ريم صالح
الحداثة لا تعني بالضرورة الحيوية، والتغير لا يكون دائمًا للأفضل.
الفلاح لا يتحدث قط عن الفن.. وإنما يصنعه.
انظر تحت قدميك وابنِ.
حسن فتحي
إن كان كتاب “عمارة الفقراء“ هو الأشهر لشيخ المعماريين حسن فتحي، فإن هناك أعمالًا أخرى له لا تقل شأنًا عنه، فكتاب “الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية“، لا يعد مجرد مرجع نظري، بل دليلًا يضيء دروب المعماريين الساعين إلى فهم العلاقة العميقة بين التصميم والبيئة. فبالنسبة لفتحي، لم تكن العمارة مجرد إنشاءات صامتة، بل كائنًا حيًا يتنفس مع الطبيعة، وينسجم مع إيقاعها، لا يعاديها ولا يستنزف مواردها. ومن هذا المنطلق، جاءت كلمته الخالدة: “انظر تحت قدميك.. وابنِ“.
يتناول الكتاب بأسلوب علمي سلس تأثير المناخ على العمارة، موضحًا كيف يمكن تحقيق الراحة الحرارية من خلال استثمار الطاقات الطبيعية بدلًا من الاعتماد على الوسائل الميكانيكية المستنزفة للطاقة. ففي الجزء الأول، يغوص حسن فتحي في العلاقة بين الإنسان والبيئة، متناولًا الديناميكا الحرارية، وتأثير التوصيل الحراري، والإشعاع، والحمل الحراري على راحة الإنسان، لا سيما في المناخات الحارة الجافة.
أما الجزء الثاني، فيكشف أسرار الطاقات الطبيعية في العمارة التقليدية، حيث يوضح أهمية توجيه المباني، وتقنيات التظليل، والاستفادة من الشمس والرياح في تحقيق بيئة داخلية مريحة. كما يتناول تفاصيل المشربيات، وملاقف الهواء (البادجير)، والفناء الداخلي، ودورها في تحسين المناخ داخل المباني. ولم يغفل الكتاب أهمية الماء كعنصر معماري، متحدثًا عن دور النافورات والسلسبيل في تلطيف الأجواء.
وفي خاتمته، يضم الكتاب ملاحق علمية تحتوي على بيانات دقيقة ومعادلات فيزيائية تتعلق بحسابات الرطوبة، ودرجات الحرارة، وزوايا الشمس، ما يجعله مرجعًا عمليًا للمعماريين الراغبين في تطبيق مبادئ العمارة البيئية المستدامة.
لكن “الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية” ليس مجرد نص أكاديمي، بل خارطة طريق لفهم كيف يمكن للعمارة أن تستلهم حلولها من الطبيعة، فتُنتج مبانيَ لا تقف ضد البيئة، بل تحتضنها وتتفاعل معها في تناغم جميل. فلم يكن حسن فتحي مجرد منظرٍ في العمارة البيئية؛ بل كان مهندسًا عمليًا طبّق أفكاره على أرض الواقع. ومن أبرز تجاربه المعمارية التي عكست مبادئ كتابه، مشروع قرية باريس في الوادي الجديد.
في هذه القرية، قدّم فتحي إنجازًا معماريًا مدهشًا، حيث استطاع، من خلال تقنيات التهوية الطبيعية والاعتماد على المواد المحلية، خفض درجات الحرارة داخل السوق بفرق يصل إلى 15 درجة مئوية مقارنة بالخارج، وهو إنجاز استثنائي في بيئة صحراوية قاسية. كان ذلك بفضل التوجيه المدروس للمباني، وملاقف الهواء، والأسقف المقببة، واستخدام الطوب الرملي الذي أثبت كفاءته في العزل الحراري.
تُعد قرية باريس نموذجًا عمليًا لما ورد في كتابه، حيث برهن فتحي أن العمارة التقليدية، حين تُفهم جيدًا، يمكنها تقديم حلول مستدامة لمشاكل الإسكان والمناخ، دون الاعتماد على الطاقة الكهربائية.
لكن تجربة قرية باريس لم تكن التجربة الوحيدة التي حاول فيها حسن فتحي تطبيق فلسفته المعمارية، إذ امتدت رؤيته إلى مناطق أخرى من العالم، ومنها قرية دار السلام في ولاية نيو مكسيكو بالولايات المتحدة الأمريكية. قرية دار السلام، التي صُممت لتستوعب 100 أسرة، لم تكن مجرد مشروع سكني، بل مجتمع متكامل يضم مسجدًا في مركزه، ومدرسة دينية، وسكنًا للمدرسين، ومعهدًا للدراسات الإسلامية المتقدمة، ومتاجر، ومركزًا للنساء، ومكتبة، وعيادة طبية، مما يعكس رؤية حسن فتحي في بناء مجتمعات متكاملة ترتكز على البنية الاجتماعية بقدر ما تهتم بالبنية المادية.
في عام 1980م، زار المعماري حسن فتحي الموقع ليقدم تصميماته ويعرض طرق البناء التقليدية التي ينوي استخدامها. لم يكن فتحي مهندسًا نظريًا فقط، بل كان عمليًا إلى أقصى الحدود، فقد اصطحب معه اثنين من البنائين النوبيين لنقل خبراتهم وتدريب العمالة الأمريكية على تقنيات البناء الطيني التقليدي. وأمام 300 معماري ومسؤول حكومي من مختلف أنحاء الولايات المتحدة، بالإضافة إلى السكان المستقبليين للقرية، قام بشرح وعرض فكره وتصميمه، مؤكداً أن العمارة التقليدية ليست مجرد إرث من الماضي، بل حل مستقبلي مستدام.
إلا أن المشروع واجه عدة تحديات، أبرزها المعايير الأمريكية الصارمة التي رفضت استخدام الطوب الطيني بدعوى أنه “غير متزن” وفقًا للحد الأدنى من المواصفات الأمريكية، مما اضطر القائمين على المشروع إلى إضافة طبقة رقيقة من الإسمنت ليتوافق البناء مع المعايير المطلوبة. كما أدى غياب حسن فتحي بعد وفاته إلى حدوث بعض التعديلات التقنية، حيث استُخدمت الشدّادات الخشبية في تشكيل القباب والقبوات، نتيجة نقص العمالة التقليدية الماهرة.
ورغم هذه التحديات، تبقى قرية دار السلام مثالًا آخر على إصرار حسن فتحي على إعادة إحياء تقنيات البناء المستدام، ودليلاً على أن رؤيته لم تكن محدودة بحدود الجغرافيا، بل كانت فلسفة عالمية سعت إلى تقديم عمارة تتناغم مع البيئة، وتعتمد على الذكاء الفطري للبشر في استغلال الموارد الطبيعية بأفضل الطرق.
إن تجربة حسن فتحي في قرية دار السلام ليست مجرد مشروع معماري، بل رسالة معمارية تجاوزت حدود الزمان والمكان، لتؤكد أن الحلول المستدامة كانت دومًا أمام أعيننا، فقط علينا أن ننظر تحت أقدامنا.. ونبني.