أنت الآن فى السبعينات ،والبنات المراهقات فى السعودية يحلمن مثل باقى المراهقات فى الكوكب،ويبحثن عن أماكن للعب والمرح،فكيف كانت تعيش فتيات السبعينات ؟ والحياة الاجتماعية .. كيف كانت فى المملكة آنذاك ؟والعلاقة بين القاهرة والرياض كيف كان شكلها ،وكيف كان الآباء والأجداد فى المملكة ينظرون إلى القاهرة:ماذا كانوا يستمعون ويشاهدون؟!، أليس كل ذلك جديراً بعمل درامى عظيم؟
” بدرية البشر” الروائية والكاتبة الصحفية الحاصلة على دكتوراه فى الفلسفة،تقدم فى روايتها “غراميات شارع الأعشى” صورة متكاملة عن المجتمع السعودى فى تلك الفترة،فإن كانت البطلة تمثل جيل السبعينات، فإن الأب نموذج لجيل الكبار الذين أحبوا مصر واعتبروها عاصمة النور والأمل فى النهوض بأولادهم وأحفادهم ،أما شقيق البطلة “إبراهيم” الذى يدرس فى الجامعة المصرية فهو جيل آخر من السعوديين الذين عادوا يحملون رائحة القاهرة بأضرحتها وطقوسها وسهراتها، وبشكل عام ترصد التغيرات الاجتماعية مع ظهور التليفزيون ، وتضيف إلى حكايات الحب المستحيل ـ التى عاشها أبطال الرواية ـ متعة اكتشاف عوالم آخرى لا نعرفها، فبين سطور الرواية خبايا وأسرار مجتمع يشاهد الحب عبر شاشة التليفزيون ،وخيال مراهقات صغيرات أصبحت مصر بأفلامها ومسلسلاتها وأغانيها نافذة الحياة لهن ، تقول البطلة :
” أفكر فى عالم أشبه بالأفلام المصرية التى أشاهدها مساءات الخميس على تليفزيوننا بالأبيض والأسود .. وقد منحت خيالى صوراً شاهدت نفسى أركب الباص كما تفعل سعاد حسنى وآكل الذرة على شاطىء النيل مثل فاتن حمامة …” .
تبدأ الرواية من هذه الفتاة البريئة “عزيزة” التى تحكى عن عائلتها ووالدها المفتون بصوت المطربة “نجاة” والذى يختلف كثيراً عن رجال كثيرين فى السعودية يلعنون “الغناء “ويكرهون “البنات “،وبعبارات قصيرة نتعرف على طبيعته :
“.. أما والدى فيحب كل شىء قادم من بلاد مصر والشام ،كما يقول،ويحب سماع الراديو طول الوقت،لم أشاهده يوما إلا والراديو بين يديه،مرة يسمع أغنية لأم كلثوم، ومرة أخبار القاهرة أو لندن .. يعود كل يوم من عمله يحمل صحفا ويعلق قلمين فى جيب ثوبه ، وبعد صلاة العصثر يجلس فى مجلس الرجال، حيث يضع كتبا كثيرة فى رفوف عُلقت على الجدار ويقرأ من رياض الصالحين والشافعى ونهاية التاريخ ، يحب التغنى بأشعار القدماء أمامنا .. ويخبرنا أن أهله وجماعته عاتبوه حين لاحظوا أنه يختصنا باسماء تبدأ بحرف العين مثل “عواطف وعزيزة وعليه وعفاف”،وترك اسم والدته واسماء آمهات المؤمنين،ثم قال إنه يحب البنات لأن من يخصه الله ببنتين ويربيهما ويحسن تربيتهما يدخل الجنة،وهو لديه أربعه بنات وولدين” فواز وإبراهيم ـ الغائب ” .
البطلة الصغيرة التى يحمل اسمها طابعا مصرياً خالصا استوحى منه محمد عبد الوهاب مقطوعته الراقصة الأشهر والأجمل “عزيزة ” أصبح العالم كله بالنسبة لها هو مصر،أصبح خيالها واسعاً وامتلكتْ قصصا وحكايات استخدمتها فى جلسات السمر:
” لقى مسرحى الذى كنت أقيمه على السطح فى السهرة كل خميس قبول بنات جيراننا ، أجلسهن فى صفوف ، كما يجلس المتفرجون ، ثم أنشر شرشفا على حبل الغسيل بينى وبينهم ، اختفى وراءه ، وألبس ثياب شخصياتى المقلدة ، أرفع الشرشف وأخرج عليهن وقد لففت جسمى بوشاح أسود ، ألقى طرفيه فوق ساعدى ثم أمشى وأنا أميل بخاصرتى يمينا ويساراً ومرة أربط حول حوضى شالا ثم أبدأ فى الغناء والرقص ، أغنى ” خلى بالك من زوزو.. زوزوو”،ومرات أبكى مثل فاتن حمامة فى أفواه وأرانب وأصرخ قائلة :”هو أنا مش بنى أدمة زيكم برضه ؟!”.،لكن بنات الجيران يحببن أكثر أن أقلد لهن إسماعيل ياسين وحين أفعل تنتشر بينهن موجة كبيرة من الضحك”.
لا تكتفى الروائية الكبيرة “بدرية البشر” بتلك الإشارات المهمة فى روايتها إلى مصر ودروها فى فتح نوافذ المعرفة أمام أجيال فى المملكة ، فإن كانت البطلة تمثل جيل السبعينات ، فإن الأب نموذج لجيل الكبار الذين أحبوا مصرواعتبروها عاصمة النور والأمل فى النهوض بأولادهم وأجفادهم ،أما شقيق البطلة ” إبراهيم ” الذى يدرس فى الجامعة المصرية فهو جيل آخر من السعوديين الذين انخرطوا فى الحياة المصرية مبكراً ، ويظل هو علاء الدين بالنسبة للبطلة ، فكلما يعود من القاهرة ترقص الحياة وتضىء القلوب بفرحة وهو يتحدث عن شوارعها وبيوتها ويحمل هداياها العظيمة :
” فتح إبراهيم حقيبته الجلدية الكبيرة وأعطى والدى معطفا رماديا ببطانة ذهبية لامعة ، وقدم لوالدتى قماشة مزينة بالورود الحمراء والزرقاء مثل ثياب فاتن حمامة وهند رستم ، وأعطى فواز فانلة كروية كان قد طلبها منه مطبوع عليها اسم فريقه ومجلة تحمل صور أبطال فرق الكرة العالمية وأعطى لأختى الصغيرة ثيابا جديدة ، ثم مدّ عواطف بحقيبة مكسوة بفرو ناعم من الجلد منقط كجلد النمر ، ثم أخرج من الحقيبة آخر الهدايا حذاء ذهبى بكعب عال تدمغ باطنه قطعة صغيرة من قماش كتب عليها بالعربية : “صنع فى مصر” ، مدّ الحذاء نحوى وهو يبتسم لى ، شهق قلبى أعرف هذا الحذاء جيداً يشبه الحذاء الذى تلبسه سعاد حسنى ، الكعب نفسه من الفيلين الرفيع من الأمام والعريض من الخلف ، هذا الحذاء هو الذى ينقصنى ،مهما لبست مثل سعاد حسنى ومهما لونت وجهى بالأصباغ فإننى لا أكون سعاد حسنى إلا بهذا الحذاء ، الآن صرت أشبهها تماما ، هذا الحذاء هو العلامة الفارقة بينى وبين باقى الفتيات لا يستطعن أن يلبسن حذاء صنع فى مصر.
وتستعير الكاتبة خيوط الدراما المصرية حتى وهى تسخر مع البطلة”عزيزة ” من فقدان بصرها فجأة في ليلة عاصفة محملة بالغبار. ، ففى العيادة الطبية تطيل الإصغاء إلى صوت الدكتور “أحمد “هى لا تعرف صوت من يشبه، حسين فهمى أو رشدى أباظة أو شكرى سرحان؟ لكنها بعد شفائها تغرم به، ليس لأنه مصرى ، ولكن لهجته المصرية تسكب الحنان ليصبح حديثه دافئاً ،ولكن عائلتها ترفض الارتباط به لتصبح قصتها أكثر دراما ،وتفكر :هل تهرب معه إلى بلاده وتغير اسمها كى لا يعرفها أحد، تماماً كما فعلت تحية كاريوكا؟.