وقال الهدهد لسليمان عليه السلام أريد أن تكون فى ضيافتى، قال سليمان :أنا وحدى؟!، قال :لا بل العسكر كله فى جزيرة كذا يوم كذا، فمضى سليمان إلى هناك فصعد الهدهد إلى جرادة وخنقها ورمى بها إلى البحر وقال يا نبى الله إن كان اللحم قليلاً فالمرق كثير ،فكلوا من فاته اللحم ناله المرق ،فضحك سليمان وجنوده من ذك حولاً كاملاً.
وهذا كتاب عن عالم كامل من الحيوانات والطيور والزواحف وأشكالها وأنواعها وطباعها من ذكاء وخداع للصيادين من بنى البشر ، كتاب فى الأدب والفكاهة والنوادر والتأمل ، وإن كان مؤلفه العظيم ” الجاحظ ” قد أسماه ” الحيوان ” إلا أنه أروع وأشمل من عنوانه .
ورغم قسوة اللغة أحياناً وغرابة التعبيرات فى كثير من الأحيان، إلا أن الصبر يجعلك تهنأ برحلة شيقة وممتعة ومدهشة أيضاً ،ولك أن تعرف أن “التنين ” إذا هلكت زوجته لم يتزوج وكذلك هى، والعنكبوت تنسج من جسدها شبكة لعرقلة الذباب والتهامه ،والثعلب إذا جاع وفقد القدرة على الحركة تماوت ونفخ بطنه فيحسبه الطير ميتاً فإذا وقع عليه وثب عليها، والخفاش ضعيف البصر فلا يطير إلا عند الغروب عملاً بمقولة ” ماهى خربانة خربانة ” فيضرب جناحيه فى الظلام ويصيب ما يصادف مصاً للدماء.
على أن الحديث عن ” الحمام ” أفضل ما فى الأجزاء السبعة من كتاب ” الحيوان ” ، وخيراً فعل الجاحظ حين أستفاض فى الكتابة عنه ، لنرى جمال وعظمة خلق الله فى رقة ” الحمام “.
هل آتاك حديث النملة والكوزبرة
يتنقل الجحاظ هنا وهناك متأملاً لحياة الحيوان ، فمن مراقبة النسور والطيور الجارحة فى السماء وكيف تعيش وتبحث عن طعامها إلى القوارض فى الأرض وما تفعل من عجائب وغرائب ،فاليربوع أو الجربوع لا يتخذ بيتاً أو جحراً إلا في الأماكن الصلبة ليس فقط لكى ينجو من سيول المياه إذا أنهمرت ولكن لأنه كثير النسيان فيحفر وبعمق بجوار صخرة أو شجرة ليتذكر مخبأه إذا خرج لطلب طعامه.
والضبة ـ أو السحلية شوكية الذيل ـ تبيض ستين بيضة ثم تسد عليهن باب جحرها أربعين صباحاً ثم تحفر عنهن وقد انشق البيض، والنسر كثير الشره فإذا امتلأ من الجيف لم يستطع الطيران فيثب وثبات متتالية مثل محترفى ألعاب القوى ثم يرفع نفسه طبقة طبقة في الهواء حتى يدخل الريح تحته فيرفعه.
والعُقاب وهو من الطيور الجارحة ويشبه النسور لا يشغل نفسه بالصيد بل يقف على موضع عالٍ فإذا اصطاد بعض الطير شيئاً انقضّ عليه فيهرب بجلده ويترك صيده .
وكذلك الحية لا تحفر موضعاً تسكنه ولا تهتم بذلك بل تأتى إلى المكان الذى حفره غيرها فتسكنه فينفر من المكان يتركه لها، ومن الحيات ما يغمس ذنبه في الرمل وينتصب قائماً نصف النهار في شدة الحر فيجيء الطائر فيكره الوقوع على الرمل لحره فيقع على رأس الحية على أنها عود فتقبض عليه
والأيائل ـ ومفردها أيل ـ تظهر لها قرون تكون سلاحها فى المعارك ،لكن القرن يذهب كل عام فيختفى”الأيل “حتى يظهر القرن ثانية ،فإذا قام فى موضعه سمن جسده وترهل فيمارس” الرياضة”ويجرى كثيراً مع نفسه ليذهب شحمه ولحمه فإذا استقام قرنه عاد إلى عادته الأولى ،وهو يأكل الحيات السامة فيعتريه عطش شديد فيدور حول الماء ويمنع نفسه عنه لعلمه بأن الماء يساعد على انتشار السموم وقد يعجل بهلاكه ،والفهد إذا سمن علم أنه مطلوب وأن حركته قد ثقلت فيختفى عن الأعين تماماً.
والنملة تدخر في الصيف للشتاء ثم تخاف على مدخراتها من العفن فتخرجه وتنشره ليضربه الهواء وربما اختارت ذلك في ليالي القمر حتى تستطيع القيام بالهمة تحت الضوء ، فقد تجد المكان ندياً وبه بعض الماء وهذا يجعل الحبوب تنبت ولن تصلح للطعام ، وساعتها سيكون عليها أن تنقر نقرات صغيرة وسط الحبة كأنها تعلم أنها تنبت من ذلك المكان ، وتفلقها نصفين فإن كان “كزبرة” فلقتها أربع لأن أنصاف الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب .
هل هناك أعظم من ذلك ؟ وهل حاسة الشم لدى النمل تصل إلى حد معرفة رائحة الكوزبرة ؟ ، نعم وأكثر ، فكلما تشممت النملة رائحة شىء سقط من يد الإنسان وعجزت عن حمله أسرعت إلى رفيقاتها تحمل رائحة الطعام ليساعدوها ،فلا تلبث أن تعود وخلفها جيش ليحمل شىء فى وزنه خمسمائة مرة .
فأر يقدم رشوة بالدينار لكاتب بائس !
وبينما الرجل يجلس وحيداً فى صومعته بعيداً عن الناس عاكفاً على النسخ أو الكتابة إذا به فى إحدى الليالى تخرج إليه فأرة كبيرة تجرى فى البيت وتتقافز دونما خوف ،
وظل الرجل وهو معروف بالصلاح والتقوى جالساً مكانه لا يتحرك ، وفجأة وضع ” طاسة ” كانت قريبة منه على إحداهما ، فجاءت الأخرى وراحت تدور حول الطاسة والرجل فى صمته ، فدخلت السرب وخرجت وفي فيها ـ فمها ـ دينار صحيح وتركته ،فانشغل الرجل بالنسخ لمدة ساعة أو أكثر ،ف رجعت وجاءت بدينار آخر وقعدت ساعة إلى أن جاءت بأربعة أو خمسة وقعدت زماناً أطول من كل نوبة ، وفى النهاية خرجت إليه من السرب وفى فمها جلدة كانت فيها الدنانير وتركتها فرفع الرجل الطاسة ففرت مع صاحبتها وأخذ هو الدنانير .
وهذه قصة من مئات النوادر التى تزين كتاب الحيوان ، وكما يفعل الجاحظ فى مؤلفاته جميعها ” البخلاء والعميان والبرصان …” فإنه ينقل صورة المجتمع الذى عاش فيه ، فقد كانت الدولة الإسلامية قد اتسعت مع الأمويين و ودخلت أمم عديدة وشعوب كثيرة في الإسلام ومعها ثقافات مختلفة وتعددت جلسات الفقهاء والشعراء والأدباء ،وانتشرت حالة فكرية فى كل الأمصار مهدت الأرض لميلاد ” المعتزلة ” الذين اعتزلوا الصراعات وانحازوا للعقل كمذهب ومنهج ، وانتقلت أفكارهم من البصرة إلى بغداد وخراسان واليمن والجزيرة العربية والكوفة، والرواية الشائعة حول اسم المعتزلة تقول إنها ظهرت بعد اعتزال ” واصل بن عطاء” مجلس “الحسن البصرى”، ومنهم الجاحظ نفسه الذى أنفق سنوات عمره متأملاً فيما خلق الله حوله من عجائب تعكس قدرته التى تحتاج عقلاً ناقداً وليس ناقلاً يتأمل قدرة الله فى الأرض وما تحتها وفوقها ، فأنت ترى بعض الحيوانات تجزع من الماء الصافى إذا مالت لتشرب منه ، ذلك لأنها ترى صورتها واضحة على صفحة الماء فتتعمد تعكيره ، الحمار والجمل والفيل يفعلون ذلك ، ومن هذه الدهشة جاءت فكرة النرجسية أو أسطورة نرسيس الذى ظل يتأمل صورته على صفحة الماء الرائق حتى أصيب بجنون العظمة ورأى نفسه أجمل مخلوقات الأرض .
وفى كل فصل من فصول الكتاب ستجد حكايات ونوادر مصدرها تلك الجلسات التى شهدها ذلك العصر ، لا تختلف قصة الفأرة والدينار عن قصة الهر والرجل الصالح فى خفتها وجمالها ، فيحكى الجاحظ أن هذا الرجل الصالح كان قد صلى الظهر وجلس يراقب “قطة ” قرب مجلسه ، وحاول أحد الجالسين زجرها لتقوم من مكانها فنهره الرجل وطلب منه أن يتركها ، وجاء موعد صلاة العصر والقطة على حالها لاتهتم بمن حولها ، فلما كان قبل غروب الشمس خرج جرذ ـ فأر ـ فوثب عليه القط فأخذه ، فقال الرجل :”من كانت له حاجة فليواظب عليها مواظبة الهر فإنه يظفر بها”.
ويلتقط الجاحظ أقوال الشعراء عن الحيوانات ، فقد قال أحدهم :
ويزعمون أن الذئب يبلغ من حذره أنه يزاوج بين عينيه إذا نام فيفتح إحداهما لتكون حارسه قال الشاعر
ينام بإحدى مقلتيه ويتقى … بأخرى الأعادى فهو يقظان هاجع
وكان الشاعر يقصد الذئب الذى نتخذه مثالاً للحذر والترقب ، فهو يغمض عين ويترك الآخرى مفتوحة حتى يغلب عليه النوم. والكلاب تتمتع بذكاء رهيب ، فإذا سقطت الثلوج واختفت الجحور ، ولم يعرف الكلب مخبأ الأرنب مثلاً فإنه يقف بعيداً يراقب أنفاس الحيوانات وهى تخرج على هيئة أبخرة من بعيد فيجرى نحوها ويصطادها .
……..
المعتزلة:
فرقة كلامية ظهرت فى بداية القرن الثانى الهجرى فى البصرة (أواخر العصر الأموى) وازدهرت فى العصر العباسى، اعتمدت على العقل فى تأسيس منهجها،وقدموه على النقل، فالعقل والفطرة السليمة تحدد الفرق بين الحلال والحرام .
….
المؤلف :
الجاحظ .. هو أبو عثمان عمرو بن بحر الليثى ،المولود بالبصرة (159ـ 255هجرية ) .
الكتاب : الحيوان