عاد الفنان محمود رضا من مهرجان الشباب بموسكو 1957، ومعه ميداليات المركز الثالث وشهادة كبيرة موقعة من الجنة الحكام وعلى رأسهم الفنان الروسي إيجور موسييف، وكان على قناعة بأن نجاح المشاركة بالعرض الاستعراضي “يا ليل يا عين” لم يكن بسبب براعة الفرقة، ولكن لجنة الحكام شاهدت لأول مرة فنون شعبية استعراضية مختلفة سواء في الموسيقى أو الملابس أو الرقص، وأن لا طريق للعالمية إلا بإخراج الفنون الشعبية المصرية من صورتها البدائية إلى منطقة العلم والدراسة والتدريب المنظم.
في بداية ستينيات القرن الماضي، أنهى محمود رضا فقرات برنامج الفرقة وقدمها لهيئة الإذاعة والتليفزيون روائع: “مولد الحسين، بنات الإسكندرية، عسكري المرور، قطار الثورة”، وعرضت كلها مرة واحدة في مهرجان التليفزيون بالإسكندرية، وبعد مقابلة حاسمة مع مدير الإذاعة كونها الجهة الرسمية المسؤولة عن فرقته، طلب منه برنامج جديد للفرقة، وخرج من عنده مهموما يفكر في لوحات الموسم الجديد، فالراجل كان يأمل في أن يستمر عرض البرنامج القديم 6 أشهر.
بعد طرح عشرات الأفكار في جلسات أعضاء الفرقة، استقر الرأي على إخراج برنامج جديد يتكون من لوحات غنائية راقصة تحكي تفاصيل الفنون الشعبية للمحافظات، ورفض “محمود رضا” طرح أعضاء الفرقة تنفيذ المشروع من خلال كتابة أغنية لكل محافظة يضع لها الفنان على إسماعيل تصورات موسيقية صعيدية وأخري إسكندرانية وثالثة نوبية، وصمم على السفر مع الفرقة لكل المحافظات ليكون قريب من مصدر الكلمة والرقصة ليخرج العمل في النهاية مشابه تماما للحقيقة.
وفي اليوم التالي حمل محمود رضا آلات التصوير والتسجيل، وركب قطار الصعيد مع 4 من أعضاء الفرقة في رحلة استمرت 30 يوما، ولما دخل عليهم مفتش القطار طلب التذاكر، وبعد جلس على كرسي خالي بجوار النافذة وبدأ يغني موال حزين: “ليل يا عين.. من بعد ما كان عنبة في إيدي اتلاقاه.. اليوم حجروه عيني ما شايفاه.. الزول يعمل إيه ما دام اللى حبه جافاه.. يبطلها المحبة م اللى حصل كفاه”.
سجلت الفرقة من محطة أسيوط المشهد الأول لمفتش القطار، وفي قنا انشغلت بطوابير الفلاحات في الطريق للنيل لملئ البلاليص، وطريقة لف الملاءة السوداء، ولما طلبت الفرقة من أحد المرافقين استئذان إحدى الفلاحات لتشرح طريقة لبس الملاءة رفض بشدة لأن التقاليد في الصعيد لا تسمح، وتطوع الرجل وذهب إلى منزله وعاد ومعه ملاءة ليشرح عمليا طريقة لبسها.
يا حلاوة ع الكرمبة
يحكي محمود رضا، أن البنات في نجوع قنا، يلعبن بعرائس من القش والطين والقماش، وفى درب صغير لعبت الفرقة مع مجموعة من البنات وغنت معهن: أول يا أختي.. كلتي واتنفختي// جوم يخطبوكي.. مالقيوش أبوكي// طظ فـ أبوكي طظ.. عمره ما داق الرز”.
وكانت هذه الأغنية البذرة الأولى التي بنيت عليها رقصة “ألعاب الأطفال” بعد أن أضيفت لها أغنية “الكرمبة” من محافظة المنيا: “يا حلاوة ع الكرمبة الله الله ع الكرمبة// آدي مشية بنت العمدة يا حلاوة ع الكرمبة.. وآدي قعدة بنت العمدة// الله الله ع الكرمبة.. وآدي رقصة بنت العمدة يا حلاوة ع الكرمبة”.
وفي طريق الفرقة للاستراحة جذبتهم أصوات قوية تأتي من موقع بناء، وكان العمال يلبسون حذاء برقبة من البلاستيك و”فانلة بيضاء بكم” ويلفون رؤوسهم بالشال الأبيض، ويخلطون الرمل بالزلط والاسمنت ويغنون في حضور رئيس العمال: “شد حيلك// أيوه يا ريس.. ربنا معاكم// أيوه ياريس.. همة شوية.. أيوه ياريس”، ولما يلمح رئيس العمال فتاة جميلة تمر بالقرب من عماله يبدأ في غناء لون أخر يجمع الرومانسية بالحنين للوطن والأهل: “ماتحاسب يا فلايكي قدامك الهويس// سبع صبايا شايلين البلاليص// ياوابور الساعة اتناشر لأكتب لك ورقة.. تسلم لى ع الحبايب وإخواتي الشققه// تسلم لي ع حبايبي وبزايد والدي// يا بنية إن خيروكي في البلد تاخدي مين// ما اختار إلا محبوبي واللي شاريكي مين”.
في الأقصر قضت فرقة “رضا” يوما كاملا في معبد الكرنك مع الفنانين والأهالي، وعلى أنغام الربابة والمزمار والطبلة شاهدت رقصة العصاية ولعبة التحطيب، وسجلت مع مشاهد العرض أغنية: “البنت بيضا.. وأنا حبيت.. يا ولدي يا ولدي.. بنار الهوى انكويت.. ضعيت مالي على حلالي.. ضعيت مالي وأنا أعمل إيه.. جاني الطبيب يداويني.. قالي طبيبي وأنا أعمل إيه”.
وفي نادي شباب أسوان، التقت الفرقة مع فناني النوبة الذين يعملون في الأقصر، وسجلت عشرات الأغاني منها: “حلوة من العلالي بصات.. خلتني اتقلب ع البساط.. يا لابسة الدهب رصات.. عايم على وين يا وزنا”.
وفي أسوان سار المركب بفرقة رضا على إيقاع الطبلة وتصفيق أهل النوبة، وحضرت حفل زفاف جمعت من خلاله عشرات الرقصات والإيقاعات، إضافة إلى رصد ملابسهم الخاصة في الاحتفالات، إذ كان الرجال يلبسون عمامات طويلة وجلباب أبيض قصير يظهر من أسفله السروال الأبيض.
اقرأ ايضًا: