هذا رجل مصرى جليل يستحق التكريم كما يليق به، أحدثكم عن الأستاذ محمد محمد عنانى الذى وقعت بين يديّ موسوعته “طيور مصر” الصادرة عن هيئة الكتاب منذ أيام فجلست أقرأ وأتأمل وأتعجب كيف ظل هذا الرجل مجهولاً بموسوعته النادرة العظيمة رغم شهرة نجله المترجم الكبير د.محمد عنانى أستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة؟، هل كان المترجم الكبير يخجل من الاحتفاء بوالده؟! يبدو الأمر كذلك،وهذا ظلم بيّن ظهر فى المقدمة القصيرة التى كتبها الإبن فى سطور سريعة وفى إستحياء شديد أبخس المؤلف حقه وبخل على القارئ بالكثير عن حياة هذا الرجل الإستثنائى فى عشقه لمصر وطيورها وفى ثقافته الواسعة بهذا العالم الذى ترفرف فيه الطيور بقصص وحكايات وعجائب خلق الله
تغاريد الحب بين عجائب المخلوقات
حروف كلمة «طير» سهلة يسيرة كأنها تحمل معنى الخفة، وتلك عظمة اللغة وإعجازها البسيط فى القرآن، فكلما وردت فى آية كريمة كانت بطلاً فى القصة، فالطير هو صاحب المنطق والعلم الذى أتاه الله لسليمان،والطير هو يقين إبراهيم الذى أطمأن إليه قلبه بعد أخذ أربعة وصرهن إلى الجبل وعدن إليه،وحملتْ الحمامة بشارة النبى نوح والناجين معه من الطوفان عندما جاءت إليه وفى فمها غصن الزيتون وتشير إلى الأرض، وحركة الطير ليست واحدة،وإنتبهتْ اللغة لذلك، فإذا حركّ جناحية فى طيرانه وحام حول شيء ثم أرتفع قيل: «رفرفّ»، وإذا طار فى كبد السماء قيل «حلّق»، فاذا بسط جناحيه فى الهواء وسكنهما فلم يحركها قيل «صفّ» وهذا معنى قوله تعالى «والطير صافات». ومن العجب طيران الطير فى الهواء وعدم سقوطا مع أن الهواء أخف وهو أثقل!، وهذا ما استوقف «القزوينى زكريا بن محمد بن محمود «فى كتاب» عجائب المخلوقات»، فالطير مسخرات فى جو السماء لا يمسكهن إلا الله، وربما كان هذا التعبير القرآنى «المسخرات فى جو السماء «أعظم توصيف لكل ذى جناحين يرفرف فى سماء الله ويحط على أرضه الواسعة بحساب وميقات وميعاد يحدد مواسم التزواج والهجرة والتكاثر ويجعل الذكر يقترب من الأنثى ويناجيها، فما أن يقترب فصل الربيع حتى تنطلق تغاريد الحب ويناغى البلبل غصن الفل ويستعرض الذكر الريش ويتباهى بقوته، وكلاهما يستخدم التغريد لجذب الطرف الآخر،حتى الغربان وألبوم تتغير أصواتها فى موسم التزاوج، وتتمنع الأنثى وتنقر ريش الذكر وتهرب منه فيقترب حتى يتناجيان، وإن تم التواصل فإن سكن الطائر يتحول من عش واهن وضعيف إلى بيت تنشغل فيه الأنثى بوضع البيض ويقوم الذكر بإحضار الطعام ويتناوب كلاهما إحتضان البيض إلى أن يفقس، كما يتناوبان فى حماية الصغار بعد خروجها من البيض، وتوفير الغذاء والماء لها، وتعليمها كيفية الطيران والإعتماد على نفسها فى البحث عن الغذاء ويصف عنانى كل ذلك فيقول إنه بحلول الربيع تبدأ الذكور؛ وهى التى اختصها الله بالجمال دون الإناث؛ فى عرض زينتها وإبراز جمال ألوان ريشها وغنائها بعذب الألحان لإستجلاب قلوب الإناث فيتم التزاوج، ثم تبيض ويفقس البيض خلال 14 يوما إلى شهرين بحسب نوع الطائر،.. وقد ثبت أن هرمونا تفرزه الغدة النخامية فى جسم الأنثى (البرولاكتين) ينبه إلى إفراز «اللبأ» فى بعض الطيور كالحمامة وهو سائل أبيض غليظ القوام تفرزه حويصلة الحمامة وتطعم بها أفراخها وهو أشبه بلبن الأم»
ولا يترك المؤلف عن الطير معلومة إلا أحصاها، فكيف تطلق الأسماء على الطيور مثلا؟ فأنت تقول «هدهد» وفى الإنجليزية يقولون «Hoopoe»،فالإسم جاء من الصوت «hoop-hoop « كما فعل العرب تماما وأسموه « هدهد»، وكما فعلوا مع طير (الوروار) الذى تغنى له السيدة فيروز،ذلك لأن فى ندائه يصيح بما يشبه هذه الكلمة (ور – ور)، وهناك أسماء من بناء وشكل أجسام الطيور كالشحرور الذى يسمى بالإنجليزية Blackbird لعموم السواد بجسمه
هذا فضلاً عن تسميات أخرى بحسب الأمكنة أو بحسب إسم الشخص الذى اكتشفه، ويصل المؤلف إلى أحكام الدين وآراء الفقهاء فيما يتعلق من الطير وما يمنع أكله وما يباح، كما لا نعرف مئات من أسماء الطيور التى ترفرف حولنا والتى أحصى منها المؤلف أكثر من 800 طائر حط رحاله فى مصر قادماً فى هجرات شتوية وصيفية وذكر الكاتب فى موسوعته ما يقرب من 23 رتبة أو فصيلة أوسعها كانت رتبة العصفوريات والتى تضم منفردة 300 طائر تحت فصائل وأجناس مختلفة، وأكثر الطيور التى تهاجر إلى مصر شتاء أو خريفاً هى «الشرشور» أو «الزرزور» الأوربى، وبعضها صيفاً أو ربيعاً مثل سنونو الرمال، والعصفور البيوتى. ورغم الأعداد الهائلة للطيور التى تحط على أرض مصر فإن هناك 8 أنواع فقط هى التى تتوالد على أرضها صيفاً
تجول الكاتب مع النادر من الطيور، مثل غراب القيظ، والعصفور فضى المنقار، ومع الطيور الشهيرة التى تُرى طوال العام فى مصر، مثل الصفير الذهبى، والحمام الجبلى، وأبو الرأس الخواض، والكروان الجبلى مع وصف دقيق للسيقان والأصابع والريش وطول الجناحين وأشكالهما وصورة لكل طائر ذكر إسمه بين صفحات الموسوعة، إلا أنه لم يذكر لون الطائر إعتماداً على الطبعة الملونة من الموسوعة، ذلك أن بلادنا الدافئة الجميلة بسمائها الصافية هى المعبر اليابس الوحيد بين ثلاث قارات حيث تعبر مئات الملايين من الطيور قادمة من أوروبا وآسيا وإفريقيا، وتقضى الكثير من الطيور الشتاء فى المناطق الرطبة بمصر مما يجعلها مشتى دولى هام للطيور المائية
الزاهد.. يرحل قبل أن يظهر الكتاب
عاش محمد محمد عنانى زاهداً فى الحياة مكتفياً بطيورها وسمائها الزرقاء كى ينجز موسوعته قبل أن يسبقه أحد،عاش مخلصاً لفكرته فى تقديم موسوعة عن طيور مصر وحياتها وتواريخ هجراتها وأنواعها وصفاتها، وخلال عشرين عاماً متواصلة هام على وجهه فى البلاد شرقاً وغرباً.. شاخصاً بصره إلى السماء.. يبحث عن كل طائر حط على أرض بلاده ولو ضيفاً لمرة واحدة،.. فسجل كل صغيرة وكبيرة عن طيور مصر، وظل يحلم بتحقيق حلمه فى إنجازموسوعته قائلاً فى المقدمة: «أهم ما دفعنى إلى تأليف هذا الكتاب هو أنه لا يوجد مؤلف خاص عن طيور مصر باللغة العربية يحوى كل طائر بصورته»، وكجميع المخلصين لم يبحث الدكتور عنانى عن منصب أو جاه بل إنه أنفق كل ما ورثه من مال وثروة طائلة على طيوره فإقتنى آلاف الكتب، وقرأ التراث العربى والإسلامى بدقة، ولم يترك كتابا فى اللغة الأجنبية عن الطيور إلا وقرأه كما يبدو ذلك جليا فى لغته وأشعاره التى يستشهد بها، حتى إنه أورد باباً عن أحكام الصيد فى الشريعة الإسلامية، وكان يتمنى ألا يوافيه الأجل قبل أن يرى كتابه النور، ولكنه رحل عن دنيانا قبل أن يظهر الكتاب، ويشير نجله الدكتور محمد محمد عنانى الأستاذ بجامعة القاهرة فى مقدمة الموسوعة إلى أن كاتبنا اشترى قطعة من الأرض فى بلدة رشيد وحولها إلى جنة غناّء فقد كان يرى فى الطير الرمز الحقيقى لمعنى الحرية والإشارة العظيمة لقدرة مبدع السموات والأرض.