100 عام مرت على ميلاد نزار، وربع قرن على رحيله، ولد في دمشق، وتخرج سنة 1945 من كلية الحقوق بجامعتها، ثم التحق بوزارة الخارجية، وانتقل في العام ذاته إلى القاهرة دبلوماسيا في سفارة بلاده.
وفي مصر كانت ولادته الثانية، ومنها كانت نقطة الإنطلاق نحو عالم الشهرة والألم. فيها تعلم كيف يصالح، ومن يعادي، وكما يقول : “كانت القاهرة في ذروة نضجها الثقافي والصحافي والإذاعي في سنوات الملكية الأخيرة. وللقاهرة عليَّ فضل الربيع على الشجر، وبصمات يديها ترى واضحة على مجموعتي الشعرية الثانية (طفولة نهد) المطبوعة عام 1948”.
من ليالي القاهرة وأحداثها الصاخبة يبدأ الكاتب علي النويشي سيرة نزار قباني في مصر؛ حيث يمهد الطريق تماما لمجئه منتصف الأربعينات. فيقدم صورة كاملة للقاهرة ولأحداثها التي صاحبت قدوم الشاعر السوري إلى مصر سنة 1945، وكان عمره 22 عاما.
وعبر صفحات الكتاب الشيق بفصوله التي دقق الكاتب جيداً في معلوماتها؛ نعيد اكتشاف نزار قباني من خلال حياته في القاهرة التي لم تكن عاصمة مرّ بها بل كانت الجزء الأكبر من قلب نزار الذي جاء إليها وهي تعيش يقظة فنية وثقافية كبرى. ففي نفس عام مجيئه صدرت رواية “خان الخليلي” وبدأت مرحلة جديد في حياة ومشوار نجيب محفوظ الأدبي. حيث إتبع محفوظ الخط الواقعي في معظم كتاباته، والتي كانت تهتم بتصوير المجتمع المصري في أنماط حياته المختلفة وخاصة في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. بالإضافة إلى النضال الوطني من أجل إستقلال مصر من الإحتلال الإنجليزي. وتجلى ذلك في روايات مثل “القاهرة الجديدة” و”خان الخليلي” و”زقاق المدق” و”بداية ونهاية” و”الثلاثية” المكونة من “بين القصرين” و”قصر الشوق و”السكرية”.
ويتجول علي النويشي في حياة الشاعر الكبير بروح الباحث المُحب الذي لايريد إسقاط معلومة أو تجاهل حدث حتى ولو كان بسيطا. ويستعرض في الفصول جوانب من حياة نزار مع نجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وعشرات ممن عاشوا في وجدان نزار وعاش بهم وبينهم. يقول نزار في لقاء له بالتلفزيون المصري مع الشاعر فاروق شوشة “في هذا الزمن كانت القاهرة فردوسي، كنتُ شابا يافعا حين وصلت للقاهرة، شعرت أنني تحررت من جاذبية الأرض، في دمشق كنت محاصراً بالتقاليد، بالشعر الكلاسيكي”.
سكن نزار في أول عهده بالقاهرة في حي العباسية، ثم استقر في بيت بالقرب من المطار بحي مصر الجديدة، وكان المترو هو وسيلة المواصلات، وأهم قصائد ديوان (طفولة نهد) كتبها فيه ذهابا وإيابا.
وفي القاهرة عاش أول أيام الوظيفة، دبلوماسي في السفارة السورية، وفي هذا المناخ عاش جو حرية الصحافة، وشهد المعارك النيابية. وكان متابعا لحالة الحراك الاجتماعي الذي تعيشه مصر، وهو يرى صحف تولد كل يوم، ومراحل سياسية تذوي وتموت، وحقبة تاريخية تطوى، وشباب يقاتل من أجل مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
في القاهرة أصدر أهم دواوينه “طفولة نهد” الذي حمله على جناح الشهرة. وفيها أصبحت قصائده أنشودة يتغنى بها كل لسان.. وفي القاهرة جرب أن يكون ممثلا، وأن يكون شاعرا مشهورا تطبع دواوينه طبعات شعبية يشتريها الأولاد والبنات بقروش قليلة.
وفي القاهرة عاش أول أيام الوظيفة، دبلوماسي في السفارة السورية، وفي هذا المناخ عاش جو حرية الصحافة، وشهد المعارك النيابية. وكان متابعا لحالة الحراك الاجتماعي الذي تعيشه مصر، وهو يرى صحف تولد كل يوم، ومراحل سياسية تذوي وتموت، وحقبة تاريخية تطوى، وشباب يقاتل من أجل مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.
في القاهرة أصدر أهم دواوينه “طفولة نهد” الذي حمله على جناح الشهرة. وفيها أصبحت قصائده أنشودة يتغنى بها كل لسان.. وفي القاهرة جرب أن يكون ممثلا، وأن يكون شاعرا مشهورا تطبع دواوينه طبعات شعبية يشتريها الأولاد والبنات بقروش قليلة.
كانت القاهرة في الأربعينيات عاصمة العواصم العربية ـ كما يقول نزار ـ وكانت بستاناً للفكر والفن عزّ نظيره. وحين جئتها، كانت الأرض كلها مبدعة، وكان هناك العمالقة، طه حسين، العقاد، علي محمود طه، جنب أم كلثوم وعبد الوهاب، فماذا يحتاج شاب صغير يحمل البذرة الصغيرة من الشاعرية أكثر من هذا؟!..أسعدني أن أدخل الوسط الأدبي والفني والصحفي من أعرض أبوابه، وأعرف صفوة أعلامه، توفيق الحكيم، إبراهيم عبد القادر المازني، محمد عبد الوهاب، كامل الشناوي، إبراهيم ناجي، أحمد رامي، محمد حسنين هيكل، والناقد أنور المعداوي”.
والحمد لله الذي أوحى لهم (يقصد المسؤولين بخارجية بلاده) أن يرسلوني إلى القاهرة بدلا من باريس، في 1945 كنت أفضل القاهرة ألف مرة على باريس”.
والكتاب الذي يحمل تاريخا كاملاً لنزار قبانى جاء في توقيت مهم للغاية. فها هي القاهرة التي ينكرها الصغار، ها هي القاهرة التي احتضنت محمود درويش، وقدم لنا الكاتب والشاعر سيد محمود حياته كاملة في كتابه المهم. وها هو علي النويشي يستكمل فكرة البحث عن الكبار في القاهرة. فعلى أرضها دشن نزار شاعريته ورحلته كمثقف، وبجوار نيلها دارت معاركه الفكرية والشعرية. وفي مصر، وبعد رحيله، صار شعر نزار يغنى على كل لسان، وعندما غادر الوطن العربي ليعيش في منفاه الاختياري في أوروبا، لم تتركه مصر، ولم يتركها هو أيضا.
بعد عام 1948 غادر نزار القاهرة بجسده فقط، وبقيت القاهرة معه يحملها في حقائبه أينما رحل وأينما حل. فهو لاينقطع عن زيارتها، وأصدقائه على تواصل دائم معه، وفيها عاش وعشق واقترن، وإليها يعود كما يعود الطائر المسافر.
يرحل نزار عن مصر، وعينه وقلبه معلقتان بها. تشتعل ثورة الضباط الأحرار، ويؤمم عبدالناصر قناة السويس، ويقع العدوان الثلاثي على مصر في 1956. وينفعل نزار ويكتب رسائله الشهيرة إلى جندي بورسعيد، وينطلق بث التايفزيون المصري في 1960؛ وكان نزار من أول ضيوفه ليشهد العالم لقاءاته على الهواء مباشرة من القاهرة.
ومن استعراض فصول الكتاب نتعرف على لغة الكاتب علي النويشي الذي حرص على أن تكون السلاسة التي اشتهر بها نزار هي أسلوبه في ترتيب فصول الكتاب وسرد أحداثه. ومن الواضح أن النويشي عمل على الكتاب طويلاً قبل أن يدفع به إلى المطبعة؛ فهو ينتقل برشاقة بين الفصول كما كان نزار ينتقل من وظيفة لوظيفة ومن مدينة لأخرى حتى قرر عام 1962 أن يستقيل من الدبلوماسية ويتفرغ للشعر فقط. وكان يعيش بين القاهرة وبيروت، حتى جاء 5 يونيو القاصم للظهر، والفاصم للفكر، ولا يتحمل نزار الكارثة فيقع مريضا ويدخل المستشفى. وبين الصحو واليقظة ينتبه ليكتب قصيدته الباكية المنتحبة “هوامش على دفتر النكسة” .
ويستشهد الفريق عبد المنعم رياض، وتقع حرب الاستنزاف، ويبقى نزار متفاعلا مع هذه الأحداث بقصائده. حتى يصدمه كما تصدم الأمة العربية كلها بالوفاة المفاجئة للرئيس عبدالناصر. وينتحب نزار من جديد على هذا الرجل الذي كان يعشقه ويحبه كما كان يحب والده توفيق قباني. وتتوالى قصائد الرثاء على عبدالناصر من “قتلناك يا أخر الأنبياء” لغيرها من القصائد.
ويعيش نزار لحظة عبور قواتنا العربية قناة السويس، وتحطيم خط بارليف، ويومها يذكر في قصائده؛ أنه ولد يوم عبور القوات القناة ودخول سيناء، وأن تاريخ ميلاده الحقيقي يكتب بداية من هذا اليوم. وفي ظل هذا الإنفعال يفاجئ العالم برحيل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين؛ وهنا ينفعل وهو يخاطب العميد قائلا له، إرم نظارتك، ما أنت أعمى.
ولاينقطع نزار عن مصر، حتى أن الفنان عبدالوهاب كان يطالبه بالبقاء في مصر، ويقول له أنت تعودت على مصر، ومصر تعودت عليك يا نزار. ولايفوته أن يحضر مهرجان افتتاح متحف أحمد شوقي أمير الشعراء، الذي شبه قصائد أمير الشعراء وهي تستقبله بالفساتين البيضاء والحمراء والزرقاء .
نزار ومصر الجديدة
لم يجد نزار مكاناً فى مصر أجمل من مصر الجديدة، كان مناخها مدهشا بالنسبة له حيث كانت مدينة داخل المدينة تحمل روحاً مختلفة (ضاحية مصر الجديدة ـ يقول نزار ـ في الأربعينيات كانت جميلة ونظيفة وحضارية كضاحية ويمبلدون البريطانية، والمترو في ذلك الزمان كان لا يقل رقيا وحضارة عن مصر الجديدة، ولأن بيتي كان يقع على آخر محطة قرب مطار القاهرة، فقد كنت أشعر بأنني الراكب الوحيد الذي يسير المترو من أجله، ولا أدري لماذا يذكرني مترو مصر الجديدة (أنشأه البارون إمبان مؤسس مصر الجديدة سنة 1910) بباصات لندن الجميلة التي كتبت أيضا في طوابقها العلوية عام 1952 واحدا من أهم دواويني الشعرية (قصائد).
ويضيف نزار“ في القاهرة تحررت من غباري الصحراوي، كنت بدويا يعلك الأفق، ويعلك الرمل، ويعلك الجوع، حين وصلت القاهرة وجدت النيل، وجدت الطمأنينة.
أحزان توفيق في جاردن سيتي
ولا يكتفي نزار بوجوده وحده في القاهرة؛ بل يأتي بولده توفيق ليدرس الطب في القصر العيني. ويشتري بيتا في منطقة جاردن سيتي تمهيدا لإقامته الدائمة هو وتوفيق. ويعيش نزار معظم أوقاته في القاهرة بداية من السبعينيات، محتميا بأصدقائه من أي مفاجئات؛ ولكن يبقى القدر له بالمرصاد عندما يكتشف إصابة ابنه توفيق بمرض نادر في القلب، أخبره الأطباء أنه لا أمل.
ويحمل ولده لاستكمال العلاج في لندن، ولكنه يتوفى ويحمل جثته ومناديله وملابسه وبعود وحده كالسيف المكسور. ويتشاءم نزار فيبيع البيت، شهور قليلة وتموت والدته في دمشق، وتشتعل الحرب الأهلية في بيروت، ويترك بيروت للقاهرة مرة ثانية. وتغتال الصراعات العربية في لبنان زوجته وحلم عمره بلقيس، ويتخذ قرارا نهائيا بالعيش والاستقرار في القاهرة من جديد، ولكن يفاجئ بحملة صحفية من بعض ألأقلام، على أثرها يرحل عن عالمنا العربي كله إلى سويسرا ثم لندن.
ورغم كل هذا لم يترك نزار القاهرة، ولم تتركه القاهرة؛ بل ظلت تعيش فيه، وإن لم يعش هو كثيرا بها. ولكن ظلت زياراته ورحلاته إليها لا تنقطع. وفي شتاء كل عام لابد له من زيارة للقاهرة، سواء دعوه في معرض الكتاب أم لم تتم دعوته؛ فهو دائما مدعوا من النيل ومن الأهرامات، ومن قنوات وترع الفلاحين. ودائما مدعو من الطلاب والشباب والعشاق في كل مكان من أرض مصر.
وعندما يعقد السادات صلحا مع العدو؛ لا تهدأ روح نزار الشاعرية، إلا بقصيدة هي أقرب للبكاء والنزيف منها للهجاء. وتهتز مصر كلها لقصيدته التي كتبها عن السادات، ولم يغفرها له أبدا حواريو السادات، فقد كانت القصيدة غاضبة ولاذعة لرئيس أكبر دولة عربية …!!
ومع كل هذا لا ينقطع الحبل السري بين نزار ومصر، وتمر السبعينيات بكل ألامها ومذاقها العلقم على كل عربي؛ فقد قطع العرب كلهم علاقاتهم بمصر. ويأتي عقد الثمانينيات بجموح رياحه، وخماسين أجوائه، ونشاهد نزار قباني أول من كسر المقاطعة عن مصر. وجاء يدعو العرب بأنهم لن يكونوا بدون مصر، وأن مصر لن تكتمل عروبتها إلا بهم.
وتستقبل الجماهير نزار قباني استقبال الفاتحين، وتنعقد له أكبر المهرجانات في معرض القاهرة للكتاب كل عام ليحضرها عشرات الألوف من الجماهير. ويتألق نزار وسط الجموع، ويظل واقفا بالساعات الطويلة وهو يشدو ويغرد أمام الجموع، فهو كما يقول : أنا صوت الجماهير.