ما أكثر “المظاليم” في تاريخ الثقافة المصرية، ولعل الشاعر الغنائي العبقري فتحي قورة، الذي عاش بين عامي 1919 و1977، في طليعة هؤلاء الذين لم يحظوا ببعض بعض ما يستحقونه من تقدير واهتمام، على الصعيدين المادي والمعنوي. أغلب الظن أن مصريا واحدا في السنوات السبعين الأخيرة لم يردد بعض أغانيه ليلوذ بها من تجهم الحياة الكئيبة، لكن الغالبية العظمى من هؤلاء لا يعرفون اسمه!.
برائعة من روائع الشاعر عظيم الموهبة، يتغنى الفيلسوف الشعبي محمود شكوكو:
“حبيتك حبا جما.. والروح بهواك مهتمة
وإزاي يا جميل تهجرني.. إلى أجل غير مسمى”
لا بأس من السخرية باللغة تعويضا وتنفيسا عن سخرية الحياة، ولا ضير من إلحاق الأذى بأشباه الرومانسيين الذين يبرعون في تصفيف الشعر ودهانه، وتسبيل العيون، ووضع مكياج ثقيل قوامه التنهدات الزاعقة الماسخة المصنوعة. ليس أفضل من الهجوم على هؤلاء الأدعياء بطريقة قورة:
“بقى يعني اكمني بحبك.. تقابلني وبوزك شبر
كل اللي جرالي في حبك.. وعد مكتوب بالحبر”
إسماعيل ياسين وشادية وصباح وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وليلى مراد ومحمد عبد المطلب ومحمد فوزي ومحمد العزبي ومحمود شكوكو؛ كل هؤلاء يتغنون بكلمات فتحي، الشاعر الذي يضحك ويبكي، يوجع ويواسي، ويرمق الجميع بنظرة تجمع بين الإشفاق والازدراء.
في كلماته “ظاهر” ينبغي تجاوزه، فهناك في الأعماق البعيدة من نصوصه الخلابة رؤية فلسفية كامنة، صادقة صادمة، مغايرة للشائع المألوف، ساخرة لا تبالي بالثوابت البالية الآسنة. من يقنعون بالظاهر السطحي وحده يتوهمون أنه شاعر ساخر مرح خفيف الظل، وعلى هؤلاء أن يستمعوا إلى شادية وهي تغني “ليالي العمر معدودة”. عندئذ يدركون أن الفقير تعيس الحظ مسلح بالوعي مسكون بالمرارة، كأنه يكتب عن نفسه عندما يقول:
“ليالي العمر معدودة.. وليه تبكي على الدنيا
وناس في الدنيا موعودة.. نصيبها يروح لناس تانية”
الموسيقى في كلماته ساطعة متوهجة، كأنها لفرط العذوبة لا تحتاج إلى لحن، وفي سخريته اللاذعة من التراث الغنائي ما يبرهن على أنه صاحب رؤية تضيق بالمناخ الضاغط الذي لا يستطيع أن يفلت من براثنه، لكنه يتحايل بالمتاح من أدوات ليصفع أقفية المتبلدين الأغبياء. أغنيته السينمائية البديعة “يا سيدي أمرك”، هي في جوهرها تهكم على التراث الذي يستوعبه الشاعر الكبير ولا يقنع به. انتقال مروع في سطر واحد من “بالذي أسكر من عرف اللمى”، ويالها من لغة رصينة تليق بكتب البلاغة الردئية، إلى “كان في حاله وجتله بلوى م السما”، ومثل هذا التحول الكاريكاتوري المباغت ينهض دليلا على امتلاكه للغة ورفضه الصارم العنيد أن تمتلكه.
السخرية سلاحه الوحيد لمواجهة الخلل المهيمن على الساحة، ولأنه لا يرتدي الملابس الأنيقة، ولا تفوح منه رائحة العطور الفرنسية، ولا يضفي على نفسه هالة من الخطورة، كان منطقيا أن تشتد علة عينيه حتى يفقد البصر وهو في منتصف الحلقة الخامسة من عمره، ولا تنتبه الدولة “راعية الفن والفنانين” إلا بعد فوات الأوان.
من كلمات قورة يغني محمد عبد المطلب رائعته “ودع هواك وانساه وانساني”، فهل يكتب هكذا إلا أولو العزم من العشاق والفلاسفة وأفذاذ الشعراء؟، وهل يدرك عمق ومرارة أمثال هؤلاء إلا من يصيبهم داء الحكمة ويستقرون على شاطىء اليأس والرضا؟.
“مال القمر ماله”، “تعب الهوى قلبي”، “قلبي ومفتاحه”، “علشان ماليش غيرك”، “يا سلام على حبي وحبك”، حبينا بعضنا”، الأقصر بلدنا”، “بكره وبعده”، “وحياة قلبي وأفراحه”، “يا حلاوتك يا جمالك”؛ بعض من روائعه التي لا تُنسى، لكن: من يعرف فتحي قورة”؟.