عندما نذهب إلى العزاءات ونجلس في السرادقات أو في دار المناسبات فإننا قد نفكر بالموت الذي يخطف منا الأحبة، وقد نفكر فى موعد مهم ننتظر الربع الأول من المقرىء حتى نهم بالانصراف بخجل أو من غير ذلك. أفكار كثيرة تشغلنا فى العزاءات ليس منها (السفرجي) الذي لف ودار بالقهوة وزجاجات الماء حول الكراسي وهمس وانحنى وسعى لإرضاء الجميع. لم نفكر كيف جاء إلى هنا وما هي طبيعة هذا العمل الشاق والغريب. من هؤلاء الذين يتوزعون بطول مصر وعرضها فى العزاءات وحفلات الطهور وأعياد الميلاد؟! هل يعيشون فى رغد ونعيم أم يتجرعون ويلات الجوع والعوز انتظاراً لعمل جديد أو عزاء جديد؟! إن شئت الدقة، السفرجي يهتم بتفاصيل آخرى تبدأ من نوعية قماش السرادق. فإن كان مطبوعا، فهو سرادق عادي لشخص عادي، لكن إن كانت أقمشة السرادق مشغولة باليد؛ فهذا معناه بقشيش أفضل وأثرياء أهل المتوفى سيقومون بالواجب.
وهذه رواية مصنوعة للحكي برائحته القديمة المعتقة، يجوب بك الراوي بين عشرات الشخصيات التي تملأ الهامش ولا نعرف عنهم شيئاً. ويقدم الكاتب خبرات غير مسبوقة عن عالم السفرجية وحياتهم الإنسانية. والفارق كبير بين السفرجي والبوفيهجي. وقد حاولتُ فى السطور القادمة تقديم عالم السفرجية المبهر الذى يقدمه الكاتب عبر عشرات الصفحات مع الحفاظ على النص الروائي بشخصياته المدهشة. لنعرف كيف يبدأ السفرجي حكايته منذ استلام البن والشاي والينسون والسكر والفحم من أصحاب السرادق.
يعمل بطل الراوية (مصباح) سفرجيا صغيرا يذهب كل يوم إلى مكتب السفرجية في باب الشعرية، وعم راضي الجالس على كرسيه الهزاز خلف مكتبه المتهالك المصنوع من الصاج، مرتديا جلبابه البُني والبالطو الكاكي الخفيف هو المسؤل عن توريد السفرجية، وعن اختيار المناسب منهم لمناسبات خاصة أو لزبائن معروفين بالكرم والسخاء. السفرجية القادمون من بولاق وعابدين وشبرا يتجمعون هنا فى هذا المكان، يسجل كل واحد منهم اسمه فى دفتر الحضور. وهكذا يفعل بطل الرواية(مصباح) الذى يعول أسرة كاملة ويحلم بأن يكون سفرجيا فى بيوت وقصور الأثرياء..كما سنرى.
وكعادة كل يوم.. بعد أن يثبت حضوره بدفتر عَم “راضي”، يتوجه مع باقى الزملاء السفرجية إلى عَربة الفول انتظارا للفرج عقب الإفطار والشاي. ويعود الجميع ينتظر التليفون يدق ..( ..وأخيرا رن جرس التليفون. لحظتها خرست ألسنتنا، وتأهبنا للذهاب للعَمل، رغم علمنا بأننا لن نذهب جميعًا، وسيتم اختيار عدد قليل منا، حتى يرن الجرس مرة أخرى، ويطلب الفراش من عَم “راضي” عددا آخر من السفرجية للعَمل. وحال عَم “راضي” هو حالنا تمامًا، فهو يود أن يسمع صوت جرس التليفون مرات ومرات فى اليوم الواحد، لأن عَمولة مكتبه قدرها خمسة جنيهات عن كل سفرجي يورده للفراشة).
خرج عَم “راضي” من مكتبه بعد أن أنهى المكالمة التليفونية، وتوجه ناحية مصباح وأخبره أن يصطحب حمدي نَطة، ويتجه إلى فراشة “أبو رَوَّاش” بحي الزيتون
-إيه يا عَم “راضي”، حفلة ولا عَزا؟
عَزا طبعا.
إلى فراشة أبو رَوَّاش سيتوجه السفرجي إذن، وهناك سيتم اختباره قبل القيام بالمهمة (فور أن ظهرت السيارة المرسيدس الحمراء، انتفضنا من جلستنا، وتسمّرنا فى أماكننا أمام مدخل مكتب الفراشة، وبالتحديد تحت اليافطة الكبيرة المكتوب عليها بالحروف النحاسية البرّاقة “فراشة أبو رَوَّاش” اصطففنا وكأننا فى أحد أقسام البوليس وفى عرض أمام ضابط المباحث، وكعادة المعلم “أبو رَوَّاش”، يترك باب سيارته مفتوحا بعدما ينزل منها، ليغلقه أحد صبيته، وقبل أن يستفتح يومه بحجرين المعسل والشاي البربري، يقترب منا كالسائح الذى يزور مصر للمرة الأولى، بقميصه الحريري الملون بكل ألوان قوس قزح، وبذلته الجينز الزرقاء، وحذائه الأسود اللامع، وسلسلته الذهبية التي تلف عنقه، ومسبحته الفضية التي تعد أصابع يده اليمنى عليها، كنت أتعجب في بادئ الأمر عندما تعرفت عليه منذ عام، من كونه معلم فراشة، ويرتدي الحرير والجينز والذهب. في إحدى الليالي حدثت عَم “راضي” عن دهشتي من شخصية المعلم “أبو رَوَّاش”. حينها فاجأني بأن تلك هي حال معلمي الفراشة، نادرًا ما ترى معلما منهم يرتدى الجلباب والعمة، كما هو معروف عن معلمي الخضار أو أى معلمين آخرين في الأسواق. اقترب المعلم “أبو رَوَّاش” منا وبدأ يشم رائحة الواحد تلو الآخر، وحين رضى عنها، استكمل فحصنا بعينيه النافذتين كعيني الصقر، ونحن نقف أمامه مستسلمين لما يفعله. يدور حولنا فاحصا مستوى نظافة أحذيتنا السوداء، هو يتفحص السفرجي منا من أسفله إلى أعلاه، إلى أن يصل بنظراته إلى الذقن التي يجب أن تكون لامعة. ومن ابتسامته الهادئة، نستشعر مدى مستوى نظافتنا ومدى رضائه عنا. بعدها نفتح له حقائبنا الصغيرة، ويخرج كل منا قميصه الأبيض، والصديري الأسود والبابيون، يلقى نظرة عليها، وبعدما يبدي رضاءه عنها، نعيدها للحقائب، لأننا نرتديها بعد أن ننتهي من الفرش، سواء كان سرادق عزاء أو حفل عشاء أو حفل زفاف، أو موائد الرحمن، أو حتى مؤتمر لمرشح بمجلس الشعب.
بعد أن يتأكد المعلم “أبو رَوَّاش” من أننا صرنا جاهزين للعَمل معه اليوم. يصطحبنا (سلامة منظر) أقدم الفراشين لدى “أبو رَوَّاش” إلى المخزن الخاص بالفراشة، لنبدأ بتحميل كل ما سيحتاجه سرادق العزاء من عروق خشبو”ترك” القماش و”البلمة”، والكراسي والفوتيهات والسجاد والطقاطيق، وكنبة المقرئ، مهمة السفرجي منا تبدأ بتحميل الكراسي والسجاد فقط، وباقي المعدات يحملها الفراشون والشيالون.. سلامة منظر، يجيد أداء مهام عديدة، يعَمل معنا سفرجي أحيانا، وأحيانا أخرى كهربائي داخل السرادقات، إضافة لعَمله فراشًا، ينقصه فقط تعلم تلاوة القرآن الكريم، حتى يقرأ بدل المقرئ فى العزاء. رفعنا جميع المعدات على السيارة وصعدنا جميعا فوقها، وفى خلال خمسة عشر دقيقة وصلنا إلى المكان الذي سيقام عليه السرادق. بدأنا تفريغ السيارة، وانشغلت أنا وحمدي نَطة، بوضع السجاد فى أماكنه. أعَمل فى هذا اليوم بمنتهى الدقة والسرعة متشوقا لرؤية الملك، شوكت بك الكاظم، وأمواله التي يمن علىَّ بها، بدأنا تنظيف الكراسي والفوتيهات لحين انتهاء سلامة منظر ومساعديه الشيالين من نصب أثاث السرادق. صَعد سلامة درجات السلم الطويل، وبدأ يتحرك هنا وهناك مثل بهلوان في سيرك، يثبت عروق الخشب داخل الحفر الكثيرة التي حَفرها مساعدوه. ثم بدأ يربطها بالحبال بعروق خشب أخرى من أعلى، ويناوله شيال من أسفل “تَرك” القماش واحدا تلو الآخر، ليصنع سقفا وحوائط للسرادق. إلى أن يصل لتثبيت “البلمة” هذا الجزء القماشى القصير الذى يوضع خلف أصحاب السرادق، ليحميهم من الهواء. نطمئن على بقشيش يومنا من نوعية قماش السرادق، فإن كان مطبوعا، نفهم أنه سرادق عادي لشخص عادي. لكننا “بُوسنا إيدنا وش وضهر” فور أن رأينا أقمشة السرادق مشغولة باليد. أعطانا ذلك أملا كبيرًا فى أن أهل المتوفى سيكرموننا، لأن السرادق ذو الأقمشة المشغولة يدويًا يعنى أنهم قادرون، أو لنقل من شريحة الأثرياء التي تعشق التباهى بكل شىء حتى في سرادقات العزاء. وفور انتهاء سلامة منظر ورجاله من بناء السرادق، بدأ حمدي نَطة فى تنظيف الكراسي مرة أخرى. وفرشت أنا السجاد، ثم وضعنا سويا الكراسي والفوتيهات عليها في صفوف منتظمة. بعدها سلمّنا سلامة منظر الطقاطيق والمفارش الخاصة بهم وكذلك الطفايات. استلمناها بالعدد لأنها تصير عهدة لدينا، لحين الانتهاء من العزاء. نعيدها إلى “سلامة” مرة أخرى بنفس العدد الذى استلمناه، لأنه عادًة ما تُسرق بعض الطفايات في أثناء العزاء. كاد الكهربائي أن ينتهي من إنارة السرادق وتشغيل الميكروفونات واختبارها، قبل أذان المغرب. بحثنا عن مكان نحصل منه على ماء، لنغسل وجوهنا وأيدينا، ثم ارتدينا القمصان البيضاء، والصديريات، والبابيون، واحتسينا الشاي. ثم بَرم حمدي نَطة سيجارتين، وبعدما انتهينا منهما، بدأنا ليلتنا بالتعرف على أصحاب السرادق، الذين وصلوا بعد صلاة المغرب مباشرة. على الفور قدمنا لهم القهوة المخصوص والماء المثلج، نهتم بهم بكل طاقتنا، آملين فى بقشيش آخر الليل الذي نسميه في كار السفرجية “البَرّاني”، حيث يدفع أجرنا الذي لا يتعدى العشرين جنيهًا المعلم “أبو رَوَّاش”. بينما يدفع الزبون “البَراني” في آخر الليل. نعرف أيضا مستوى أصحاب السرادق من نوعية “البوفيجي” الذى يطلبونه، حيث تختلف أسعار “البوفيجى” وتتراوح ما بين مئة إلى ألف جنيه، وتتفاوت تلك الأسعار باختلاف نوعية معداته من فناجين وكاسات وأكواب وصواني. وكذلك العرض الخاص لمعداته التي يفرشها على مناضد كبيرة بجوار مدخل السرادق. ويبدو أننا في هذه الليلة سنُكرم من أوسع الأبواب. “البوفيجي” اليوم من النوع الفاخر، نعرفه سابقا، وعَملنا معه في أكثر من سرادق. رأيناه يدخن الحشيش خلف البوفيه، ولم يبخل علينا حينها ببضعة أنفاس من جوزته العامرة.

استلمنا البن والشاي والينسون والسكر والفحم من أصحاب السرادق، وأعطيناها لـ”البوفيجي”، الذي أشعل المزيد من الفحم، وقبل أن نبدأ العَمل، دخلنا واحدًا تلو الأخر خلف البوفيه، لندخن حجرين معتبرين، لنضبط بهما إيقاع الليلة.
بدأ الشيخ حماد الدسوقي تلاوة الربع الأول .. بعد الربع الأول، هَم الجميع لأداء صلاة العشاء، والربع الذي يلي الصلاة، يكون فى كار “السفرجية” أمثالنا هو الأهم، وهو ربع العمل الجاد، نستقبل فيه بشغف مرشحي مجلس الشعب وبكوات الحي، فهم عادة ما يحضرون في مثل هذه المناسبات كنوع من أنواع الدعاية الانتخابية”.
هذه هي تفاصيل حياة السفرجية التي حاولت اختصارها من هذا العمل الروائى الفريد الذي يعيد للحكي رونقه القديم بصناعة شخصيات فارقة في الحياة، تعيش حولنا ولا نشعر بمرارة أيامهم. تماما مثل حال البطل الذي يتكفل بعائلة بائسة مات عنها الأب والأم وتركا خلفهما فتاة مريضة مرضا عقليا (قلوب)، وآخرى ( مجيدة) التي فقدت شبابها وأنوثتها وهي تحاول مع شقيقها توفير اللقمة للصغيرة (قلوب).
“مجيدة” ليس لها متطلبات، سوى الحلم البسيط الذي يراود كل فتاة، وبالرغم من جمالها المختبئ تحت الجلابيب السوداء التي ترتديها مثل معظم جاراتنا، تبدو وكأنها تخطت الثلاثين من عمرها، تأثرا بروح الشجن التي تملأها. “مجيدة” الآن تلعب فى الحياة دور الأم والأخت؛ ارتضت بمهنة عاملة في نفس مصنع “المَصاصَة” الذي كان والده -رحمة الله عليه- يعَمل به طوال حياته، أما قلوب فقد تحولت إلى بركة للشارع كله، يصفها الكاتب :
“قلوب” هى أختنا الصغرى، توقف جسدها عن النمو منذ تخطت التاسعة من عمرها، تعيش بيننا بعقل طفلة. تسعة وعشرون عامًا، عَمري بأكمله وأنا أراها كملاك يمد أرواحنا بسر الحياة. في كل صباح، كعصفور يلتقط من الأرض رزقه، تلتقط “قلوب” من داخلنا الحزن واليأس ببهجتها التي تنبعث في أرجاء البيت الضيّق المكسو ببراح أخّاذ. بخفة ظلها وبابتسامتها وفمها المفتوح دائمًا ولسانها الغليظ الذي تظهر مقدمته على شفتيها، يجعلها مبتهجة دائمًا. لقد وُلدت “قلوب” منغولية كما يقولون. تخطت العشرين من عَمرها، وما زالت تلهو كالأطفال في الحارات، فقصر قامتها وسمنتها يجعلاها تبدو مثل الصغار الأبرياء. تدخل “قلوب” بيوتا لا تعرف ساكنيها، تنتظر كل يوم أفراح الحي بشغف، بل تبحث عنها لتدخلها وترقص على موسيقاها، وتأكل ما يجود به أصحابُها. الجميع يعشق “قلوب”، من يراها يتوسل إليها لتدعو له، أصبحت وسيلة البسطاء للتقرب إلى ربهم، فالجميع يعتبرونها من المتصلين أو كما يصفونها “البركة”
سفرجي الملوك – محمد جاد – تشكيل للنشر والتوزيع