جانى اللى بحبه
جانى اللى بحبه جانى
و فرحت بقربه تانى
و مين يا قلبى ينسى
حبيبه الأولانى
كلمات : فتحى قورة
ها قد وصلت الكتابة إلى الولد الذى أحبه منذ صفقتُ له قبل أن أعرف اسمه ،جانى الفنان (أحمد مجدى) الذى فتح أمامى عوالم جديدة ومختلفة .
1
اختراق الهواء
رأيته لأول مرة مع فرقة الطمى التى حققت انتشارا واسعا فى مطلع 2008 وحضرتُ حفلاً لهم وكانوا يقدمون تابلوهات غائية لأشعار أحمد فؤاد نجم وفؤاد حداد وموسيقى سيد درويش، وخرجت وأنا أسأل عن هذا الولد الذى خطفنى بآدائه أولاً ،وسيطرته على آداء الفرقة كلها ثانياً ، وعرفت إنه ممثل وأخرج فيلما وثائقيا فشعرت بكثير من الراحة لذائقتى التى جعلتنى لا أرى سواه طوال الحفل ،ودارت الأيام حتى رأيته فى حفل توقيع روايتى “ودع هواك ” بدار ميريت بشارع قصر النيل ، فتركت الجميع وتوجهت إليه وأنا أناديه باسمه فأحمر خجلاً وهو يرد بأدب شديد : ميرسى يا عمو !، وأنا سمعت يا عمو من هنا ووقعت على ضهرى من الضحك ، وقلت له أنت اللى عمو .. أنا من جمهورك، وقدمت له الرواية بإهداء يحمل مشاعرى عندما رأيته على المسرح مع فرقة الطمى، ودارت الأيام دورة أكبر قليلاً وعرفت أحمد واقتربت منه فأضاف إلى وجدانى وعقلى وأصبح رهاناً على نجاح القيمة ونموذج لرفض الاستسهال ورؤية جديدة لجيل فى السينما لا يرفض أستاذية الكبار ولا يعترف بها، يُقدر التجارب السابقة ولا يقدسها، جيل يبحث لنفسه عن عالم سينمائى جديد يمكنه التحليق كما حلقت أجيال سبقتهم من الثمانينيات وصنعت بصمة كانت مفصلية فى مسيرة السينما والفن عموما.
خطفنى أحمد مجدى حتى من أصدقائى العواجيز بتألق روحه وبحثه دائما عن الجديد فى التمثيل والموسيقى والأدب، شجعنى على التطلع لما وراء الطبيعة وجددّ شباب كولن ويلسون فى عقلى وأعادنى إلى الفلسفة، لم يزرنى مرة إلا ومعه شىء جديد ،مرة يتعلم عزف العود، وآخرى يتعلم النفخ فى آلة هندية ضخمة ،وثالثة بمجلد الحضارة الهندية التى كان مولعا بها آنذاك ، هذا بخلاف الهوس بقيادة الموتسيكلات ومغامرة اختراق الهواء بمركبة معدنية ضخمة كتلك التحفة التى طار من الفرحة يوم اقتنائها .. وكنت اعتبرها مركبة فضائية مفتوحة وليست مجرد موتوسيكل حديث، زرع معى أول شجرة ياسمين فى حديقة بيتى ، وذابت فوارق السن بسنوات الوعى التى يحملها هذا الولد ، فأصبحت استشيره فى تربية أولادى ،واستعنت بخبراته فى فتح عالم السينما الأوربية أمام ابنتى ضحى التى كانت تدرس المونتاج بالعهد العالى للسينما،وعندما التحقت ابنتى الثانية شيرى بالكونسرفتوار لدراسة آلة “الأوبا ” كان يبتكر أشكالاً للدويتو بين عزفه على العود الذى بدأ يتعلمه وبين آلة “الأوبا” أو وسيدة الأوركسترا كما يطلقون عليها ، وكنت أنظر إليه بامتنان شديد وهو يحاول إعادة الثقة إلى شيرى فى فترة ملل وزهق من مستقبل الموسيقى وآلة الأوبا تحديداً!.
2
النبيل .. جونت
فى 2015 قدم أحمد مجدى تجربته المهمة فى فيلم ميكرفون ،وتألق فى باب الوداع وأصبحت السينما المستقلة طريقه الذى يختار من خلاله تجاربه فى التمثيل والإخراج ،وكان الولد الذى صفقت له صغيراً قد أمتلك وعيا وثقافة تعادل سنوات عمره ،لا يترك فرصة للتعلم إلا ويقتنصها ،يقرأ ويشاهد ويخصص أياما على مدار فصول العام يتجول فيها بين الجبال والوديان ،وفى بيت الفنان التشكيلى محمد شهدى تشكّلت علاقتنا أكثر وأصبح ” جونيت ” نوراً مضافاً إلى حياة كثيرين من الشعراء والروائيين والتشكيليين الكبار الذين يعتبر بعضهم مرجعية له .
التمثيل والإخراج والفن عموما ليس معزولاً عن الحياة والثقافة والأدب والخيال ،الطاقة الروحية للفنان تستحق أن تكون جزءً من تكوينه العقلى والجسمانى ، الفلوس التى يحصدها الممثل أو الفنان عموما عن عمله ليست لتسديد ديونه ولكنها لاستكمال الناقص ، كان أحمد مجدى يقول هذا الكلام ، وأقول أهو كلام!، حتى فاجأنا جميعا وقرر السفر إلى الهند بأول فلوس حصل عليها كى يستكمل دراسة عالم اليوجا!، طبعا نحن كعواجيز كنا نضحك من هذا المجنون ، لكنه فعلها وعاد ليضع قرارات جديدة فرضها علينا جميعا كبارا وصغاراً ،فلم يعد مسموحا لواحد منا أن يخطىء ويذكر الاسم القديم ( أحمد مجدى ) وقد خضعنا لتعاليم اليوجا وعالمها الواسع الذى دخل إليه أحمد مجدى ..ليخرج منه وقد أصبح اسمه ” جونت ” وهو اللقب الذى حصل عليه من البروفيسير والمُعلم الخاص به فى الهند ومعناه “النبيل”، وخضعنا لجونت ،الصديق الاستثنائى ، الذى لا يتوقف عن تطوير نفسه .. يغرف من ثقافة الهند والسند ويصعد جبال ويعزف مزيكا ويدخل عالم الحيوانات ويبحث عن أسرار الكواكب والنجوم ويمتلك قدرة التغيير ويثير دهشتى بالمعرفة ، كنا نتحدث سويا عن السر الذى جمع بين دافنشى وفتاة الموناليزا ،وعندما سافر فرنسا زار متحف اللوفر وعاد ليحكى عن القداسة التى يعرضون بها اللوحة باستخدام تقنيات حديثة تتيح للجمهور أن يشاهد اللوحة من زواياها المختلفة عبر شاشات عرض ضخمة،وكلما زار بلداً بدأ بثقافتها وحضارتها وطبيعة شعوبها ، ووسط مجموعتنا – كأصدقاء عواجيز بالنسبة له – استطاع أن يكون صديقا للكل، وهذه لو تعلمون عظيمة إذ نعانى جميعا من عقد وأمراض وأوجاع ونجده معنا فى كل هذا شيالاً للهموم وحافظاً للأسرار كراهب يسمع وينصح ثم يمضى.
3
الكتاب الأحمر
فى 2015 كنا قد اقتربنا كأصدقاء بالطبع ، وبالتالى أصبحت بيننا مواعيد لم يخلفها إلا ثلاث مرات!والثلاثة كانوا بسبب الكتاب الأحمر!،فى المرة الأولى ، معلهش عشان مستنى الكتاب هينزل النهاردة ، وفى الثانية ،رايح استلم الكتاب ، وفى الثالثة سألته :
وبتاع مين الكتاب الأحمر ده اللى مثبتك كده يا جونت يا أخويا؟
ـ كارل يونج
ـ ده مات وشبع موت يا برنس .. كتاب إيه وأحمر إيه بقى ؟
ـ لما نتقابل هتغير رأيك .. وضحك بثقة زائدة!.
هيطلع حى يعنى سى كارل يونج !هكذا قلتُ،حتى جاءنى متهللا يحمل نسختين أهدانى إحداهما بالطبع ،وكانت مجلداً ضخما يسد النفس رغم حمار الغلاف المغرى، وقد أغرانى بالفعل وقرأت وعرفت الكثير مما أجهل ، كان كارل يونج (1875 ـ 1961) قد انتهى بالنسبة لى عند صديقه وأستاذه سيجموند فرويد الذى حطم نظرية “التنويم المغناطيسى” كأول سلاح يبحث فى رأس الإنسان فعندما ظهر السيد فرويد صرخ فى أساتذته الكبار لأنه يواجه صعوبات بالغة فى تنويم بعض الأشخاص ،فليس كل مريض سيغفو بمجرد اطفاء النور وسماع الموسيقى!، ثم إن المريض ـ إن نام ـ يتخلص، فقط، من بعض كوامن النفس ثم يعود للاكتئاب أو الهيستريا من جديد مهما امتدت جلسات التنويم!!، وتركهم فرويد وأعاد الدراسة من جديد حتى توصل إلى علم التحليل النفسى الذى يأخد الأحلام والكوابيس وذكريات الطفولة ومخاوفها ورغباتها ومآسى الحب والفقد والموت بعين الاعتبار فى تحليل أسباب انهيار الإنسان أمام أزماته،وتشككّ الأدباء والسينمائيون والتشكيليون فيما قدموا من أعمال اعتمدت على فكرة التنويم ، واستقر فرويد على عرش علم النفس حتى ظهر “كارل يونج” ليصطدم مع أستاذه ويتوصل إلى نظرية ” الطاقة ” التى يمتلكها اللاوعى فى عقل البشرية ، وأصدر الكتاب الأسود ثم جاء الكتاب الأحمر الذى تفوق على جميع المحللين النفسيين ،ليس بوضع نظرية جديدة فى تحليل السلوك الإنسانى،ولكن للرحلة الصعبة التى ذهب فيها إلى أضغاث أحلامه وذكرياته وهلوساته وانفعالاته وخيالات الشياطين التى تخرج من روحه لتبدأ رحلة جديدة لفارس يمتطى حصانه ويخوض معارك قتل وحوش الشر بحثا عن المُخلص وتأكيداً لوجود طاقة روحية تسكن اللاوعى قادرة على تحقيق التوازن النفسى، كان كارل يونج يكتب كل ما تراه خيالاته ويسجل أحلامه الليلية التى يلتقى خلالها بالروح وبالشيطان وبالسيد المسيح ويصل إلى لقاء السحاب وإله السحاب ويعيد تأمل الروح فى ميلها الأنثوى والذكورى،فالكل مقسوم على واحد، والقرين مشترك فى اللاوعى بين الرجل والمرأة!، وظل على مدار 16 عاماً يكتب كل ذلك بأريحية مطلقة ،ولم يكن يفكر فى نشر هذه الفصول التى استخدم فيها كل فنون الإبداع من كتابة سيرة ذاتية عنيفة وجارحة تجسد لحظات الجنون والعبقرية، إلى رسم الشخصيات عن طريق التصوير الفوتوغرافى إلى جانب التحليل النفسى،وظلت أوراق عالم النفس السويسرى والطبيب والمحلل النفسى كارل يونج مخطوطا سريا محفوظا فى أحد المصارف حتى قررت العائلة فى 2009 الإفراج عن المخطوط لينشر باللغتين الألمانية والإنجليزية بعد مرور مائة عام على كتابته ويصبح واحداً من أهم كتب القرن الواحد والعشرين ويحقق مبيعات مرعبة ويصل سعر النسخة إلى 300 يورو ، وفى 2011 تمت ترجمته إلى الفرنسية والإسبانية وبعدها بأربع سنوات صدرت الترجمة العربية عن دار الحوار للنشر وقام بها متيم الضايع ورنا بشّور وجاء بها أحمد مجدى لتجدد معنى الإنسان الكامل أو “المختار”،فكما يقول كارل يونج ” يبنى الخيرون نيّاتهم على رحمة الله التى يثقون بها فى أى مسعى لهم أكثر من ثقتهم فى حكمتهم الخاصة “، وكان الكتاب الأحمر بشرة خير على جونت أو أحمد مجدى الذى كان يعمل وقتها على فيلمه ” لا أحد هناك ” حيث خرجت كل قواه الإبداعية فى الإخراج والتمثيل والتصوير وصنع فيلماً عن الإنسان فى لحظاته الصعبة أمام اختبارات الوجود ،وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً واعتبره النقاد مرحلة مهمة فى مستقبل صناعة السينما المستقلة ،لكن الأجمل بالنسبة لى كان إعادة اكتشاف الذات وتحفيز الإرادة وامتلاء الوعى بالشجاعة والقدرة على المغامرة وتلك تعاليم الكتاب الأحمر الذى جعل “جونت ” يجرب كل فنون الإبداع فى هذا العمل من إخراج وتمثيل وتصوير ومونتاج أيضا ، كما جرب مغامرة صناعة عمل جيد بأقل التكاليف الممكنة مستعينا بمجموعة من أصدقائه ومحبيه وتدريب بعضهم على حرفية الإضاءة والديكور وحتى صناعة الخدع السينمائية.