ريم صالح
في زحام الأصوات التي تصدح بالأدب الأفريقي، يبرز صوت تشيماماندا نغوزي أديتشي كنبض متجذر في أرض نيجيريا، يعبر عن آمالها وآلامها، عن مجدها وانكساراتها. منذ طفولتها، لم تختر الكتابة بقدر ما اختارتها هي، فالقلم كان رفيقها منذ أن عرفت كيف ترسم الحروف، والورقة كانت فضاءً تتسع فيه حكاياتها. في إحدى لقاءاتها، قالت:
“لم أقرر في أي وقت أن أكون كاتبة، بل كنت أكتب منذ أن تعلمت تهجئة الحروف. الجلوس للكتابة يمنحني شعورًا بالامتلاء لا يضاهى.”
حكاءة بالفطرة
تشيماماندا ليست مجرد كاتبة، بل راوية بالفطرة، مؤمنة بأن القصص تصوغ الوعي وتصنع الحقيقة. ترى في القصة الواحدة خطرًا على الفهم، إذ تختزل ثقافات بأكملها في منظور ضيق، لذا تسعى لكسر هذه القوالب النمطية عبر أعمالها، مؤكدة:
“حياتنا، ثقافاتنا، مكونة من العديد من القصص المتداخلة. تكمن الخطورة في أن نسمع قصة واحدة فقط عن شخص أو بلد، لأن ذلك يعرضنا لسوء فهم كارثي.”
بيافرا.. الجرح الذي لم يندمل
رغم أنها وُلدت بعد انتهاء حرب بيافرا بسبع سنوات، إلا أن هذا الصراع شكّل وعيها وهويتها. فهي تنتمي لقبائل الإيجبو، التي ذاقت مرارة الحرب والمجازر، وما زالت ترى نفسها صوتًا لمن عانوا وذاقوا مرارة الانفصال الذي تحوّل إلى حرب أهلية طاحنة. لا تتوانى عن التأكيد على جذورها، قائلة:
“أنا من بيافرا أولًا، بيافرا في الماضي، بيافرا دائمًا. لا تخطئ بمناداتي بالنيجيرية مجددًا.”
بين الأدب والهوية
وُلدت تشيماماندا عام 1977، في منزل الكاتب الكبير تشينوا أتشيبي في نسوكا، وترعرعت في كنف أسرة أكاديمية؛ فوالدها كان أول أستاذ للإحصاء في جامعة نيجيريا، بينما كانت والدتها أول امرأة تلتحق بالجامعة. ورغم تميزها الأكاديمي، حيث درست الطب والصيدلة لفترة، إلا أن شغفها بالكتابة دفعها لمغادرة نيجيريا إلى الولايات المتحدة، حيث درست الاتصالات والعلوم السياسية، وحصلت على الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة جونز هوبكنز.
روايات تحكي وجع الوطن
بدأت أديتشي رحلتها الأدبية برواية زهرة الكركديه الأرجوانية (2003)، التي حصدت إشادة واسعة، ثم توالت إبداعاتها بـ نصف شمس صفراء (2006)، التي وثّقت مأساة بيافرا، والأشباح (2007)، وأمريكانا (2013). كما نشرت مجموعة قصصية بعنوان ذاك الشيء حول عنقك (2009). لم تمر هذه الأعمال دون تكريم، فحصدت جوائز عديدة، منها جائزة أورانج للإبداع النسائي، وجائزة كين للأدب الأفريقي، وزمالة مؤسسة ماك آرثر.
الكتابة ضد النسيان
ترى أديتشي في الكتابة وسيلة لتخليد الذاكرة الجماعية، إذ تقول:
“النسيان موت، وأن تُنسى القضية يعني أن تموت مرتين.”
لهذا، تكتب عن بيافرا، عن الذين قتلوا أو ذُبحت أحلامهم، عن الأسباب التي أدت إلى الانفصال، والتي ما زالت ماثلة حتى اليوم في الفساد والسرقة وإرهاب أبناء بيافرا. في نصف شمس صفراء، جسّدت مآسي الحرب، من المجازر والجوع والمرض، وصولًا إلى انهيار الأحلام، حيث يتحول الأمل في الاستقلال إلى كابوس من الألم.
أما في قصتها الأشباح، فتصف معاناة سكان الحرم الجامعي أثناء الحرب وبعدها، حين أصبح كل شيء مشوبًا بالخوف والدمار:
“لن تستطيع العودة!” صحتُ به، لكنه لوّح لي وقال: “يجب أن أُحضر بعض المخطوطات.” أو ربما قال: “يجب أن أحصل على بعض المواد.” ظننتُه متهورًا، فقد أصبح القصف قريبًا جدًا، وكنا نعتقد أن قواتنا ستطرد المخربين خلال أسبوع أو اثنين على الأكثر. كنا نشعر بعدالة قضية بيافرا، ولم يقلقني الأمر كثيرًا حتى سمعنا بسقوط نسوكا وباحتلال الحرم الجامعي، وعلمنا أن أحد المحاضرين قُتل أثناء جداله مع الجنود الاتحاديين…”
المرأة.. الصوت الآخر للحكاية
لا تقتصر كتابات أديتشي على الحروب، بل تتناول قضايا المرأة بعمق، كما في قصتها الانتقال إلى الألق، حيث تفضح المعايير المزدوجة التي يعامل بها المجتمع النيجيري النساء، وتناقش القهر المجتمعي والتهميش. في أمريكانا، تعرض معاناة المهاجرين النيجيريين في أميركا، وصراع الهوية بين الوطن والمنفى.
أديتشي.. حكاءة لا تهدأ
مشروع أديتشي المستمر هو إعادة رسم ملامح بيافرا عبر الحكايات، فتبحث عن تفاصيل الحرب من أفواه من عاشوها، ثم تنسجها في قصصها، لتمنح صوتًا لمن طُمست أصواتهم. شخصياتها تدفعها دوافع لا تدركها هي نفسها، لكنها تعكس ذلك القلق الوجودي، وذلك الإيمان العميق بضرورة سرد القصة الأخرى.
لا تزال تشيماماندا نجوزي أديتشي، الحكاءة الإيبانية، تحمل حلم بيافرا في قلبها، وتكتب عنه بشغف لا يخبو، لتظل صوتًا يزعج الصمت، وضميرًا يرفض النسيان.