وأنت حين ترى صورة ميرفانا ماهر لن تتخيل أن هذه القطعة من الجمال تفهم كل المسائل المعقدة فى عالم شبكات المال والتجارة والبيزنس!، فتاة صغيرة تمتلك القدرة على تحليل المعلومة وربطها بالقرارات الحكومية وعلاقة كل هذه التربيطات بكواليس رجال المال وحكاياتهم المثيرة،فإن كنت تستيقظ فى الصباح لتجد قرارات حكومية بزيادة الأسعار أو السلع الأساسية،فالكاتبة والباحثة ميرفانا ماهر التى تشبه قطعة السكر تقول لك كيف تمت الزيادة،وهل تعارضت الزيادة مع مصالح رجال الأعمال أم تم التراضى بين جميع الأطراف على إقرار الزيادات؟!
من هنا قسمت كتابها(شبكات المال) إلى جزأين يتناول الئاول منهما ظاهرة تعارض المصالح في السلطة التنفيذية أي الحكومة بهيئاتها وقطاعاتها المختلفة،والجزء الثاني يتطرق لتأثير تعارض المصالح في السلطة التشريعية أي البرلمان، الأمر الذى أدى إلى إصدار قوانين ، تحقق مصالح اقتصادية خاصة لجماعات بعينها ، وفي النهاية علينا أن نترك الأيام لتجيب على تساؤلنا ؛ هل تتكرر التجربة في مجلس الشيوخ؟!
تعارض المصالح ومدى تاثيرها على صانع القرار هى الفكرة الأساسية التى يدور حولها هذا الكتاب،فهناك دوائر تستشري فيها ظاهرة تعارض المصالح ،والتى يعتبر تعريفها بحد ذاته إشكالية، فهو يتوافق ويتقاطع مع مفاهيم أخرى مختلفة ، أما عن تحديد صوره وحالاته، ووضع يدك عليها، فحدث ولا حرج ،وأبسط تعريف للظاهرة هو الوضع الذى تتأثر فيه موضوعية واستقلالية صانع القرار، سواء موظف عام أو مسئول في القطاع الخاص ، بمصلحة شخصية – مادية أو معنوية – تنحرف فيه المصلحة العامة ، لصالح الخاصة، وتختلف فكرة تعارض المصالح ، عن ممارسات أخرى تخص الفساد الإداري والوظيفي مثل الرشوة واستغلال النفوذ والواسطة ، فهي رغم خطورتها إلا أنها ليست فساداً بحد ذاتها ، وإنما وضع يمنح مميزات وتسهيلات لأشخاص ، لكن بعض القانونيين ينظرون إليها على أنها جريمة ، حيث تتم عن قصد، وتتكون من علم وإرادة ، وفيها يتم التضحية بواجب الولاء والانتماء للمؤسسة .
وفي مصر ـكما تقول ميرفانا ـ عرفنا ظاهرة تعارض المصالح قبيل ثورة يناير بسنوات ، لكن أطلق عليها مجازاً اصطلاح “زواج السلطة بالمال ” ، والذى شغل بال السياسيين ، واهتمام القانونيين حينها ، مع صعود نجم رجل الأعمال أحمد عز ، وتوليه منصب أمين لجنة السياسات وأمين تنظيم الحزب الوطني
وتحول البرلمان،وهو الممثل للسلطة التشريعية إلى مكان للدفاع عن مصالح النائب الشخصية والمادية، وتفصيل القوانين ، وخلقت بيئة حاضنة للفساد في الاقتصاد ، سواء في التعاقدات أو المشروعات.
وبعد الثورة كثر الحديث عن تعارض المصالح ، مع التأثيرات الخطيرة للعلاقة الوثيقة بين النظام الحاكم ورجال الأعمال ، والتي نتج عنها كشف عديد من قضايا الفساد ، ينظر لها المحللون على أنها كانت أكبر مفجر للانتفاضات الشعبية ، قبل أكثر من عشر سنوات .
فالموظف العام أو المسئول في القطاع الخاص يعلم بمسئوليته ، والمزايا التى يمنحها له منصبه، ويقرر في نفس الوقت ، الاستفادة منها بشكل غير مشروع
من هذه الأفكار ، كان اهتمامى بتعارض المصالح في مصر، ودافعي لرصد ومتابعة الظاهرة وحالاتها التى انتشرت في جميع القطاعات ، لكن أخطرها في الأجهزة التنفيذية أو الحكومة بمعناها الدارج لدينا، حيث أدى ذلك إلى اختلال النظام العام ، وصدور قرارات وإجراءات غير مجانية ، استفاد منها الكثيرون .
وتستشهد ميرفانا بالأزمة المالية العالمية الأخيرة التي سعت فيها البنوك لتحقيق مصالحها الخاصة، بجشع لم يخدم رفاهية المجتمع،ولا مصالح المساهمين وحاملي السندات،ولا مصالح ملاك المساكن الذين فقدوا مساكنهم ، ولا مصالح العمال الذين فقدوا وظائفهم ، ولا مصالح المتقاعدين الذين انهارت صناديق معاشاتهم ، ولا مصالح دافعي الضرائب الذين تحملوا مليارات الدولارات لإنقاذ البنوك المتعثرة
ومن 2011 وعقب ثورة يناير بقليل ،وتحديداً في أبريل 2011 انطلقت “المبادرة المصرية للوقاية من الفساد”،من خلال مجموعة من النشطاء السياسيين، بهدف وضع برنامج قومي ، لإعداد مجموعة من القوانين والنظم ، التى تحد من الفساد .
والمفاجأة أن الفكرة حسب تصريحات الدكتور زياد بهاء الدين ، الأمين العام للمبادرة ، جاءت استجابة لطلب أحمد شفيق ، رئيس الوزراء الأسبق ، بتشكيل لجنة لوضع مشروعات قوانين تمنع الفساد ، وبالفعل شهد نادي جاردن سيتي إطلاقها .
ترأس المبادرة ، الدكتور حسام عيسى ، أستاذ القانون بجامعة القاهرة ، وضمت الدكتورة ليلى الخواجه، الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، إلى جانب الكتاب الصحفيين: مصباح قطب ، ووائل جمال ، وكانت تستهدف عدة قوانين ، منها قانون المنافسة ومنع الاحتكار، وقانون تمويل الأحزاب، والمرشحين للرئاسة أو لمجلس الشعب .
كان على رأس اهتماماتها ، والمتوقع أن يكون باكورة أعمالها ، مشروع قانون تعارض المصالح، حيث كان الدكتور زياد بهاء الدين ، قد أعد مسودة له منذ فترة ، لكن حكومة نظيف لم تهتم به، والمشروع كان يهدف إلى منع استغلال المناصب للمسئولين الحكوميين في القطاعات المختلفة للدولة، على أي نحو، ومراجعة نظم الإفصاح عن المصالح، خلال الوظيفة أو عند تركها .
لم يذهب هذا الجهد هباءً ـ كما تقول المؤلفة ـ فبعد فترة قليلة من تعيين الرئيس المصري السابق عدلي منصور، أصدر القانون رقم 106 لسنة 2013 ، والخاص بحظر تعارض مصالح المسئولين في الدولة في 13 نوفمبر 2013 ، في إشارة واضحة للرغبة في إنهاء الظاهرة ، التي كانت تفشت في جميع نواحي المجتمع ، وأدت إلى استفادة أطراف عن غيرها ، بحكم وظيفتهم والمعلومات المتوفرة لهم، سواء في الحكومة أو البرلمان أو البيزنس .
وأتت الرياح بما لا تشتهي السفن ، فبمجرد رحيل حكومة حازم الببلاوي ، التى صدر في عهدها القانون، انتهى الاهتمام به ، بالرغم من حالة الاحتفاء الكبير التى صاحبته ، وجعلت البعض يتصور، أنه أمل مصر، فلم تصدر اللوائح التنفيذية أو القرارات المنظمة له .
واستمر ذلك الوقع ، على الرغم من إعلان أكثر من حكومة ، بعد صدور القانون ، عن إعداد اللائحة التنفيذية له ، من خلال مركز الحوكمة ، بوزارة التخطيط والإصلاح الإداري .
وتقول المؤلفة إنه لم يصدر حتى الآن قرار بتشكيل اللجنة التى نصت عليها المادة الرابعة من القانون، باسم لجنة الوقاية من الفساد ، ويعهد إليها تطبيق أحكامه،رغم مرور ما يقرب من عشر سنوات على صدوره، وهو ما يرجعه بعض المحللين،إلى غياب الإرادة السياسية في التعامل مع الظاهرة ، فإصدار القانون كان عملية شكلية فقط.
وأصبح تطبيق القانون في مصر عبارة عن إجرائين؛ الأول هو انتظار المسئول العام مكرهاً، فترة الثلاثة أشهر، حتى ينتقل العمل بالقطاع الخاص،والثاني إذا كان قادماً من القطاع الخاص ، لينضم للحكومة ، فيقوم بإعلان استقالته من وظيفته السابقة ،وترك إدارة شركاته وأمواله لأقاربه. واكتفت الحكومة بإصدار قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 ، والذى أقر نظاماً جديداً للتعيينات ، يحقق الشفافية من خلال إعلان مركزي ومسابقة يعلن عنها، ومنع أيضا عمل الموظف تحت الإشراف المباشر من أقاربه من الدرجة الأولى ، في نفس الوحدة .
وتتبع ميرفانا القصة حتى عام 2019 مع إصدار المعهد القومي للإدارة ، وهو الذراع التدريبي لوزارة التخطيط، آخر نسخة من مدونة قواعد سلوك أخلاقيات الوظيفة العامة،والتى تحتوي على قواعد ، لمنع تضارب المصالح لموظفي الدولة.
وتعترف الحكومة نفسها في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لعام 2019 – 2022 ، بعدم تفعيل قانون تعارض المصالح ، وتضعه ضمن الإجراءات التنفيذية للهدف الرابع من الاستراتيجية، والخاص بتطوير البنية التشريعية الداعمة لمكافحة الفساد، حيث يتم ذلك إما من خلال إصدار اللائحة التنفيذية للقانون أو إلغاؤه ودمج محتواه بقانون آخر .
ويؤكد الهدف الاستراتيجي الثاني في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لعام 2023 – 2030 على أهمية وجود بيئة تشريعية وقضائية داعمة لمكافحة الفساد من خلال تحديث قانون حظر تعارض المصالح ، وذلك من خلال إعداد مسودة القانون وإصدار قانون جديد له .
وفي يناير 2020 ، أصدرت الدائرة الأولى بهيئة مفوضي الدولة بمحكمة القضاء الإداري، تقريراً قضائيا في الدعوى رقم 27181 لسنة 70 قضائية المقامة من المحامي محمد حامد سالم ،أوصت فيه بإصدار حكم ملزم بتشكيل لجنة الوقاية من الفساد ، وتحديد اختصاصاتها .
وذلك بهدف وضع آلية لمنع أية سبل لقيام حالة من حالات الفساد ، خاصة بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو، ووصف التقرير قانون تعارض المصالح بالقانون الموقوف بشكل شبه كامل والمعطل تعطيلاً كلياً على وجود تلك اللجنة التي يفترض أن تتولى مسئولية استلام وحفظ صور من إقرارات الذمة المالية للمسئولين الحكوميين المعينين وتحديثها سنوياً ، وغيرها من المسئوليات .
وعلى الرغم من أن القانون وحده ، ليس ضماناً كافياً لتجنب تعارض المصالح ، فإن وجود نصوصه الواضحة وتعريفه للظاهرة ، وإلزامه للموظف العام بالإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالمهمة التى يقوم بها، وفرض عقوبات واضحة في حالة حدوث خلل، يمثل خطوة مهمة على طريق مكافحتها، ويعتبر أداة في أيدي المجتمع المدني ، لإثارة قضايا قانونية ومجتمعية ضدها.
هذا الوضع ـ كما تقول المؤلفة ـ جعل القانون،معطلاً في حقيقة الأمر ، وفي سبات عميق ،واصبحت مخالفته هي الأصل، واحترامه هو الاستثناء، وضاعت الحدود الفاصلة بين المال العام والخاص ، ما أدى إلى حدوث خلط متعمد بين المصلحة العامة والخاصة ، وغابت الضوابط .
كان لانتشار الظاهرة آثار لها تكلفة اقتصادية واجتماعية باهظة ، كالتهرب الضريبي ،وارتفاع تكلفة الخدمات ، وغيرها ، وهي ممارسات ليست فردية خاصة ، وإنما تتحرك من خلال أطر شبكية منظمة، وتكتسب نوعاً من المؤسسية
وتسببت بعض النماذج الفجة في إحساس المواطن بالغربة ، وفقدان شعوره بالمواطنة والانتماء والثقة في الأفراد والمؤسسات ، وهجرة العقول والكفاءات ، للبحث عن فرص عمل في الخارج ، وأخيراً تركز ثروات الدولة في أيدي فئة محددة ، وهو ما يؤدي إلى زيادة الفقر، وهروب الاستثمارات.
ورغم كراهيتى المطلقة للأرقام ولغة القوانين إلا أن هذه الكاتبة الصغيرة جعلتنى أقرأ كتابها وأحاول توصيل فكرته التى اعتمدت فيه على عشرات المصادروالمراجع والتقاريرالدولية لتقدم روشتة ممكنة التطبيق للقضاء على الفساد بشرط وجود شفافية تسمح باستبعاد أصحاب المصالح ،وقد استحقت ميرفانا ماهر جائزة الدولة التشجيعة عن هذا الكتاب الذى صدر عن دار ريشة بمغامرة من الناشر حسين عثمان الذى يتخصص فى نشر المذكرات والسير الذاتية،لكن حسين يمتلك صفة مهمة وهى القراءة والحرص على تقديم رسالة من خلال ريشة،فكان اختياره موفقا فى هذا الكتاب الذى حصل على جائزة هى الأرفع فى مصر.