اللوحة للفنان محسن شعلان
يوسف أيها المحظوظ، من يحمل البشارة يحق له أن يقول: «اذكرني عند ربك»، أما المكبلون بالشفقة والفقد فلا يمتلكون غير الصمت.. يخافون العلامات الإشارات يخشون أن يهمسوا بالأسماء وعلم آدم الأسماء كلها»، فهل لم يعرف اسم الغواية، اللذة، الألم المعرفة، الحية، التفاحة؟ ماذا لو كان صحيحا أن النطق بالسر يستدعيه؟ ألم يصرح يعقوب وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون فتحقق ما تنبأ؟ النطق بالسر يستدعي وجوده، تجسيده.. البقرات العجاف.. الغراب النائح.. الأسنان المتساقطة.. القبر المفتوح.. الحوائط الصفراء.. عنبر المرضى.. طرقات المستشفيات…الباب المتأرجح لغرف العمليات.. من يخرج من السجن يبتهج لأنه يعرف إلى أين سيعود. أما أسرى السجن الكبير والخائفون من تقطيبة تظهر بغتةً في جبين الطبيب، ثم تختفي بعد أن يتدارك دوره، ويدوزن أحباله الصوتية قائلا: التقرير والأشعة تمام.. فقط سنحتاج لتغيير خطة العلاج. تغيير خطة العلاج.. الذين لا يغيرون رأيهم هم الذين لا يغيرون شيئًا… هذا كلام يقوله تشرشل، وتمنحه الأكاديمية جائزة نوبل، لكن الذين لم يختبروا صورا متعددة للحياة يهابون التغيير.. كانت عمتي التي لا تنام والنور مطفأ تقول هنا أكثر أمانًا، أنا لا أحب المجهول. وكانت هذه الروح المتشبثة بالحياة على الرغم من خراطيم المحاليل الموصولة من وإلى الجسم.. تبهرنا كمعجزة، لكن الأطباء كانوا ينظرون لحالتها على أنها حالة في هامش ناقوس متوسط الحالات الطبية.. حالة يمكن أن أكتب عنها قصة، لكن الطبيب لا يعتد بها عند ذكره لنسب النجاة من الموت بسبب تليف الكبد.. الأطباء صادقون ودقيقون، ولا تخدعهم حلاوة الروح.. فقد ماتت عمتي قبل ثلاثة أيام من الموعد الذي قدروه. كم واحد منا هرول خلف معطف أبيض وذراعين معقودتين خلف الظهر وجذع محني قليلا للأمام، وهمسنا وأنفاسنا تلاحق الخطوات الفارة المتسارعة : دكتور.. التقرير غير مطمئن .. وأتردد هل أرفع الصوت قليلا وأضع علامة استفهام… أوحي له بتيهي وخيبتي أم أخفضه وأضع نقطة تختم عبارة تقريرية كي أوحي له أنني متفهمة ومقدرة، وسأظل ألهث دون توقف في الممرات والمجرات والمدارات المرسومة. يربت الطبيب على كتفي وحدها موظفة «الجمع والتصحيح» تستطيع أن تفسر لمسات أصبع الطبيب على كتفها.. التي اعتادت أن تلتصق الحروف بأصابعها، وأن تتسرب روح الكلمات التي تجمعها إلى مسامها، أحيانًا تبقى كلمات تحت الجلد، وأحيانًا تنتشر الكلمات أبطأ من المحلول الوريدي في شرايينها.. رويدا رويدا، لكن بثبات.. كما أن كل التجارب التي تخوضها للمرة الأولى وترشد نفسها بنفسها، وتضع دائما بيانًا لكل الخطوات التي سارتها، والعمليات الحربية التي خاضتها.. فتُسجل في ذاكرتها البيان الخامس: على الممرضات غير المتمرسات الانتباه لغطاء (الكلونا) حتى لا يخرج المحلول الملحي أو السكري الذي دخل للوريد… ستكون الخسارة فادحة لأن روح المرضى الذين يتعذَّبون من الألم تبحث عن أي منفذ، وستجد في الفتحة منفذا للخلاص.. بعيدًا عن حفلات الألم السادية».مدينة أنا، وكل الممرضات في العالم لـ «كولين مردوخ» الرجل الذي قدر حجم المعاناة من الاستخدام القديم للحقنة أكثر من مرة، فاخترع الحقن التي تستخدم مرَّةً واحدةً، وتكون مُعقمة وجاهزة فورًا للاستخدام. ما زلت لا أجرؤ على إعطاء حقنة. يقول الراسخون في العلم: «تدربي في برتقالة.. ليمونة.. سأحاول.. حقن وريد… حقن عضلة، حقن تحت الجلد… وأسماء بنجامين روبن ابن سينا، الفراعنة.. لكل الأشياء تاريخ طويل من التطوير، لا شيء يظهر فجأة أو صدفة».الا يُجيب الطبيب عن سؤالي. يكتفي بنصف ابتسامة.. هذا الطبيب لا يعرفني.. لا يعرف أنني اختبرت من قبل مواقف وحالات ملغزة.. ذات ظهيرة اتصل بي هاتفيا المهندس مالك العمارة التي أقطنها، وعاتبني: «يا أستاذة حضرتك قلبك طيب، وتسمحين لأشكال من الناس بأن تضحك عليك، زوجة البواب تدعي أن زوجها مات، وهذه تمثيلية، هو مستريح في بلدهم ويُرسلها لتستعطفك وتستغلكِ، أرجوك لا تشجعي أمثال هؤلاء على النصب». مرت شهور قليلة .. مات المهندس، وعندما علمت بالخبر… كان أول ما تبادر في ذهني.. وحدك ستتأكد إذا كان عم أحمد البواب هنا أم هناك ماذا ستقول لعم أحمد البواب عندما تلتقي به؟ ولأنه لم يهاتفني منذ رحيله، فأنا أقدر أن الخجل الذي لم يكن لديه.. يغرق فيه هناك.. وأنه انضم إلى ركب الذين يدركون أن لا شيء يستحق هذه الصراعات أو الأحكام الباترة والقاسية، والأهم أنه يرى الآن كل العلامات والإشارات دون أن تحتاج إلى تأويل.
………………………………………
من ورم مشاكس يؤنس وحدتي
من مجموعة الدرويشة
اقرأ أيضًا:
ضل الحيطة..قصة لـ تغريد النجار
ناقص واحد.. قصيدة لـ مايكل عادل
مقهى لا يعرفه أحد..قصيدة لـ زيزي شوشة
ماء البارحة..قصائد لـ مروان علي
حفرة للعب..قصيدة لـ مها شهاب الدين
سحر الغواية..قصيدة لـ رحاب زيد
مندرة العائلة..قصائد لـ فتحي عبدالسميع
أغلقي الباب ونامي..قصيدة لـ كمال عبدالحميد
مختارات من قصائد قاطع طريق.. لـ سيد العديسى