صورة فوتوجرافية نادرة لجورج صند
لو أقسمت لك أن تلك السيدة كانت معبودة أكبر موسيقى فى العالم لن تصدقنى ، أما إن قلت لك إن عشرات من أدباء أوربا المقيمين فى باريس وقعوا فى غرامها فلن تصدقنى أيضا!، وتلك هى القضية المضحكة!،فأنت لا تعرف كيف تقع القلوب،وما هو مفهوم الجمال بالنسبة للرجل بشكل عام وفى كل بقاع العالم؟، قد تراها عادية وتخلو من الجمال،لكن هذه هى الحياة، المهم إن تلك الفاتنة اسمها (جورج صاند) وهو الاسم الذى اشتهرت بين الأدباء وفى الصحف، أما اسمها الحقيقى فهو “أورور دوبان” سيدة قصر” نوهان” الذى تحول إلى أشهر صالون أدبى استقطب أعظم الأدباء والموسيقين.
وحتى لا تظن أننى مستشرق أو أننى مشغول بالسيدة جورج صاند،فعليك أن تعرف أن الذى أوقعها فى طريقى هو ” شوبان ” ولا تظن أيضا أننى باحث فى الموسيقى، فالقصة باختصار كانت عملاً صحفيا تم تكليفى به واقتضى سفرى إلى أبوظبى التى كانت تقيم مهرجانا كبيرا احتفالا بشوبان،وسافرت بدعوة كريمة من الفنان الكبير(نصير شمة) والشاعرة لينا الطيبى وبصحبة أصدقاء من شعراء وروائيين،كان من بينهم الشاعر الراحل الكبير محمود قرنى والكاتب الصحفى إبراهيم فاروق والشاعر فارس خضر والشاعر السورى الكبيرمنذر مصرى
المهم أنه وبحكم عملى كان لابد من دراسة حياة شوبان لأتعرف على موسيقاه ، فقد فشلت،وقد فشلتُ فشلا ذريعا فى التعامل مع الكلاسيكيات الموسيقية العالمية ،أين أنا من شوبان ومزار وبيتهوفن وتشايكوفسكى والحاجات دى كلها؟! ،تلك ثقافة الرفاهية التى لا تضيف متعة قدر ما تضيفها بهجة صوت الست حورية حسن وهى تقف فى البلكونة لتغنى”من حبى فيك يا جارى” ، هكذا عشت سنوات طويلة من عمرى عدواً لما أجهل كما كل البشر ،فإن ذكروا السيمفونيات وبحيرة البجع قرقعت من الضحك ساخراً متهكما كعبيط القرية ،حتى وقعت فى الفخ ووجدت نفسى وجهاً لوجه مع ما أخشاه وأجهله، فقد وصلتنى دعوة لحضور مهرجان أبوظبى 2010 والذى أعلن عن احتفال ضخم بالمئوية الثانية لميلاد شوبان (1809 ـ 1849)،واستقدم المهرجان الفرقة الوطنية البولندية،وستنقل مسارح بولندا وقائع المهرجان فى بث مباشر من قصر الإمارات حيث مسرح الاحتفاليات .. ودقى يا مزيكا ، فكما هى علاقتى ببحيرة البجع والسيمفونيات كانت علاقتى بشوبان فلم أهتم بحياة هذا الموسيقى البارع ولا بتفاصيل كبيرة أو صغيرة عنه،ولم أكن أعلم أننى سأقع فى غرامه بعد أن قضيت سنوات عمرى سكراناً بموسيقى عبد الوهاب والقصبجى والسنباطى، ومغرما بالشيخ ياسين التهامى وعباقرة الغناء الشعبى محمد طه وشوقى القناوى وخضرة محمد خضر،ها أنا مع شوبان أو شاعر الموسيقى،ها أنا اكتشف كائناً خفيفاً يعبر الحياة بسرعة ويظل خالداً كل هذه السنوات!، أخذتنى قصة حياته،غروره رغم هزال المرض المبكر،عشقه لبولندا، مرارة الحب وقسوته،الموت المباغت، وتعلمتُ درساً مهماً: فلن تحب الموسيقى أو تتعاطاها إلا إذا عرفت كيف ولدت تلك النغمات، كيف بكى البيانو وهو ينثر دموع عاشق للحياة يعرف أن الموت يقف على الباب !.
وصلتُ مطار أبو ظبى قبل الافتتاح بساعة ونصف الساعة، وفى الفندق تهيأت تماماً لمقابلة روح شوبان، كنتً أتعثر فى ربط الكرافت وأنا سارح مع شاعر الموسيقى فريديريك فرانسوا شوبان، أراه طفلاً معتل الصحة يسمع نصائح الأطباء وتحذيرات الأسرة فيعزف مقطوعة الألم، وأراه شاباً فى العشرين يواجه مرض السل بصدر ضعيف وواهن، بينما تواجه بولندا كلها الاستعمار الروسى بثوار لا يملكون السلاح فتدهسهم الدبابات، ورأيته يرحل إلى باريس ليكتب مجد بولندا الموسيقى، ويصبح ذلك الفتى الحزين صديقاً للكبار فى فن الرواية والشعر “فكتور هوجو، بلزاك، بودلير..”.
وصلت مسرح قصر الإمارات فى الموعد، واصطفت الأوركسترا السيفونى للإذاعة الوطنية البولندية فى مهابة لتقديم أعمالاً مستوحاة من تراث”شوبان” الموسيقى، وسمعتُ صوت بولندا ينساب هادئاً، بينما مرارة المرض والضعف تصنع خلفية موسيقية، كانت المقطوعات تسجل نصفا من حياة قصيرة، ففى باريس اكتمل النصف الثانى الأكثر دراما، فما أن أصبح شوبان نجما كبيرا، حتى كان قلبه الواهن على موعد مع المتعة حين التقى الكاتبة المتمردة المسكونة بالعنفوان والجنون والعشق “أورور دوبان”و كان العالم يعرفها باسم “جورج صاند”، أماً لطفلين وعشيقة سابقة ل” دو موسيه، تمارس تمردها على القوانين والأعراف ولا تخشى أحدا،سيدة تتحدى مجتمعا كاملاً، وقبل كل ذلك هى سيدة قصر” نوهان” الذى تحول إلى أشهر صالون أدبى استقطب أعظم الأدباء والموسيقين.
وتذوق شوبان شهد المتعة فى حين كان شبح الموت يطارده، وقضيا سويا أجمل أيامهما فى جزيرة مايوركا الساحرة، جعلته ملكاً على عرشها وهتفت بموهبته فى كل مكان، وكتبتْ:” إنه لمن الممتع حقا أن يرى الإنسان يدى شوبان الصغيرتين وهما تمتدان لتسيطرا على مفاتيح البيانو.. ولكل أصبع من أصابعه الرقيقة صوت مميز، يجلس إلى البيانو ويحوله إلى حياة.. حياة حزينة كنفسه ومثل بلاده”. لكنها فجأة ومثل كل الخائنات الجميلات أطفأت الأنوار وسحبت نفسها من حياته وتحولت إلى أفعى تلدغ بقسوة قلباً واهناً وضعيفاً، وأحرقت رسائله وأخفت كل أغراضه وكل ما يذكرها به، حتى قيل أنها وهبت البيانو الذى كان يستخدمه إلى أحد الرجال المجهولين.
عاش سنتين فقط بعد رحيلها.. تحرك جسده كالظل فى قاعات الكونسير بباريس.. ولم يكن يحيا منه سوى عقله وأصابعه، وكانت كلماته الأخيرة: “وعدتنى أن أموت يوماً بين ذراعيها فلماذا أخلت بوعدها”؟.
اقرأ ايضًا: