في 2023، كان الجميع يترقب دورة مهرجان الموسيقى العربية، فالفكر الذي جاء به المايسترو “هاني فرحات” إلى المهرجان أحدث نوعا من الصدمة، خاصة أنه كان ينوي إحداث تغييرات جذرية في شكل المهرجان الذي أعتدنا عليه، بعض أفكاره هوجمت بشدة، حيث وصفها البعض بخطة ممنهجة لتفريغ المهرجان لصالح مهرجانات عربية أخرى، والبعض الآخر رأى فيها وسيلة لبقاء المهرجان على خريطة المنافسة التي اشتدت مؤخرا، وفي كل الأحوال كان الترقب هو سيد الموقف، وكان أي حديث عن فكر المايسترو وطموحاته مؤجل حتى إتمام الدورة وتقييم التجربة، ولكن، ألغيت الدورة في اللحظات الأخيرة تضامنا مع غزة، ثم رحل الرجل عن منصبه كمدير للمهرجان، ورحل فكره معه.
وسواء كان اعتذار “هاني فرحات” عن استكمال تجربته سببه انشغاله الشديد بما يحققه من إنجازات عربيا وعالميا، أو اصطدامه بالبيروقراطية المصرية المنفرة، فالغريب في الأمر -بالنسبة لي- هو أن يهال التراب على كل أفكاره -ولا سيما الواعدة منها- خاصة أن من وافق على هذه الأفكار وساندها كان رئيس دار الأوبرا المصرية آنذاك الدكتور “خالد داغر” والذي يشغل حاليا منصب مدير المهرجان، ومنها على سبيل المثال الخروج بالمهرجان خارج أسوار دار الأوبرا المصرية، فإلى جانب الحفلات التي تقام على مسارح دار الأوبرا المصرية في القاهرة والإسكندرية ودمنهور، وعد “هاني فرحات” بإقامة حفلات تحت سفح الهرم، وفي المتحف المصري الكبير، وفي المحافظات المختلفة التي لا يصلها المهرجان، وهو ما كان سيحقق فكرا ترويجيا، وسياحيا مختلفا، بالإضافة إلى تحقيقه عدالة ثقافية للوصول بالمهرجان لشرائح مختلفة من الجمهور بعضهم لن يستطع تحمل عناء السفر، إضافة إلى تكلفة تذاكر الحفلات المرتفعة (بعض الحفلات هذا العام وصل سعر التذكرة فيها إلى أربعة آلاف جنيه) والأهم أنه كان سيرحمنا قليلا من الاعتماد على مسرح النافورة المكشوف، والذي تصعب فيه الرؤية، خاصة في الصفوف الخلفية، وتصعب فيه إقامة الحفلات إذا ما تساقطت الأمطار، وتقلبت الأجواء، كما حدث قبل عدة سنوات، في حفل أصالة الذي كان مهددا بالإلغاء بسبب الأمطار.
أما بالنسبة لقائمة المطربين المشاركين بالغناء في المهرجان، فقد ذكر الدكتور “خالد داغر” في المؤتمر الصحفي الذي عقد ليلة الخميس الماضي أن اعتذار بعض النجوم عن المشاركة جاء بسبب انشغالهم بحفلات أخرى تتزامن مع توقيت المهرجان، وهنا أذكر إجابة المايسترو “هاني فرحات” عندما سئل العام الماضي عن أسباب قيادته لحفلات العديد من النجوم إلى جانب عمله كمدير للمهرجان، حيث أجاب نصا (أنغام وأصالة أكدا لي اعتذارهما عن المشاركة لو لم أقد الفرقة الموسيقية لحفلتيهما) وقد تحقق ما قاله “هاني فرحات” فاعتذرت “أنغام وأصالة” عن المشاركة هذا العام، وسواء كان اعتذارهما سببه الانشغال بحفلات أخرى، أو عدم تحقيق طلباتهما الفنية، وعدم الثقة في أي مايسترو آخر لقيادة فرقتهما الموسيقية، فالمهرجان لن يقف على أحد، لكن ماذا عن بقية المطربين الذين أعلن “هاني فرحات” عن مشاركتهم في الدورة الملغاة، والذين كان سيحقق تواجدهم نوعا من التجديد نفتقره منذ سنوات مثل “حمزة نمرة، وآدم، وكارمن سليمان” هل تسبب انشغالهم أيضا في إلغاء حفلاتهم المقررة؟ هل صحيح أن بعض النجوم اشترطوا أجرا مبالغا فيه جدا فتعذر الوصول إلى اتفاق بشأن مشاركتهم في المهرجان مثل الفنان صابر الرباعي؟ أما كان يستحق الأمر مزيدا من المجهود لضم أصوات مصرية شابة وإعادة اكتشافهم مرة أخرى من خلال المهرجان بدلا من الإبقاء على وجوه ثابتة ومكررة في كل دورة رغم عدم تحقيق حفلاتهم نجاحا يذكر، مثل الفنان المغربي القدير فؤاد زبادي؟ وأنا هنا لا أقلل من قيمة هذا الفنان الذي سيكرم هذه الدورة ضمن قائمة طويلة من المكرمين، فالرجل ضرب الرقم القياسي في عدد المشاركات في المهرجان، حيث بدأ مشواره مع المهرجان منذ الدورة السادسة له عام 1997، واستمر بلا توقف تقريبا، لكن كل ما أطمح له هو إحداث قليلا من التنوع وإتاحة الفرص، وهو أمر يصب في صالح المهرجان وصالح الجمهور في آن واحد.
التساؤل نفسه ينطبق على أسماء بعض المكرمين أيضا، حيث أعلن في الدورة الملغاة عن تكريم 14 اسما، بينما أعلن أمس عن زيادة عدد المكرمين إلى 19 اسما، والغريب هنا ليس زيادة عدد المكرمين، لكن إزالة بعض الأسماء من القائمة أمثال الموسيقار “عمر خيرت” والموسيقار العراقي “وسام خصاف” واسم الموسيقار السوداني الراحل “علي عثمان” فما سر استبعاد هذه الأسماء بعد الإعلان عن تكريمها مع الاحتفاظ ببقية الأسماء؟ هل ارتكب المستبعدون فعلا مشينا يلغي فكرة تكريمهم مثلا؟ ما العذر الذي ساقه القائمون على إدارة المهرجان لهؤلاء المستبعدين تبريرا لهم على إلغاء فكرة تكريمهم؟
وعلى ذكر الكينج “محمد منير” صاحب التجربة الغنائية الملهمة، ألا يعتبر إعادة تكريمه مرة أخرى بعد تكريمه في افتتاح الدورة الثامنة والعشرين عام 2019 فقدان لمعنى التكريم وهدفه؟ ألم يكن علينا أن نحتفي بالرجل وتجربته بما هو أهم من منحه درعا وشهادة في حفل الافتتاح؟ والحديث هنا لا يقتصر فقط على “منير” بوصفه نجما كبيرا من نجوم الغناء، فما قامت به المملكة العربية السعودية في ليلة تكريم الموسيقار “صلاح الشرنوبي” مثلا -وهو أحد المكرمين في مهرجان الموسيقى العربية لهذا العام- بإعادة إحياء أغنيات من ألحانه بحنجرة نخبة مختارة من النجوم يلزمنا أن نعيد التفكير مرة أخرى في معنى التكريم وطريقته، ولنتساءل لماذا لم تفكر إدارة مهرجان الموسيقى العربية في إقامة حفل تغنى فيه أغنيات “منير” المحفورة في ذاكرة الجمهور عبر عشرات السنين، سواء تمكن من المشاركة بالغناء في الحفل بنفسه، أو أفسح المجال لشباب المطربين ليقوموا بغنائها؟ لماذا لن يذكرنا مهرجان الموسيقى العربية بألحان “صلاح الشرنوبي” بأصوات مصرية شابة في حفل يليق بهذا الموسيقار الكبير، ويتيح الفرصة لعشرات المواهب للظهور؟ والسؤال المهم أيضا لماذا لن يستغل وجود اسم “حازم شاهين” و”زياد الرحباني” بين المكرمين لإقامة حفل غنائي يغني فيه “حازم” من ألحان “زياد” خاصة أنهما يمتلكان سويا مشروعا موسيقيا مهما، كان يتعين على المهرجان أن يلقي عليه الضوء، فقد تعاونا من قبل في تقديم العديد من الحفلات الفنية، قام فيها “حازم شاهين” بالعزف والغناء للعديد من ألحان “زياد الرحباني” الشهيرة، كما أنهما ينويان إطلاق ألبوم موسيقي جديد، من إنتاج “زياد الرحباني” مكون من خمس مقطوعات موسيقية، هل سيستمع إليها جمهور المهرجان؟
كل ما سبق هو جزء بسيط من أسئلة لم أتمكن من طرحها على المسؤولين عن المهرجان في المؤتمر الصحفي الذي عقد قبل يومين، والمقام خصيصا لهذا الغرض، حيث أصبحت الأمور تدار مؤخرا على طريقة (الباب اللي يجي لك من ريح سده واستريح) وفي هذه الحالة يكون سد الباب عن طريق جمع أسماء الراغبين في إلقاء الأسئلة من الصحفيين في ورقة، ثم اختيار الإسم مأمون الجانب، للسماح له بإلقاء الأسئلة، رغم أننا جميعا جلوس في نفس القاعة أمام المسؤولين، ومن الممكن أن نريح السيدة المسؤولة عن إدارة المؤتمر من عناء جمع الأسماء بأن نرفع أيدينا طلبا للكلمة، كما جرت العادة في كل المؤتمرات الصحفية منذ اختراعها، فهل سمعتم ونحن في عام 2024 عن مؤتمر صحفي يدار بهذا الشكل؟!
اقرأ أيضًا:
ليلى مراد..سنوات الحب والخوف فى بيت أنور وجدى
معركة الفلفل والكمون بين ليلى وأنور