إن تأملته ستجده عصفوراً صغير الحجم، هادىء الصوت، خفيف الحركة بعينين زائغتين يبحث عن غصن شجرة يرتكن إليه، سبح فى بحور وطلع جبال وعبر سهول وطوى رمال، ولم يسترح على شاطىء.
فى 1968 سافر صنع الله إبراهيم إلى بيروت، كان محملاً بغبار المعتقل وصرخات الألم ويوميات الشجن والحزن بعد تجربة قاسية كتب عنها عملاً كاملاً بعنوان “يوميات الواحات” استمرت خمس سنوات (1959 ـ 1964)، لكنه اصطدم فى بيروت مع أنسى الحاج، وتكفل صديقه وزميله بوكالة أنباء الشرق الأوسط المرحوم فتحي القَشّاوي باستضافته حتى عثر على عمل.
عندما خرج صنع الله من المعتقل واتجه إلى بيروت كان يبحث عن تجربة مختلفة تماما تضيف إليه وتتيح له التحليق بأجنحة حرة بعيداً عن ظلام المعتقل وبرودة لياليه. كان يريد عالماً آخر يدخل إليه، ووجد ضالته حين وقع في يده كتاب “نساء جديدات جريئات” الذي صدر عام 1966 والذي تتنوع مواده بين القصة والرواية والمسرحية، وتدور جميعها حول الجنس في حياة المرأة من دون ابتذال رخيص. والنصوص جميعها مكتوبة فترة الخمسينات والستينات؛ حيث كانت المرأة تسعى لدخول منظومة التغيير التي اجتاحت العالم آنذاك. ومع إلغاء الرقابة على المسرح والنشر اندفعت المبدعات في مختلف لغات العالم إلى تغيير نمط الكتابة بعد أن أصبحت المرأة أصلب عوداً وأكثر جرأة على التعبير وتجسيد لحظات المتعة وتحليل “الفعل” برؤية تأملية تخلو من الإثارة الرخيصة. واكتشف صنع الله أن محررة الكتاب اختارت نصوصها وفق هذا المعنى لتقديم أكبر قدر من التنوع في تجارب الكتابة عن المرأة، وتعاملها مع جسدها في مراحل المراهقة، والاحباط، والخيانة، والغدر، والهوس الجنسي. كما اختارت المحررة كاتبات أمريكيات وآخريات أفريقيات لتعكس نمط الضغوط السياسية والاجتماعية التي تتعرض لها المرأة حتى في لحظات المتعة الخاصة جداً. فكل متغيرات العصر التي تحل بالرجل تنعكس على حالته المزاجية في أثناء اللقاء الجنسي، وكذلك المرأة تتسع عيناها بحجم الكون حين ترى الرجل عاريا من الداخل!.
1 أنت تكتب دعارة يا أستاذ!
شعرّ صنع الله إنه عثر على الكنز المفقود، ورأى أن تقديم هذا الكتاب للقارىء العربي يفتح أمامه عالماً آخر ليعرف أن المرأة ليست قطعة من اللحم الساخن أو البارد. وإنها قادرة على استيعاب كل ما يدور حولها في العالم، وأن الجنس بالنسبة لها لم يصبح مجرد احتياج بيولوجي شهواني لإشباع رغبتها؛ بقدر ما هو بحث عن دفء ومحبة تتآلف معها وتعيشها. وكان الكتاب واحداً من كتب قليلة حملها صنع الله معه إلى بيروت حيث نزل في ضيافة زميله بوكالة أنباء الشرق الأوسط المرحوم فتحى القشاوى الذي أحسن استقباله. إلا أن صنع الله بدأ يشعر بحاجته إلى المال حتى لا يكون عبئا على مضيفه، وتفاءل عندما عرف أن الشاعر الكبير أنسي الحاج يرأس تحرير مجلة “الحسناء”. يقول صنع الله إن الافتتاحيات التي كان أنسى الحاج يكتبها بأسلوب رشيق يتعمد إلهاب خيال المراهقات شجعه على اختيار مجلة الحسناء لنشر فصول من الكتاب. وبالفعل رحب الشاعر الكبير بالأمر، واختارعدداً من النصوص وبدأ “صنع الله” في ترجمتها لكن (أنسي الحاج) لم يلبث أن اعتذر عن النشر وقال لصنع الله :” انت تكتب لنا دعارة ..” وتوقف النشر ـ يقول صنع الله ـ لكنني لم أتخل عن مواصلة الترجمة وكأني في رحلة لدراسة وفهم سلوك المرأة”.
وبعد كل هذه السنوات عاد صنع الله إبراهيم وأكمل ترجمة نصوص الكتاب وقرر نشرها في كتاب عن دار الثقافة الجديدة ظهر منتصف التسعينات بعنوان “التجربة الأنثوية ـ مختارات من الأدب النسائي العالمي” واختفى الكتاب. ولم تعاد طباعته منذ ذلك الوقت لذا يُسقطه البعض من مؤلفات صنع الله إبراهيم رغم أهميته البالغة التي أشار إليها صاحب “اللجنة وذات وامريكانلى ونجمة أغسطس” في مقدمته الطويلة التي يعترف فيها بأنه تردد كثيراً قبل الإقدام على نشر هذا الكتاب الذي يتعرض لقضايا حساسة. فالشغل الشاغل للمثقفين العرب آنذاك ـ كما يقول صنع الله ـ كان مواجهة القوى الإمبريالية من ناحية، والتخلف والرجعية من ناحية أخرى. ما دفع بالكثير من القضايا إلى مرتبة ثانوية، ومنها قضايا بالغة الأهمية مثل تلك المتعلقة بوضع المرأة، حيث أنشغلنا جميعا بقوى الظلام والردة وتراجعنا أمام جحافلهم، ولم نجرؤ على مناقشة القضايا التي انتإهي منها العالم والتي تنقل البشر من درجات الشهوانية إلى مرحلة التفكير والتأمل.
2 نساء صنع الله
كتابات صنع الله إبراهيم تحتاج الوعي قبل القراءة، فهو لا يكتب حدوتة وإنما يسعى لتوثيق الواقع في خيوط فنية قد تبدو جافة وعسيرة لمن يتعرف على كتاباته للمرة الأولى. فالخلفيات السياسية والإجتماعية إهي التي تحرك الأحداث وترسم مصائر الأبطال. وفي أشهر رواياته كما في غيرها هناك فاسدون وقتلة ودراما بائسة لأبطال ينحدرون مثل حجر صغير من فوق جبل كبير يسكنه أباطرة المال والسياسة وأصحاب شركات توظيف الأموال حيث تجارة الأديان وتهجين المواطنين وتغيير سلوكياتهم ومصائرهم. لكنك في التجربة الأنثوية لن تحتاج إلى ذهن متيقظ، تحتاج فقط إلى التخلص من الشهوانية وتأمل الجسد في انفعلاته وغضبه ورضاه، فالكتاب يستعرض تجارب نسائية مكتوبة بشكل شخصي وتعبر عن مراحل مختلفة في حياة المرأة وتاريخها الجنسي. فهاإهي ترتبط برجل في الثالثة والثمانين وعندما يسألونها عن السبب تجيب بطلة رواية “الحب بالشخص الثالث والثمانين” لجويس ألبرت :”.. كنت في حاجة لبارني أحيانا تحتاج النساء الذهاب إلى الفراش مع رجل ليتمكنّ من الإنفصال قليلاً ونسيان رجل آخر..”!.
وهناك الأنثى التي لا تجد نفسها إلا في إقامة علاقة جنسية مع رجل! لا تجيد فعل شىء في الحياة سوى إيقاع الذكور في أنوثتها كما في “يوميات زوجة غير مخلصة” للإيرلندية “أدنا أوبريان”. فالبطلة تجهل نفسها ولا تعرف سوى قدرتها على ممارسة المتعة بعيداً عن العيون، تستمع باختلاس الوقت وبأن احداً لا يكشف سرها وهي تصطاد فريستها :”كان الحب دائما يوجه حياتي، أعرف أن هناك مغامرات ليس أبطالها من الرجال، وليست حسية، لكن لا شأن لى بها، ليست لي، أريد دائما أن أحب، فالقبر هو البديل، العقل بالتأكيد يتدخل ويحدثني عن الهدف من الحياة، وعن الأمومة والمسئولية، لابد وأن أعترف أن الكثير من الآباء والآمهات جادون وبالرغم من ذلك فإن الكثير من الأطفال تعساء!” .
وهكذا وبتلك المقولة غرقت في المتعة واستمتعت بالخيانة مع رجل آخر واستمرت في علاقتها معه حتى انقطع عنها فجأة. فحاولت الوصول إليه فلم تجد لديها معلومات عنه سوى موعد خروج ابنه من المدرسة حيث كان يخبرها بأنه ذاهب لانتظاره في الثالثة عصر كل يوم؛ لكنها لم تجده هناك، فتتأكد من أنه تركها بلا عودة. وبسبب فشلها حتى في هذا الفعل الذي تصفه بالقذارة، فتتوقف قليلاً لتتأمل ما حدث فتقول: ” جرحت نفسي على حافة علبة كمثرى الصفيح، وتركت الجرح يتعفن، وبذلك رفعت من شأن نفسث في عيون عائلتث وحقرت من نفسث في عينث ..كم أنا كئيبة”. فتبحث عن السعادة من جديد فتجدها في كوب شاي باللبن تتناوله في البلكونة مع صغيرها الذي يصبح عالمها الممتع الجديد :” تناولنا أنا وجيرمي الحلوى والشاي وضحكنا، لا أريد أن يكون الأمس مثل الغد، أريد أن أعيش من أجل اللحظة، من أجل التجربة الخاصة التي لا تتكرر، قد تكون ضحكا، حباً، ألما، لذة، أو أي شىء.. أريد أن أكون حرة “.
3 فتيات ليل صغيرات
المجتمعات بشكل عام لا تقبل بوجود الساقطات وتحتقرهن؛ لكن السقوط له معان كثيرة. رواية “أهلا بك ” للكاتبة الأمريكية هارييت سومز التي كتبتها 1966 تعكس تلك الفكرة من خلال فتاة ليل تعيش حياتها كما ينبغي لمحترفة مثلها. تتنقل بين الرجال وتخرج من علاقة لتدخل آخرى؛ لكنها تدخل تجربة “الإجهاض” بعد أن تكتشف أن الألم الذي تشكو منه ليس ارتباك في المعدة بل هو “جنين” في أحشائها! وتروي بالتفصيل تلك التجربة القاسية المؤلمة التي تدخلها مرة آخرى في خطأ ندمت عليه كثيرا. لكنها في المرة الثالثة التي حملت فيها، رفضت الإجهاض وضغوط المتسكعين في الشوارع ونظرات الأصدقاء وراحت تتأمل ما يحدث داخلها: “كيف يمكن لامرأة أن تصور لكم، أيها الرجال الأغبياء، متلبدي الحس، متابعة العنكبوت الدقيق وهو يبني من جديد نسيجه الذي حطمته الأمطار؟”. كانت تقصد هذا المعنى بالحرف، لذا قررت الاحتفاظ بذلك الكائن الذي أصبح جزءً منها منذ استقبلته في أحشائها برضا تام وبعد علاقة عاطفية أنكرها طرفها الثاني وتملص منها. ترفض كل الضغوط للتخلص منه وتتخذه صديقها ورفيق رحلتها الجديدة وتحكى له عما جرى :” في الليلة التي أخبرت جيمى بأمرك، قال :”ليس مني”! وتصايحنا واشتبكنا وصرختُ. وكنت أنت طوال ذلك الرعب تبني نفسك داخلي هادئا وادعا كسمكة مشغولاً بنفسك ..أنت تبحر في قنواتي دمائي ملاحا صغيراً ونحن الآن، أنا وأنت، أنت وأنا أتعلم كيف أحب”.
حتى الصغيرات يمكن لهن اكتشاف عالم الرجال الحقيقي مهما كان مظهرهم وتكوينهم الجسماني. وفي رواية “أنا الغريبة الجميلة” تقدم الكاتبة الأمريكية روزالين دريسكلر فتاة تذهب إلى المخيم وهي تحلم بعائلة ثرية تتبناها وتتخلص من هذه الحياة. وهناك تلتقى برجل ضخم الجثة يعيش الحياة كما يهوى، ومشهور وسط الجميع بقواه الجسمانية، وجرأته في العلاقات النسائية. وبملاحظات صغيرة تكتشف الفتاة الصغيرة أن كل هذا الظاهر أكاذيب، وأنه ليس شريرا كما يظن الناس، وأنه ضعيف وتافه ووضيع في أحيان كثيرة، وأنه عاش الحياة بلا هدف : مات تشارلي! أهذا ما كبر من أجله ليكون جثة مراهقة ؟! لن يضطر إلى أن ييثبت أنه قوي الكشكيمة ..الموتى لا يرفعون أصبعا أو قدما ..”.
4 ساقطات توني موريسون
وهناك نساء قد يمارسن الجنس لاكتشاف حجم الغيرة في عيون المتلصصات، إهانة نظراتهن بإهانة أكاذيبهن عن العفة والشرف. وقد تجد إحداهن متعتها في تأمل جسد الرجل بعد اللقاء. تونى موريسون الحاصلة على نوبل قدمت في روايتها “سولا” نموذجاً لامرأة فائقة الجمال تعود إلى بلدتها بعد غياب، وربما تكون مفاجأة للبعض أن الروائى الكبير صنع الله إبراهيم كان أول كاتب عربى يترجم مقاطع من هذه الرواية قبل حصول مؤلفتها على نوبل ـ وذلك ضمن كتاب التجربة.
وكانت (سولا) بطلة الرواية تعرف أنها منبوذة من الجيران، وأن القبيحات والعوانس يجدن متعة في مضغ سيرتها؛ وتعرف هي حجم علاقاتهن السرية. لذا لم تكن ” سولا “تهتم بقليل أو كثير بلغطهن، فقط تسحب رجلاً إلى سريرها ويمضي بعدها: “وإذ ينفصل عنها جسد رفيقها تتطلع إليه في عجب محاولة أن تتذكر اسمه بينما ينظر إليها من عل مبتسما في إدراك حنون لحالة المتعة التي يعتقد أنه أوصلها إليها! وتنتظر هي بنفاد صبر أن يتحول عنها ..” كانت تذهب للمتعة كلما تيسر لها ذلك حيث يمكنها البكاء فهو المكان الوحيد الذي تتخلص فيه من التعاسة ولو لدقائق. الرجال قتلة وخونة ومجرد عضلات حيوانية شبقة؛ هكذا تراهم بطلة الرواية، مثلما ترى العالم كله كذبة كبرى. لكنها تقع في غرام جارها “جاكس”؛ لم تكن تهتم بشأنه لأنه لم يغرز عيونه في جسدها ولم يتفحصها كباقي الرجال. كان جاكس لطيفا في علاقته بوالدته وتعلم منها كيف يراعي مشاعر الآخريات؛ ولم تكن رقته مع النساء إلا عادة اكتسبها من أمه التي كانت تمارس السحر ولا تبإلى بأحد ولم تترك أمرها بيد شخص آخر، تماماً مثلها. وربما تعلق جاكس بها أيضاً لنفس السبب، متعتها الحقيقة كانت في حديثها معه. كانت لهما محاوراتهما لم يتعال عليها، أو يحط من شأنها. ولم يكتف بأسئلة صبيانية عن حياتها، كان يصغي أكثر مما يتكلم وكانت تجد نفسها أصلب عوداً وأكثر قدرة على الشعور بالوجود، لكن جاكس يختفي وتكتشف أن اسمه ” ألبرت” وأنه الرجل الوحيد الذي حرصت على معرفة اسمه.
………
من كتاب يا جميل يا اللى هنا – أشرف عبد الشافي- دار ريشة