اللوحة للفنان محسن شعلان
فى ذلك الصباح العادى اللزج، أُسرع الخطى علىَّ أصل إلى مبتغاى .. سائرة أنا من بيتى بالقرب من ميدان (عابدين) حيث البنايات المتداعية الساكنة التى طالما استنطقتها فرفضت أن تبوح لى، أبت أن تنضم لى فى أى يوم من أيامنا، أشاحت بوجهها عنى فى أجمل لحظات النجاح، خاصمتنى وأنا عائدة من أول ميعاد غرام، لم ترق لدموعى عند وفاة أمى. هى أعلنت العصيان على رفقتى؛ فحين أسير فى شوارعها ليلاً، أو نهارًا أكون بالفعل وحيدة، وليس على سبيل المجاز.
فى تلك الشوارع الجانبية التى أعرفها ولا تعرفنى، اخترقها بتمهل، وربما بإهمال قاصدة وسط البلد؛ شارع قصر النيل بالتحديد موعدى اليومى الذى لا أتذكر أنى أخلفته مهما حدث، من سنين وأنا أُدمن ذلك السر الصغير؛ أعرج إلى هذا المكان قبل أن أحط فى مقرى الدائم فى جامعة القاهرة .. هل ذكرت لكم أنى أُلقى على طلابى دروس فى مادة النقد الأدبى..؟ اعتقد أن ذلك لايهم .. ما أتذكره جيدا أننى كُنت طالبة فى نفس الكلية منذ عشر سنوات، فى أولى خطواتى المترددة نحو تلك الكلية كانوا جميعهم يتحدثون عن “نجيب محفوظ” وجولاته الصباحية التى يصافح بها شوارع القاهرة قبل أن تستقبل أى عابر، كأنه ذلك المسئول الكبير الذى يقص شرائطها، ثم يسمح لمن دونه بعد ذلك بالعبور، الآن وقد رحل محفوظ عن عالمنا، مازال الحكى عنه حدثًا يوميًا، خصوصًا أن بعض أساتذتى من حوارييه.
عشت أسيرة تلك الحالة؛ استيقظ مبكرة كل يوم، أسير كالهائمة فى الطرقات، أحفظ أرقام العمارات التى نسيت عوامل الزمن إزالتها، أغوص فى الممرات التى تجرى بين كل مجموعة من الأبنية، أتأمل ذلك الخياط الذى يملك (مانيكانًا) واحدًا، ومساحة لاتتجاوز المتر المربع هى محله الفاخر..!، ويعيش على اصلاح و(تظبيط) الملابس التى يشتريها المترددون من المحال المجاورة خارج الممر. لم يطمع يومًا أن ينفرد بقطعة قماش يقوم بتصميمها، وتنفيذها بمفرده، بل يعيش كالضباع، يقتات على ما يتركه الآخرون، هو لايشتكى؛ فهو يتحمل مكاره الحياه عله يكون من الفائزين فى الدار الآخره .. أما ذلك الذى يعمل فى تجليد الكتب، ويطلق على تلك المساحة البائسة التى يشغلها من الممر مكتبة، لم يُصدم مطلقًا من اكتشافه أن الناس لايقرأون، وأن مكتبته التى صاحب كل كتاب فيها لم يعرها غيره إلتفاتًا، ربما بعض الكُتاب المدمنين الذين يلجئون إليه أحيانًا كملاذ آخير للبحث عن كِتاب فشلوا فى العثور عليه فى المكتبات. أما رزقه الأساسى فيأتى من تجليد الكتب، يشكر عبث الأطفال بكتبهم، إهمالهم للكتاب المدرسى، وزهدهم فيه؛ ذلك مايجعل الكتاب يقع فى يده فى النهاية ليحاول اعادته لسابق عهده، أو على الأقل يجمع صفحاته وأوراقه ويجعل بينها رابطًا ما يُمكن الطالب من إستكمال عامه الدراسى، ولايهم كثيرًا ماذا يحدث بعد ذلك ..! يلفت انتباهى محال نشاطه حديث لاينتمى للأنشطة القديمة التى يعج بها وسط البلد، محال لبيع الأجهزة الطبية؛ أجهزة لقياس السكر والضغط، وأطراف صناعية، وأدوات معامل، وأشياء أخرى لا أفهمها ، ما الذى آتى بالجديد هنا ليلوث العتيق ..؟ من حول التاريخ الكامن هنا إلى واقع ..؟ أقرر أن أكره ذلك المحل، ابتعد لتتسع زاوية رؤيتى، أحاول أن اقنع نفسى بأن الوضع ليس بالسيئ، وأنه لاينال من تاريخ وسط البلد الكثير، يأبى داخلى أن يقتنع، يرفضه، يلفظه.
(استوديو رومان) هو الاسم الوحيد المطبوع على كل صورى منذ الطفولة؛ لم تكن صورنا قديمًا صور رفاهية بل كانت ترتبط غالبًا بالانتقال من مرحلة لمرحلة دراسية وفى كل مرحلة ننمو وتتغير أشكالنا فنحتاج إلى صور جديدة تثبت ذلك. فى أول صور لى عند رومان كنت طفلة فى السادسة من عمرى اصطحبنى أبى إليه طالبًا صور (4×6) لزوم التقديم للمدرسة، كنت أحبس دموعى .. لسبب لا أعرفه لم أعشق التصوير، لم أحب التجمد فى مكانى وحبس أنفاسى، وافتعال ابتسامة أو ضحكة .. أدرك المصور العجوز بخبرته مشاعرى، فتعلقت يداه بلعبة على شكل أرنب استخرجها من دولاب علوى فى الحجرة، قدمها إلىَّ وعلى وجهه ابتسامة حقيقية وليست مزيفة – الغريب أننى فى هذه السن الصغيرة كنت أدرك الفرق بين المزيف والحقيقى- رفض أبى أن أمسك بالدمية حتى لاتظهر فى الصورة، فلما أكد له العجوز أنها فقط لطمأنتى، وإبعاد الخوف عن نفسى، وجلب السعاده. رفض ذلك أيضًا وقال: أنه يريدنى أن أظهر بشكل جاد لأنها صور رسمية – تخيلوا طفلة فى السادسة يريدها أبوها بمظهر جاد، ورسمى- .. !
وصلت الآن إلى جوار (جروبى قصر النيل)، يطل على من خلفى تمثال طلعت حرب، هو مثل كل تماثيل وأعمدة الشوارع ينظر إلى بإزدراء، فكرت يومًا فى عتابه ولكنى تراجعت سيقول لى مثلما يبرر كل البشر: أنت شديدة الحساسية، نحن جميعًا ننظر لبعضنا بإزدراء فلا مجال للشكوى .. أمرر يدى على الرخام السفلى الذى يكسى جدران (جروبى) من الخارج، أحسن بأن يدى تتنفس، أطياف قليلة تغشى المكان، تختبئ فى الداخل فى هذا الصباح الذى لم يتضح كنهه بعد .. وأنا فى طريقى ألمح عينين من الداخل تحملقان بى، أين رأيت هاتين العينين قبلاً ..؟ لا أتذكر .. ربما لو رأيت الطيف مكتملاً أستطيع تذكره .. ربما .. !
أعبر مكتب طيران الشرق الأوسط، لا أعيره إنتباهًا فى الغالب مثل آلاف المرات السابقة، ثم كبارية (أنستازيا) الذى أصبح يستقبل صنوفًا مختلفة من البشر. كان فى الماضى مطعم وكبارية بجوار (نادى السيارات) العتيق، يطمع أن يتطلع إليه زبائن النادى فيرمونه بنظره عابره أثناء دخولهم أو خروجهم، ولكن ظل ذلك أملًا بعيد المنال. وإن كان يعمه بعض الرواج تلك الأيام ، كان الزبائن فيه أفضل قليلاً، وهو يحاول أن يحقق بعض الجودة والمستوى قياسًا بما حوله من منشآت .. الآن هو كبارية فقط، لاتلمح من مرتاديه سوى العمال، والأشياء الرخيصة؛ فالموائد والكراسى من أردأ الأنواع، كذلك المأكولات والمشروبات، والزى الذى ترتديه النادلات، فإذا تصادف وسمعت حديثًا دائرًا بين شخصين، أو مجموعة أشخاص فى المكان فستدرك على الفور أنك ربما دخلت حدود حارة شعبية عن طريق الخطأ. محل الجلود الملاصق للكباريه لم يفتح أبوابه بعد، لطالما أحببت رائحة الجلود المنبعثة منه للخارج، لم تجذبنى منتجاته بقدر ماأسرتنى رائحة الجلد المدبوغ وأحببتها.
اجتزت (نادى السيارات) فى طريقى إلى (الجريون) مكانى الصباحى، وسرى الصغير الذى لا يعرفه سوى صديقى السرى (أسامه).. هو يعمل فى الجريون منذ خمس سنوات هى نفس الفترة التى وجدت نفسى لا استطيع آداء أى عمل إلا بعد تناولى كأسين يعدهما خصيصًا لى قبل أن يفتح الجريون أبوابه، ويجلس معى نخوض فى أى حديث هربًا من التفكير فى ماذا لو ..؟ ماذا لو رآنى هنا أى عضو زميل من أعضاء هيئة التدريس على هذه الكيفية التى لاتمثل مخالفة لعرفنا فقط، بل تشمل الجلوس مع عمال فى مكان غير معد وغير لائق بالنسبه لوضعى الوظيفى ..؟ ماذا لو تخلى عنى أسامة، وقرر وقف التعامل معى، أو حدثت له أية ظروف منعته من التواجد ..؟ ماذا لو تجرأ على أحد العمال هنا، ولم يستطع أسامة ردعه ..؟ ماذا لو شك فىَّ أحد أساتذتى، أو سمع عنى أننى أرتاد مكانًا مثل هذا فى خلو من رواده ..؟ ذلك الذى حدث بالفعل تقريبًا؛ فى يوم شتوى شديد المطر والبرودة من العام الماضى أنجزت مهمتى الصباحية فى الجريون وخرجت مسرعة أشير إلى أقرب تاكسى يقلنى إلى الجامعة، توقف السائق فورًا وعاد إلى الخلف ليكون أقرب لى قدر الإمكان ليحمينى من التعثر فى برك الماء المتناثرة بطول الشارع، ركبت سريعًا، وجلست فى المقعد الخلفى، وبمجرد دخولى أغلق كل النوافذ ليعم الدفء المكان، كان التاكسى نظيفًا مرتبًا، وكذلك سائقه مما شجعنى على قبول الحديث معه؛ بدأ حديث الشكوى المعتاد من إرتفاع الأسعار، ثم تطرق إلى موضوعات ثقافية وسياسية دون توغل؛ كان أشبه بخبير يدخل إلى وليمة عامرة فيختار قطعة أو اثنتين فقط من تلك الأصناف النادرة والمحببة إليه، ولايُقبل على ماشاع وانتشر .. فجأة استدار نحوى وأنا أتحدث، ونظر إلى نظرة طويلة قبل أن يعود إلى وضعه المألوف خلف عجلة القيادة ويلزم الصمت تمامًا حتى وصولنا إلى الجامعة، كانت نظرته مزيجًا من التعجب، والاحتقار، والدهشة، والصدمة، وكنت بقية الطريق أحاول ترجمة تصرفه، فلم يكن له سوى معنى وحيد؛ أنه شم الرائحة المنبعثة من فمى.
اللوحة للفنان محسن شعلان
بمجرد وصولى إلى الكلية فى ذاك اليوم اصطدمت بالدكتور “جلال”، كان قد انقضى من وقت محاضرتى مايربو على الساعة، والطلبة فى إنتظارى، ولم أقم حتى بالاعتذار لهم، هل أخبرتكم أن د. جلال هو رئيس القسم .. ؟ هل أخبرتكم أننى مغرمة به، وهو يدعى عدم معرفته بذلك ..؟ هو لا يلتفت لارتباكى فى وجوده، لنظرة التمنى التى أشمله بها، لانتظارى لكلمات منه لاتجيئ تتحدث عن جمال عيونى، وروعه تنسيق جسمى، وملاحة وجهى .. حينما اصطدم بى أدرك على الفور أين كنت، وماذا كنت أفعل .. هو يقرأنى مثل خريطة واضحة المعالم لاتحتاج لمفتاح، رأيت زفيرًا يخرج منه يصفعنى، ثم نظرة كلها سُباب وقال :
- هل من اللائق أن تقومى بالتدريس للطلبة، وأنتِ بهذا الشكل ..؟
تهربت من الإجابة، وانسحبت من الحجرة دون أن أنطق بحرف .. لو أجبته لقلت: أنت سبب كل ماأنا فيه، تتكلم الآن عن اللائق ..!
وصلت (الجريون) .. أسامة فى انتظارى وكل شيء هادئ، منضدة وحيدة معدة لاستقبالى، موضوع عليها كأس فارغة، وزجاجة مجهولة المعالم، وبقية المناضد مقلوبة والعمال يمارسون التنظيف كسالى وبغير عجلة .. يجلس أسامة إلى المنضدة، يصب الكأس وهو ينظر إلىَ، نظراته اليوم مصوبة، وأكثر جرأة، يتكلم كثيرًا؛ حديثًا مختلطًا بين الخاص والعام، يذكرنى بأنه حاصل على مؤهل عالٍ بتقدير أيضًا، وأنه لولا الظلم لكان زميلاً لى فى الجامعة، يحكى عن أمه وإخوته ومدى احتياجهم لراتبه وإلا ماكان عمل فى تلك الوظيفة، يؤكد لى أنه سيكمل دراسته العليا ولن يقف عند هذا الحد، يصب الكؤوس أثناء حديثه، لا أتذكر جيدًا اعتقد أنى تجاوزت الثلاثة كؤوس، يمد يده ببطء يقبض على كفى، أتملص منه، أنظر حولى، كل مشغول فى عمله لا أحد يتابعنا أو يهتم لأمرنا، أحاول النهوض فأفشل تخوننى قواى، استجمع نفسى وأقف فجأة، أفرد جذعى وكأننا فى تمرين تربية بدنية، أتجه للخارج ولا أنسى أن أرمى أسامه بمبلغ كبير أكثر بكثير من ثمن الكؤوس .. استند إلى حائط الممر حتى أصل خارجه خائفة من النظر خلفى، ألمح الرجل الوقور الجالس أمام نادى السيارات أطمئن، أفرج عن دموعى التى حبستها، أتذكر كلمات جلال، ألعنه بصوت عال مرات عدة، أردد هو سبب كل ماأنا فيه، ولكنى أتراجع عن غضبى منه، أقول: هو يريدنى أفضل، يريدنى خالية من تلك الندوب، إنه نموذج للناقد الجاد، والأستاذ الجامعى الرصين، كل من يراه يعشق تفانيه واحترامه لنفسه وللآخرين، كل من يعمل معه يقسم أنه مارأى شبيهًا له، هو يريدنى مثالية، يريدنى أفضل فلما لا ..؟ وقد كنت أوشك على الضياع، يجب أن تعمل إرادتى، يجب أن أكون مثله .. أكفكف دموعى، أمسد شعرى، أمضى فى طريقى، أعبر محل الجلود وكافيتريا أنستازيا، اتسمر أمام (جروبى) وأنا أنظر إلى الطيف الذى رأيته قبل قليل، واعتقدت أنى أعرفه، إنه يشبه جلال، غير معقول ..! إنه جلال بالفعل .. لقد أضيئ المكان وكل من فيه بات مكشوفًا، مع من يجلس فى ذلك الصباح ..؟ إنها إمراة ممتلئة، سمراء، موشومة بطريقة فجه، كل مافيها ينطق بالرخص، تضع مساحيق شتى، ومايشبه القرط فى أنفها، وترتدى جلبابًا أسود مزركشًا كالخادمات اللاتى يعملن مع الخليجيات. فتحة الجلباب تظهر منبت صدرها، وتضع غطاءً لامعًا على رأسها يكشف أكثر مايخفى من شعرها، هى لاتسيطر على جلستها، توشك أن تجلس القرفصاء كأنها فى بيتها. كيف سمح لنفسه أن يجلس مع إمرأة كتلك فى مكان عام ..؟ أين هو اللائق الذى يتحدث عنه ..؟ تذكرت أحاديث النميمة التى كانت تطوله على استحياء، وكنت اصنفها من دروب المستحيل، الآن تجسم المستحيل بشحمه وهيئته، هل هانت عليه نفسه إلى تلك الدرجة ..؟ هو ضعيف مثلى تمامًا أمام ادمانه فكيف كان يلومنى ..! أراه يستقدم النادل، أُدرك أنه فى طريقه للمغادره، أتوارى وابتعد عن طريقهما، يستوقف تاكسيًا، يدفعها داخله ثم يجلس ملتصقًا بها كأى مراهق صغير، اشعر بالغضب الشديد منه، افكر فى أشياء كثيره، استرجع مواقفه، كلماته، لا أصدق عيناى ثم فجأة يتملكنى الضحك الشديد منه، ومن ذلك الصباح الذى لم احتمل بوحه، أما كان بمقدور أيهما أن يكون أكثر رفقًا بى..؟!
اقرأ أيضًا:
ضل الحيطة..قصة لـ تغريد النجار
ناقص واحد.. قصيدة لـ مايكل عادل
مقهى لا يعرفه أحد..قصيدة لـ زيزي شوشة
ماء البارحة..قصائد لـ مروان علي
حفرة للعب..قصيدة لـ مها شهاب الدين
سحر الغواية..قصيدة لـ رحاب زيد
مندرة العائلة..قصائد لـ فتحي عبدالسميع
أغلقي الباب ونامي..قصيدة لـ كمال عبدالحميد