استعنا ع الشقا بالله
عندما تكون مرنا، ومطيعا، وهادئا، وتتحلى بالصبر، فسوف يظن الغافلون أنك “صيدة” ويبدؤون في التشكيل عليك، ويتعاملون معك بمنطق” هيا بنا نلعب” وهم لا يعلمون أنك تستمع باللعبة، وتصر على أن تمضي لنهايتها وتجيب آخرها وآخرهم.
كانت تجربتي مع رئاسة تحرير ديوان العامية بهيئة الكتاب، فرصة عظيمة للتدريب على الصبر وقوة التحمل، قلت انتهزها لأثبت لنفسي، ولغيري، أنني لست صداميا، ولا عصبيا، ولا سريع الغضب، ولا قليل الأدب، كما كنت أظن، ويظن غيري. طلعنا مؤدبين جدا على عكس المتوقع.. فينك يا أمي تشوفي ابنك وهو مؤدب وبيسمع الكلام.. يا ما غنيتي لي” يمشي ورانا واحنا ماشيين قدام..وزعلنا منه اكمنه ما بيسمعش الكلام”.. آديني سمعته وأدي نتيجة السمع.. عشان تعرفي إني كنت صح من صغري.
عندما أسترجع الأحداث أقول لنفسي: والله وعقلت يا واد، وكنت أظنك لسعت، ولا أمل في إصلاحك أبدا.. السن برضو ليه أحكام.
ولأنني أحب الكوميديا، حتى لو كانت سوداء، فقد كنت مستمتعا على الآخر، وأدركت من فصولها الحداشر، كم ذا بهيئة الكتاب من المضحكات، مع الاعتذار لأستاذ متنبي، غفر الله له ولكم، ولمسئولي هيئات الكتاب، ودفن الموتى، والنقل، والصرف الصحي، والطرق والكباري، أجمعين.
بدأت فصول الملهاة بطلب غريب، وسريالي، سبع حبات وليس حبتين فقط، اخترت ديوانا للشاعر أشرف عتريس، وأرسلت نسخة وورد إلى الهيئة، وتقريرا بصلاحية الديوان، الذي كان خاليا من المحرمات التسعة: الدين والجنس والسياسة وكرة القدم، بعد أن سيطرت على صديقي الشاعر الكبير مسعود شومان ثلاثة أيام بلياليها، لا يغادر دارهم في شبين القناطر، يهز جزع النخل فيساقط عليه رطبا جنيا، حتي أصيب بالسكر من النوع الأول، في معجزة طبية لا تحدث إلا في شبين القناطر، ونوى، والعمار بتاعة المشمش، وبلقس، والجعافرة بلد الحاج شداد بتاع الحشيش، وذلك ليراجع الديوان ويضبط تدوينه، باعتباره حامي حمى التدوين في بر مصر وشمال أفريقيا، لكن المسئولين في الهيئة قالوا: إيه ده يا بني، إحنا أكبر دار نشر في الوطن العربي آه، بس إللي أنت باعته ده ما يمشيش عندنا.
اعتقدت أنني أرسلت نسخة بالهيروغليفية، وقلت ” إحنا آسفين يا صلاح” نراجعه تاني، ربما يكون مسعود شومان قد أصيب بألزهايمر نتيجة مضاعفات السكر، قالوا: مش النظرية، الديوان لازم يوصل لنا جاهز على الطبع، يعني حضرتك تشوف مخرج فني، بمعرفتك كده، يخرجه، ومصمم أغلفه، بمعرفتك برضو، يصمم غلافه. ظننت أنني طلبت نمرة صيدلية الإسعاف وليس نمرة هيئة الكتاب، قالوا لأ النمرة صح بس أنت إللي غلط، قلت لا بأس إللي جرحها يداويها، ولكن أليس لديكم، وأنتم أكبر دار نشر عربية، وحدة تجهيزات تقوم بهذه المهمة؟ قالوا لدينا، بس إحنا بندلع، والسلاسل مسئولية رؤساء التحرير. ورغم أنني أعلم، علم اليقين، أن زملائي رؤساء تحرير السلاسل الأخرى لا يفعلون ذلك، فقد قلت لنفسي اعمل عبيط ونفذ التعليمات.
ظللت أسبوعا اقنع صديقي الفنان الكبير، الحائز على جائزة أفضل مخرج فني من نقابة الصحفيين، إسلام الشيخ، بتصميم الغلاف، وقلت له، وأنا في غاية الكسوف، معلش هي مكافأة تصميم الغلاف 250 جنيها، أعلم أنه أمر لا يليق بك وبمكانتك، وعندها قال أنا إللي ح اصمم الغلاف يا منعم، مشترطا أن يكون ذلك تطوعيا من أجل خاطري.
قلت أحمدك يا رب لقينا حد محترم يرأف بحالنا، فاضل بقى المخرج الفني، استغثت بصديقي محمد مصطفى، وحدث معه ما حدث مع إسلام، قال من غير أي حاجة يا ريس، الناس لبعضيها وإحنا لازم نقف جنبك، كلنا فداء شعر العامية والفصحى والقصة القصيرة وميدان العتبة، قلت يا بركة دعا الوالدين.
تصور حضرتك مدى صبري واحتمالي وقلة حيلتي وضعفي وهواني، أعرف أنك ستقول وليه تعمل في نفسك كده؟ أكيد أنت مش أنت، وأقول لك: لأ والله أنا هو أنا وأنت بتتغير. أردت أن أنجز المهمة بأي تمن، وحتى لا يتهمني أحد بالفشل، ثم إنني كنت تلقيت أكثر من مئة ديوان تقدم بها أصحابها إلى السلسلة، فأسقط في يدي، ورأيت أن تراجعي أو اعتراضي على أي أمر تصدره الهيئة، أو يصدره أي عابر سبيل، فيه خذلان لهم، كما أن مصر اديتنا كتير فلازم نديها إحنا، كمان وكمان.
تم تجهيز الديوان على أحسن ما يكون، بفضل المتطوعين الثلاثة، الذين عملوا معي مدفوعين بالمحبة وحدها.
أرسلت الديوان جاهزا على الطبع، ولعلمك كنت على استعداد أن أطبعه أيضا إذا أمروني بذلك، لكن يبدو أنهم أشفقوا على، وقرروا عدم المبالغة في طلباتهم، كفاية أنا أجهز، وهما يطبعوا. زي عريس وعروسة كده، أهلهم متفاهمين مع بعض، وعايزين يستروا عيالهم.
ظننت أنني أنجزت المهمة على أكمل وجه، لكني اكتشفت أنني واهم، أو كنت قاعد في الجعافرة عند الحاج شداد، بتاع الحشيش إللي كلمتك عنه، فبعد أن أرسلت الديوان، ومعه تقرير الفحص وكافة شيء، بواسطة صديقي الشاعر محمد فرغلي، مدير التحرير، الذي لعب دور الإسفنجة وامتص الكثير من الصدمات حتى يخفف عني الأمر، أعادوه إلى مرة ثانية، قالوا غير الأبناط، غيرت الأبناط، أعادوه مرة ثالثة، خلي العناوين فنط كذا، حاضر من عيني، أعادوه مرة رابعة، سيب صفحة ستة فاضية، أوامر يا باشا، أعادوه مرة خامسة، عايزين الغلاف مقاس 14 في 20، حاضر، سعادتك بس تشاور، مع إنه ، أقسم بالله، كان 14 في 20، أعادوه مرة سادسة، حط لوجو الهيئة، حطيته، أعادوه مرة سابعة، اكتب رقم الديوان، كتبته، أعادوه مرة ثامنة، خلي العناوين في النص شويه، تمام في النص بالظبط أهي، أعادوه مرة تاسعة الدكتور بيقول في خمس مقاطع يتشالوا، ليه إن شاء الله، هو الدكتور شاعر؟ دي أوامره، أصل الديوان كبير، وعادي ممكن تشيل منه شويه عشان نوفر في الورق وكده، عملت من بنها وقلت حاضر، الدكتور يأمر طبعا، شيل يا عم، أعادوه مرة عاشرة، لأ إحنا غلطنا في رقم مقطع مش هو ده إللي يتشال، شيل المقطع 53 وخلي 68، يا سلام أشيل أمه، أعادوه مرة حداشر، الأستاذ عادل رئيس النشر اكتشف إن في مقطع كمان عايز يتشال، شيله لو سمحت. الشاعر بيقول ” انزلي قلب التحرير الفاضي تلقيني متجمد ..ماسك وردة علشانك.. لوحدي عامل ثورة” طب يا جماعة عادي دي مجرد وردة ولونها غير محدد أصلا، يعني لو قال وردة حمرا مثلا يبقي راجل شيوعي أو دموي أو يقصد شيء مش كويس، هي في الأول والآخر وردة لا طلعت ولا نزلت، لأ لازم يتشال المقطع حسب أوامر الأستاذ عادل رئيس النشر والناشرين والمنشورين والمناشر.
هكذا، وعلى مدى ستة أشهر لم يكن لي شغلة ولا مشغلة إلا شيل ده، حط ده، رجع ده، وأنا أنفذ التعليمات صاغرا ولا أفتح فمي بكلمة واحدة.
ستقول إنني مخطئ أن تحملت كل هذه التماحيك الواضحة جدا، وأقول لك لا والله، كنت أريد أن أبطل حججهم تماما، فضلا عن أنني وافقت على حذف خمسة مقاطع من الديوان لأن الديوان به 200 مقطع، وهي مقاطع غير متصلة، يعني عادي ممكن تشيل خمسة، عشرة، عشرين، لكن لا تتدخل في الموجود، بمعنى لا تغير كلمة أو حرفا واحدا كتبه الشاعر.
مع الإصرار على شيل المقطع، وبعد أن كان البعير، إللي هو أنا، قد هلك تماما، قلت وقف يا ريس حنتيرة، واضطريت ارجع لعادتي وأخرج لهم بالفانلة والأندروير، زي ماكنت بعمل أيام شبرا. وقلت: خراب ياشارع التروماي..كل المحلات تقفل، لكنها قفلت على أصابع هؤلاء المسئولين، وعملت لهم واوا، وعنها ورحت مستقيل، بلا رجعة.
هذه هي حكايتي مع الزمان.. ما رأيكم دام فضلكم، هل هناك أمل، أم إن أمل راحت في حرب أطاليا؟
أستأذنكم أروح ألبس هدومي واستر نفسي!
اقرأ أيضًا:
مصطفى بكرى .. فارس الأحزان الكبرى!