد أن بلغ إفريقيا عبر المضيق، وأخذ يفكر في رحلته المنتظرة، وتعرف على شاب ليكون له دليلًا للوصول إلى مصر،وسرعان ما وعده ذلك الشاب برحلة قصيرة من الغد، وبعد أن أخذ المال تحيَّن غفلة من سانتياجو وفر هاربًا بالمال!
بكى سانتياجو على حاله الذي تغّير بين عشية وضحاها، ونام في الميدان يفكر:هل يعود من حيث أتى أم يكمل مغامرته في البحث عن الكنز؟،استيقظ ليجد الباعة ينصبون منصاتهم للبيع، فساعد رجلًا يبيع الحلوى، فأعطاه قطعة من الحلوى التهمها مغتبطًا ومقاومًا إحباطه وضياع أمواله،فعمل في هذه المدينة العربية عند بائع كريستال كاسد الحال،وبعد فترة بدأ العمل ينتعش وأقبل الناس على الشراء من المتجر، وأصبحوا يقدمون الشاي للمشترين في آنية الكريستال كخدمة إضافية اقترحها الشاب على البائع العربي، فانتعشت تجارة المتجر أكثر، وأخذ الشاب يدخر المال على مر الشهور، ليستطيع أن يشتري غنمًا جديدة بعد أن أخذ يفكر مرة أخرى في أن يتخلى عن رحلة البحث عن كنز.
أعدّ سانتياجو عدته ليرحل، لكن التاجر العربي قال له: لا تتنكر لأحلامك..وخرج الشاب إلى الشادر، وأحس بثقة كبيرة بعد أن جمع أموالًا أكثر مما كان معه، وشعر أن ما حدث كان مقدرًا أن يحدث لحكمة يجهلها،وقرر أن يسأل عن الطريق إلى الأهرام من جديد، وتذكر كلمة كان يقولها تاجر الكريستال العربي في طنجة ليدل على نفاذ القدر: (مكتوب).
وجد قافلة ستذهب إلى الفيوم، وكان في القافلة رجل إنجليزي يقرأ في كتب السيمياء، ويبحث عن سيميائي عربي يستخدم السيمياء ليحول المعادن إلى ذهب.. تبادل سانتياجو الحديث مع الإنجليزي، وعلم كل واحد منهما هدف الآخر: الإنجليزي يبحث عن السيميائي،وسانتياجو يبحث عن الكنز.
سارت القافلة في الصحراء أيامًا طويلة،حتى وصلت عند غابة كبيرة من النخيل،فتوقفت القافلة وهبط المسافرون لايصدقون وجود واحة وسط الصحراء،وكانت واحة كبيرة توقفت فيها قوافل كثيرة وأعدت الخيام،ونزل سانتياجو بصحبة الإنجليزى فوجدا فتاة تملأ جرة لها عند البئر،فوقع حبها في قلبه مباشرة،وعلم أنها هي المرأة التي سيرتبط بها قدره،كما عرف الإنجليزى أن السيمائى الذى يبحث عنه موجود بين هذه القوافل لكنه لا يعرف كيف يصل إليه.
وفى المساء نام سانتياجو فرأى فيما يرى النائم أن جيشًا يُغِير على الواحة، فأبلغ مجلس رؤساء القوافل بذلك، فصدقه البعض، وكذبه البعض، وقرروا أن يتخذوا حيطتهم، وقاموا بتوزيع السلاح، لكن الشيخ القائل قال: إن لم يكن ما قلته صحيحًا، استخدمنا السلاح ضدك!.
خرج سانتياجو إلى الصحراء، فقابله فارس ملثم وسأله عن الرؤيا التي رآها، فتعجب سانتياجو،كان ذلك هو السيميائي الذي قال له : لو احتفظت برأسك غدًا، فتعالَ لتقابلني بعد غروب الشمس.
في الصباح أغار خمسمائة فارس على الواحة التي استعد فيها ألفا رجل لذلك، وقُتل الأعداء،وأُعطى الشاب خمسين قطعة ذهبية، وفي المساء انطلق لمقابلة السيميائي الذي ذكره بحلمه وبتحقيق أسطورته الذاتية، وأن حبه للمرأة وجمعه للمال لا يعني أن يتخلى الإنسان عن حلمه، بل يتشبث به، فتخلى الشاب عن تردده، وانطلق مع السيميائي في الصحراء ليدله على الوصول إلى كنزه
تحدث سانتياجو والسيميائي كثيرًا في رحلة الصحراء، وكان يشعر بالخوف والحزن والحنين إلى المرأة والرغبة في الرجوع، فقال السيميائي: استمع لقلبك وأحلامك، فقال الشاب: لماذا ينبغي أن نصغي إلى قلوبنا؟ فقال السيميائي: لأنه حيث يكون قلبك يكون كنزك.
استمرا بالتوغل في الصحراء ساعات وأيامًا، وقلب الشاب يحدثه بأشياء كثيرة، وينفتح على أسرار الصحراء والكون، وأحس بالخطر، وأبصروا جنودًا كُثرًا أحاطوا بهم وأسروهم، فأعطوهم المال حتى لا يقتلوهم، وسمع سانتياجو السيميائيَّ وهو يقول للقائد العربي الذي أسرهم: أمهلنا ثلاثة أيام وسترى عجبًا، كيف أن هذا الشاب سيحول نفسه إلى ريح، واشتد رعب سانتياجو، لأنه لم يكن يعلم كيف يحول نفسه إلى ريح!
سأل السيميائيَّ عما قاله، فقال: أنت ستنقذنا!وصمت!،فراح يتحدث إلى الصحراء طوال الأيام الثلاثة،وجاءت اللحظة المرتقبة،وأدرك سانتياجو أن يد الله،وأن القدرة العلوية هى التى ستساعده ،وأخذت الرمال تتجمع، وتعسرت الرؤية،وغرق سانتياجو فى صلوات علوية خاشعا حتى انقشعت الرمال وهلل الناس لكنهم لم يجدوا سانتياجو فى مكانه،بل كان بجوار أحد الجنود الواقفين!، وسمح القائد لهما بالانصراف ليكملا رحلتهما، ليظل الناس بعد ذلك يتحدثون عن الفتى الذي تحول إلى ريح
فى طريقهما،حكى السيميائي لسانتياجو قصصًا عن أناس تركوا بصماتهم في العالم، وكان لهم أدوار هامة،وقام بتحويل بعض المعدن إلى ذهب أمامه، وأعطاه بعضًا منه أكثر من ماله الذي ضاع ،وكان قد قرر أن يعود من حيث جاء ليترك سانتياجو يعثر على كنزه،وقال وهو يودعه:
لكل إنسان في هذا العالم دور رئيسي، ولكنه في العادة لا يدرك ذلك.
وأخيراً ..وصل سانتياجو إلى الأهرام، وبينما كان يحفر عند سفحها في موقع بكائه الذي كان علامة على الكنز،وجد رجالًا فوق رأسه، أخذوا ذهبه، وقال له أحدهم: ستعيش وتتعلم أن الإنسان يجب ألا يكون غبيًّا، لقد حلمت في موضعك هذا مرتين حُلمًا أني أذهب إلى كنيسة مهجورة فى إسبانيا يضع فيها الرعاة أغنامهم،وفي موضع هيكلها شجرة جميز،وهناك سأجد كنزًا مطمورًا، لكني لست من الغباء بحيث أعبر الصحراء؛ لأني رأيت الحُلم نفسه مرتين!!
لم يحزن سانتياجو،فقط،عاد إلى
الكنيسة التي كان ينام فيها مع أغنامه ومعه جاروف،وأخذ يحفر أسفل الشجرة، فوجد كنزه المنشود،عملات ذهبية إسبانية، وأحجار كريمة، وتماثيل مرصعة بالماس، ابتسم وفكر أن الحياة سخية لمن يعيش أسطورته الذاتية، تذكر أنه ينبغي أن يذهب إلى تاريفا ليعطي الغجرية عشر كنزه، وشعر أن الريح ترسل له نسمة من المرأة العربية التي أحبها في الواحة فقال: إنى قادم.
حقا .. الحياة تريد أن تصهرك لكى تصبح أنت أيضا مثل الذهب ولهذا تختبرك بالمحن قبل أن تعطيك كنزك الموعود لك .
من أقوال باولو كويليو
لكى تصل إلى السر لابد أن تنفذ إلى روح العالم ،لا يلزمك حتى أن تشق الصحراء لكى تفهم ، يكفى أن تتأمل ذرة واحدة من الرمل ففيها كل بدائع الخلق
ـ وما السبيل إلى ذلك؟!
اصغ إلى قلبك فهو يدرك كل شىء لأنه آت من روح العالم وسيرتد إليها ذات يوم
ـ ولكن قلبى مضطرب ،يرى أحلاما ..ويعشق فتاة .. ويحرمنى من النوم أحيانا .. قلبى خائن .. قلبى يخشى أن يتعذب
ـ قل له إن الخوف من العذاب أسوأ من العذاب نفسه ، وإنه ما من قلب قد تألم وهو يسعى إلى تحقيق حلمه،لأن كل لحظة من البحث هى اقتراب من الله ومن الأبدية .
السيمياء .. ليست تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب ، كل ما فى الكون يتطور لكن الذهب لم يتطور بل أصبح رمزاً للجشع .. عندما يرتقى الكائن فإن كل ما حوله يتطور ..الحياة تريد أن تصهرك لكى تصبح أنت أيضا مثل الذهب ولهذا تختبرك بالمحن قبل أن تعطيك كنزك الموعود لك .
السيمائى
باولو كويليو
ترجمة بهاء طاهر