فى هذا المساء أعلنت خمارة القط الأسود عن سهرة خاصة مع مملكة وملوك الحشاشين ، وتم استدعائى لأحكى للسكارى عن عالم المساطيل، ولم أكن أعرف أن الاستعلاء والغطرسة تتحكم فى أعصاب الخمورجية إلى هذا الحد الذى جعل الخمارة تعلن الثورة والاعتراض بقيادة شخص يسمى (سيد سبرتو) على دخول المساطيل !.
ودخلت الخمارة تائه وشعرت بأننى قصير القامة جدا أمام كل هؤلاء الجالسين على الترابيزات والواقفين على البار يحتسون كؤؤسا سريعة ويضحكون، جلست بعيداً ولكن عيونهم لاحقتنى من كل صوب وسألنى البارمان : حضرتك مستنى حد؟أو جاى لحد ؟!
ـ انا بتاع مملكة الحشاشين يا افندم
وبرغم سعادة البعض بوجودى لدرجة أن أحدهم رفع الكأس وأشار إلىّ مبتسما ،إلا أن الخمورجية الأكبر سنا اعترضوا على وجود هذا الشىء المدنس ـ الذى هو أنا ـ وسط مملكة الخمارة ،ثم إن المملكة مش هتلم بتوع الصنف !،وضحك الجميع بصوت مرتفع وتداخلت الأصوات وعج وضج المكان حتى انطلق صوت قوى من الخلف
ما تتلم يا واد انت وهو
كان صوت المعلم جلال منجة ، أكبر وأقدم زبائن الخمارة، ويحظى بمحبة وتقدير من الجميع بما فيهم سيد سبرتو!.،وفى لحظات التزم الجميع الصمت وتحدث المعلم منجة بصوت رنان وقوى يشبه صوت الفنان يحيى شاهين:
الأستاذ مش بتاع حشيش . مش ديللر يعنى ولا حتى صبى كار.. ده راجل قارى ومتعلم وجاى يقول لنا كلمتين عن الجماعة المساطيل .. فيها حاجة دى ؟.
واحترمونى بصراحة حتى وإن كان بعضهم بلع لسانه اكراما للمعلم منجة ، الذى طلب أطباقا من الكبد والقوانص والخيار والفول المدمس والبيض المسلوق كمزة لكل السهرانين على حسابه الخاص .
أشهر أصحاب غرز الحشيش فى مصر المحروسة
الغرزة كلمة ساحرة بحروفها القصيرة السريعة التى تحمل من المكر والشيطنة الكثير، وعندما تقولها تكاد ترى عالم الحشيش والدخان والضوء الخافت يقفز إلى رأسك،لكنك لن تصل إلى واحدة منها إلا إذا كنت من ” المشاءين العظام ” بكسر العين ، وهؤلاء هم خبراء يعرفون خبايا الشوارع وأسرارها الصغيرة،وأشهر الغرز هى غرزة المعلم الإمبابى،وغرزة حكيم،وغرزة المعلم جلال، وغرزة المعلم على منجة) وكانت جميعها فى حى معروف بوسط القاهرة،ورغم انها معروسة مع عشرات الغرز خلف شارع سليمان الغارق فى الضوء النيونى المبهر ليل نهار ويخترقها من القلب شارع عبد الخالق ثروت ويخترقها بالعرض شارع شامبليون الذى ينتهى بدار القضاء العالى ونقابة الصحفيين ،إلا أن الوصول إليها ليس سهلا ،فقد كان عليك أن تعبر مجموعة من الحوارى الضيقة الملتوية التى يغلفها الليل ببوابات من الظلام الحديدى حتى تصل،،و الماشى ـ العادى ـ فى هذه الشوارع الثلاثة يشعر بأنه مازال فى قلب القاهرة المدينة العامرة فإذا كان من ” المشاءين ” الذين يبحثون عن ثقب فى عباءة ليل القاهرة فانه يضرب فى حوارى تتسع بالعافية لجسد واحد يمر فإن صادفه مُقبل فلابد أن يلتصق احدهما بالحائط كى يمر الآخر.
وانتشرت الغرز فى تلك المنطقة التى لم تكن سوى هديم يخلو من السكان فجاء سكان جدد استولوا علي الهديم نزعوا حديده وخشبه، أقاموا بها في المساحات الفارغة عششاً للسكن ومحال للبيع والشراء وغرزاً للتحشيش وورشاً للدوكو والمفاتيح والسمكرة.
وتألقت غرزة” الإمبابى ” فهى نموذج متكامل لما تحب أن تراه وتعرفه عن هذا العالم السحرى ،هى عبارة عن دكانة صغيرة كانت فى الأصل فراغا فاصلا بين جدارين اشبه بمنور مفتوح على الشارع يستفيد به بيتان متجاوران ومن الواضح أن الامبابى قد استولى على هذا المنور وصنع له سقفا وبابا خشبيا وبنكا صغيرا وملأه بالرفوف الخاوية وحولها إلى دكانة لبيع السجائر والدخان والمعسل والأسبرين والفحم المعبأ فى أكياس من النايلون ووضع بجواره ثلاجة من الثلاجات التى توزعها شركة الكوكاولا ثبتها فى الأرض وشغلها أياما ثم هجرها وصنع لبابها قفلا بجنزير واتخذها مخزنا لبعض الحاجيات
غرزة جلال
وتختلف غرزة الإمبابى عن غرزة المعلم جلال التى تبدو نظيفة ومهندمة ، فالمعلم جلال أشهر حرامى خزن في مصر، خارج من مؤبد، تركوه يفتح هذه الغرزة أفضل من فتح الكروش وكسر الخزائن، غرزته جميلة فعلاً، نظيفة، منضبطة، تأخذ شكل المقهى بما يتوافر لها من كراسى ومناضد بمفارش ملونة مصفوفة داخل العشة الكبيرة الواسعة كملعب الكرة وخارجها، لها نصبة مبنية بالرخام والقيشانى مزودة بأفخر الأكواب والبراريد والصواني النحاسية والطقاطيق والنرجيلات للمعسل فحسب فضلاً عن الجوزات للتحشيش الصرف، الصبيان الذين يخدمون الزبائن على شىء من النظافة وحسن الخلق ينطوون علي خشونة وعجرفة وغطرسة مستمدة من شعورهم بقوة معلمهم وسطوة نفوذه، يرفعون سعر الحجر إلي قرش صاغ بدلاً من قرش تعريفه يعنى ضعف سعره فى الغرز الأخرى، والشاى إلى قرشين وذلك فى زعمهم للمحافظة علي مستوى الزبائن وطرد الواغش.
غرزة المعلم على منجة
الدخول إلى الغرز كان يقتضى المرور على بازار المعلم “على منجة” ولا تغرك كلمة “بازار” فهو مجرد دكان صغير جداً، يبيع السجائر وأنواع الحلويات المغلفة والمياه الغازية، مجرد مظهر فحسب، أما التجارة الحقيقية لعلي منجة فإنها الحشيش والأفيون ، هوخريج سجون أيضاً، لكنه بالإضافة إلى ثقل ظله كان ” دحلاب” كما ورد فى الإعلان الشهير، رجل أريب لوعته السجون العديدة المتوالية،ومصه الأفيون،تعرفه الأحياء القاهرية البعيدة نظراً لحرصه الشديد علي مستوى جودة الصنف، يتخصص فى حشيشة من البريمو تعرف بالبودرة الزرقاء، لا يغيرها مطلقاً مما يؤكد أنه يتعامل مع مصدر واحد من أصحاب المزارع فى لبنان، وذلك أمر يحرص دائماً وأبداً على تأكيده لدى كل فتفوتة يبيعها لزبون حتى وإن كان الزبون عجولاً وغير معنى بمعرفة شىء من هذا.
عيب المعلم “على منجة”أنه يمص دم المشترى بصنعة لطافة وإن كانت ملحاحة سمجة مكشوفة، إلا أنه ناعم وسام كثعبان صحراوي، وجهه في لون الشيح، من فرط هزاله وهروب الدم من وجهه لا تكاد تراه، غليظ الشفتين، متآكل الأسنان، جاف الح
فأنت لابد ستشرب هذا الحشيش في واحدة من مجمع الغرز في حي معروف في رحاب ضريح الشيخ معروف نفسه، هى كلها غرز تحت عينى المعلم “على منجة” وفى متناول يده فى أى لحظة من ليل أو نهار، ما أسهل أن يطب عليك كالقضاء المستعجل فى لحظة لا تتوقعه فيها على الإطلاق، الدفع أو الفضيحة كلاهما صعب ومهين، لو أنك تعرضت للتهزىء في الغرزة مرة واحدة وبسبب الفلوس بوجه خاص فلن تفلح فى استرداد كرامتك بعدها مطلقاً مهما بالغت في الإنفاق عن سعة،المشكلة أن “على منجة” يبيعك الربع قرش بأربعين قرشاً فى عز الرخص!.
أن تكون من دروايش خيرى شلبى
ها أنت قد شاهدت جزءاً بسيطاً من عالم الحشيش فى الغرز ، وعرفت الزمن الذى كانت منتشرة فيه ، لكنك لن تصل إلى تفاصيلها وعالمها ودخانها إلا إذا كنت واحداً من دراويش الكاتب الكبير خيرى شلبى ، هو القائد والإمام والكومندا لهذه المنطقة من عالم الصعاليك والمهمشين والساقطين من حسابات العالم كله ، كان أبناء جيله من الروائيين قد اختاروا مشروعاتهم الإبداعية وتفوق جمال الغيطانى فى التراث، واختار إبراهيم أصلان تأمل ناس إمبابةوخرج منها بالشيخ حسنى إيقونة السينما المأخوذة من روايته مالك الحزين، وذهب سعيد الكفراوى إلى قريته يتأمل حيواناتها ودجاجها، واختار خيرى شلبى (المشى ) فى مناكبها،فكانت الشوارع والحوارى تليق بمسيرة خيرى شلبى كروائى كبير جاء ماشياً من قرية شميس عمير إلى دمنهور والإسكندرية ثم القاهرة ، وعمل بائعا سريحاً يحمل على صدره الدبابيس والمشابك وزهرة الغسيل ،وهو صاحب اختراع ” المشاءين” أولئك الذين جعلهم أبطالاً لأعماله يتجولون معه فى الحوارى ويصعدون جبل المقطم عند أولياء الله الصالحين ويعودون إلى شارع المعز ومنه إلى وسط القاهرة حيث الليل وأسراره وحكاياته التى تأخذ بطل رواية “موال البيات والنوم” فى مسيرة بحثه المضنى عن مكان للنوم إلى حارات ضيقة وسط الظلام يظل ماشياً بها، حتى يرى من بعيد بعض ألوان شاحبة فى أكثر من موضع ، إنها لمبات الجاز السهارية ذات الفتيل المدخن ينبعث ضوؤها العليل من فتحات متباعدة من طاقة فى جدار من باب صغير كباب خُن الدجاج ، فى أى فتحة من الفتحات يمكنك أن تميل برأسك وتطل دونما صفاقة أو تبجح بل يمكن أن تحنى وتدخل برأسك وتلقى السلام ،فإن لم تكن ف عليك الايحاء بأنك معروف لهم يكفى أن تذكر اسم واحدمن المترددين .
زبائن الغرزة
هكذا يُنبئك خيرى شلبى ، وهكذا تفعل الكتابة حين تجعل المستحيل ممكناً والخيال واقعاً تستطيع أن تراه وتتعرف على شخصياته وحواراتهم فى السياسة والدين والجنس أيضاً ،فلم يكن زبائن الغرز مجرد مهمشين وناس صيع ضاربهم الكيف،لكن كان بينهم صحفيين وفنانين وموظفين كبار في القطاع العام، ومساتير التجار، ودروايش كورة قدم وأبناء ضباط الثورة الموسرين الذين حلوا محل أبناء الباشاوات يدفعون البقشيشات بغزارة ،ووراء كل واحد منهم قصص وحكايات هى التى صنعت المجد الروائى الكبير لخيرى شلبى الذى بدأ الكتابة فى المقابر وابتعد تماما عن الصراعات والشلل الثقافية فأصبح سيداً للحكى ومؤرخاً للهامشيين والصعاليك وزعيما للمهمشين .
لا يتركك خيرى شلبى تدخل الغرزة فقط ، لكنه يصف لك ما سيحدث بعد أن أحنيت رأسك وألقيت السلام ودخلت ، فيطمئنك بأنك ستجد من يرحب بك ويفسح لك رقعة تتربع فيها ويزغد النيام يأمرهم لإفساح المكان أو الخروج إلى الخلاء حسب مظهرك من خير متوقع ، وما أن تجلس وتتربع حتى يجيئك بائع الحشيش والأفيون ليفرجك على ما معه من الصنف ، سيعد لك صاحب المكان حجارة الدخان المعسل أما النار فمشتعلة على الدوام، يسقيك عشرين حجراً ، خمسين ، مائة ، الحجر بقرشين تعريفة ،تخرج بعدها وأنت آخر تمام تخبط فى ظلام الحارة وتدوس فوق كلاب وقطط واكوام زبالة ،وبعد خطوات تصير فى شارع شامبليون ومنه إلى شارع سليمان أو الانتيكخانة أو عبد الخالق ثروت فترى الشوارع والأشياء بألوان وأشكال غير التى اعتدت أن تراها، كأنك قادم من زمن سحيق إلى مدينة تعج بالنيون والبشر ، ستكلفك هذه الدماغ “خمسون قرشاً إن كنت تشرب الشعبى الكبس،وجنيها كاملا إن كنت تشرب “الهبو البريمو ” .
الكيف فى الغرزة .. غير كدا كلام فاضى!
الحشاشون العتاة يفضلون التحشيش في غرزة صريحة، وليس فى مقهى ، وكلما كانت الغرزة أقرب إلي الكهف أو القبو أو الجحر أو الخن لعبت بمزاج الحشاشين وأثارت خيالهم، وكان الحشيش مزاج المصريين بعد النكسة ، يضرب المخدر أدمغتهم فيهربون من واقع مؤلم ، وكما تخبرنا روايات خيرى شلبى التى تقصت حكايات هذا العالم السرى ،فإن المزازنجية يفضلونه فى الغرزة ،فقد أجمع أعضاء شلة السهر فى رواية ” نسف الأدمغة ” على ذلك ،وعادت شلة المزاج فى رواية ” وكالة عطية ” لتؤكد الفكرة ، واتفقت شلة المشاءين فى ” صالح هيصة ” على أن الحشيش فى المقهى خسارة فيه الفلوس،فالمقهى يختصر من المزاج نصف المتعة يؤخر وصول الدماغ إلى مرحلة الفل، حيث الشرب بطىء جداً بحكم الزحام، الحجارة تجىء عشراً عشراً مهما كان عدد الشلة كبيراً، الواحد لا ينوبه من الطرحة إلا حجر واحد، فإلى أن تجىء العشرة التالية ويتم تغيير ماء الجوزة وطحن النار فى المصفاة تكون الأنفاس السابقة على ضآلتها قد تبخرت من الدماغ، فإذا صاح أحد في استعجال الصبى أو فى طلب جوزة إضافية ردوا عليه في برود بأن الصبر حلو، وأن الله مع الصابرين، وأن الدنيا ما طارت بعد ولن تطير، وأن كل تأخيرة وفيها خيرة، إلي آخر هذه الردود الجاهزة المثيرة للغيظ والغضب، ثم إن الراديو عندهم مفتوح بأعلى صوته لا سبيل لتخفيضه لأن الجميع من حقه أن يسمع، في الوقت نفسه من حق الجميع أن يتكلم، وفى ظل الراديو الصادح لا كلام إلا بأعلى صوت، مثل هذا الضجيج يتكفل وحده بتطيير أعمق الأنفاس، يصدع الدماغ مهما كانت التعميرة جيدة، ومن مصلحة المعلم جلال بالطبع ألا تشعر بالانسطال أبداً لكى تظل تشرب وتشرب إلي غير نهاية.
وقد حددت الشلة بكامل هيئة أعضائها أسباب الغرام بالغرزة ،فالحشاش المحترف تتضاعف متعته إن كان جالساً حيثما كان المكان للتحشيش فحسب، الغرز الصريحة كالبارات لا تشغل نفسها بأى شىء آخر: تتسلم الحشاش من لحظة جلوسه بأطقم من الحجارة وراء بعضها فى كثافة لا تضيع دقيقة واحدة.
وفى مصر يخجل الناس من كلمة حشيش ويتعاملون بحساسية أقل مع كلمة ” خمور ” ، وتلك كانت أزمة أبطال رواية ثرثرة فوق النيل حيث يتساءل الضيف الوافد فى حيرة :”الحشيش ممنوع والخمرة مش ممنوعة طب ليه ؟ دا بيسطل المخ ودى بتسطل المخ ، دا حرام ودى حرام ، دا بيضر بالصحة ودى بتضر بالصحة، الحشيش غالى والخمرة أغلى منه، اشمعنا القانون متحيز للخمرة ، القانون بيفوت للخمرة عشان بندفع عليها ضرايب، طب مايفوت للحشيش وندفع عليه ضرايب”
ورغم طرافة الحوار إلا أن ارتباط الحشيش بعالم الفن والغناء فى عشرينات القرن الماضى جعلت كثيرين يعتبرون الخلاعة والمجون عنوانا لكل أهل الفن،وخرجت طقوقة سيد درويش “الحشاشين ـ التحفجية ” التى كتبها بديع حيرى لترد على هذا المنطق :
أقولك الحق
يوم ما نلقى بلادنا طبّت فى أى زنقة
يحرم علينا شربك يا جوزه
روحى وإنتى طالقة مالكيشى عوزه
دى مصر عاوزه جماعة فايقين.. يا مراااحب
ويذكر الدكتور شوقى ضيف فى كتابه ” الفكاهة فى مصر ” أن شلة ” المضحكخانة ” التى اخترعها (حسن الآلاتى)كانت ظاهرة غريبة وأضافت إلى الأدب الساخر ،حيث كان هؤلاء يجتمعون فى حى الخليفة للتندر والتقليس(التأليس) على خلق الله سواء فى السياسة أو الفن، وأظن أن الحشيش كان عضوا بارزاً فى تلك المجموعة التى لم تأخذ حقها من البحث والدراسة، وكان حسن الآلاتى الذى فقد بصره فى طفولته قد بدأ حياته فى الأزهر وتحول إلى الغناء وأصدر كتابا بعنوان” ترويح النفوس ” وكان يتمتع بخفة ظل جعلته ذات يوم يجلس يستمع إلى شاب حسن الصوت فأعلن إعجابه بصوته فقال الشاب أنا اليوم أُغنى مثل الشيخ حسن الآلاتى ،فرد عليه : بس ناقصك العمى يا ابنى .
الغرزجى .. وزير دولة الكيف
الذين قرأوا ثرثرة فوق النيل أو شاهدو الفيلم المأخوذ عنها بسيناريو ممدوح الليثى وإخراج حسين كمال ،سيجدون فى شخصية ” أنيس ” نموذجا للغرزجى والمهام التى يقوم بها ،ولكن ليس كل من أجاد رص المعسل يصلح ليكون “غرزجى” فتلك مهنة تحتاج محترفين يمتلكون مهارات خاصة تبدأ من القدرة على الإمساك بالجوزة بيد ومصفاة النار بالأخرى، ويلف على الزبائن فى توقيتات مظبوطة ليضغط على الحجارة لإحكام الأنفاس، وكلما أجاد آداء المهام فى صمت ومن دون إزعاج كلما ارتفع البقشيش وكسب زبائن أكثر.
كتب نجيب محفوظ روايته (ثرثرة فوق النيل)عام 1966 قبل النكسة بعام،ورصد فيها حالة الضياع والتوهان التى يعيشها المواطن المصرى متجسداً فى شخصية” أنيس ” الموظف بوزارة الصحة نهاراً ووزير شئون الكيف في عوامة المساطيل ليلاً، وكان من الصعب ظهور الجوزة والأنفاس على الشاشة آنذاك، إلا أن النكسة وتوابعها أرغمت رجال عبد الناصر على البحث عن وسائل جديدة تساعد الشعب المكلوم فى بلواه ،وكانت فكرة ثلاثى أضواء المسرح جزءاً من خطة الترويح عن الحزانى، صحيح أن الأدب منذ الجيل الأول فى الرواية المصرية تناول الحشيش ووصف عالمه الكبير من غُرز ومزاج ومقاهٍ، ولكن ثرثرة فوق النيل كانت الفتح الأكبر لدخول هذا العالم الذى تحول من مجرد غرزة إلى عوامة ،والشخصيات مجموعة أوغاد يعيشون العدم لا يمتلكون أى أمل سوى كركرة الجوزة فى انهزامية واحباط،والشخصية الوحيدة الجادة هى الصحفية سمارة بهجت، فماذا يفعل الرقيب لتمرير الرواية إلى السينما ؟!، كان لابد أن تقفز الأحداث من 1966 إلى ما بعد النكسة وبداية حرب الاستنزاف، وكان لابد من نهاية تليق بأبطال المقاومة الشعبية الذين يثأرون للكرامة المجروحة فى عمليات فدائية شملت مدن القناة كلها، وتذهب سمارة بهجت مع أنيس إلى الجبهة ويعود بسحر المعارك وقد استيقظ ضميره فيصرخ ” الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا ، ياناس فوقوا..الحشيش اللى احنا فيه متشربهوش..فوقوا”، وتم عرض الفيلم عام 1971 ليكون بداية لظهور مكثف للجوزة ومستلزماتها بعد عام 1976 وبعد تخفيف الرقابة بقرار من وزير الإعلام والثقافة ونجح حسام الدين مصطفى فى استغلال الظرف التاريخى وقدم فيلم “حكمتك يارب ” لسهير المرشدى وسناء جميل وزكى قدرة الشهير بالفنان عادل أدهم الذى سيتألق فى أدوار الجوزة وستصبح جزءاً من شخصيته فى الراقصة والطبال مع نبيلة السيد وأحمد زكى ونبيلة عبيد بالطبع ، وبلغت الجوزة والكركرة ذروتها مع حسام الدين مصطفى أيضاً فأقدم على تجربة فيلم ” الباطنية ” ليظهر أول أفيش وعليه نادية الجندى تحتضن الجوزة وفقط !.
أنيس ..الشخصية التى جسدها الفنان عماد حمدى فى ثرثرة فوق النيل هو محور حديثنا هنا عن ” الغرزجى ” فقد كان أنيس يقوم بتلك المهة كهاو راقت له الشغلانة كمزاج بعد أن عرف جميع الموظفين أنه ” حشاش ” يحدق فى السقف ليل نهار ، وفى العوامة كان هو أسطى المزاج الذى يجيد آداء بعض أعمال الغرزجية ويكون فى غاية السعادة إن نجح فى إشعال نار الفحم كما يصفه محفوظ ” حمل أنيس المجمرة إلى عتبة الشرفة بعد أن زودها بقطع من الفحم تعرضت هناك لتيار هواء وراح ينتظر واتسعت المراكز المحترقة فى شتى القطع حتى استحال سواد الفحم حمرة متوهجة هشة ناعمة وإندلعت عشرات الاسنة الصغيرة فانتشرت ثم تلاقت مكونة موجة راقصة نقية شفافة مكللة الأطراف بزرقة خيالية ثم أزت فتطاير من جوفها سربا من عناقيد الشرر وصرخت أصوات نسائية فأعاد المجمرة إلى مكانها واعترف فيما بينه وبين نفسه بإعجابه غير المحدود بالنار ”
لكن أنيس ليس”غرزجى”فالغرزجى يحتاج إلى عدد من المساعدين يقوم أحدهم بتنظيف الحجارة والآخر بتعبئتها بالمعسل، وواحد لتغيير ماء الجوزات، وكان ” هيصة ” يتفوق على كل غرزجية مصر ليس فى احترافيته فقط ، وليس فى قدرته على القيام بكل هذه المهام لعدد كبير من الأفندية، ولكن لشخصيته الواثقة المثيرة التى تحولت إلى عمل روائى حمل اسمه ” صالح هيصة “والمؤلف هو عمنا خيرى شلبى بالطبع ، وصالح هو الغرزجى الذى يقربع السبرتو فجأة فيصنع ” الهيصة ” فى المكان كله ومن هنا اكتسب اسمه ، والحقيقة أن العمل الرئيسى لصالح هو تسليك آلاف من حجارة الشيشة يتلقاها يوميا برميلا كبيرا ملأنا لحافته بما لا يقل عن ثلاث آلاف حجرا حرقت على مدى يوم وليلتين تقريبا عليه أن ينظفها كحتا بالسكين ويسيخها بخرقة مبلولة ثم يحشر فى كل حجر حصوة ملائمة لفتحتها بالظضبط ورغم هذا العمل الهامشى فإن صالح هيصة أصبح هو غرزة ” حكيم ” التى تدور داخلها أحداث الرواية ، هو أسطورة المكان الذى عاش بعمله هذا وسط شلة مكونة من مئات الأدباء والصحفيين والإذاعيين والمهندسين وسيطر على عقولهم جميعا بما يمتلك من نبل وشهامة وتمرد وسعة أفق فى الحياة .
أنا أتوب عن حبك أنا ؟!
كنت أقصد بورسعيد يا روح أمك !
قالها أحمد فؤاد نجم لأحد الحاضرين فى جلسة خاصة عندما سأله بروح المثقف الفكيك : لمّا كتبت قصيدة “يا اسكندرية ” كنت تقصد إيه باسكندرية ؟! ” ، ولم يفكر الفاجومى فى الجواب وقال جملته الشهيرة التى يتناقلها عشاق وحمبى نجم ضمن مجموعة ضخمة من نوادر وقصص كتب عمرو خفاجى مقالا عنها،وعندما نقول أحمد فؤاد نجم وجلسات خاصة فإننا نقصد الحشيش بلا شك ، فلم يكن الفاجومى يخجل من هذاالأمر ،ولا يعتبره جريمة تستحق التبرؤ منها ، وعندما كان يفكر فى تأليف كتاب عن ميلاد قصائده وأغانيه كان مشغولاً جداً بالبحث فى ذاكرته لأن معظمها مولود فى جلسات خاصة وشامم ريحة الحشيش مع أول صرخة لامؤاخذة ،فماذا سيكتب وكيف ؟ ولم يستمر السؤال طويلاً فأصدر جزءً أول بعنوان ” حكايات القصائد ” عن دار نشر ” زينب ” وهو اسم ابنته ويبدو أن الدار توقفت بعد ذلك ، المهم أن نجم حكى فيه عن أول لقاء مع الشيخ إمام فى غنوة ” أنا أتوب عن حبك أنا ” وكان الحشيش حاضراً ،ففى إحدى السهرات فى بيت الشيخ إمام فى حوش آدم يقول نجم إنه حضر بصحبة سعد الموجى :”وبعد العشا بدأنا الذى منه وكان الصنف ليلتها بريمو والدماغ عالى وفجأة قال سعد الموجى كلنا شوق ولهفة لاحتضان مولود الجديد المشترك بين مولانا والاستاذ نجم “، وضرب نجم يده فى جيبه وأخرج غنوة تقول كلماتها :
ما بين دا قال ..ودا بيقول
محيرنى فى هواك على طول
تغيب عنى يا دوب ساعتين
تجينى بكلمة قالها عذول
ويتمد العتاب ليلتين
ف قلنا وقال
وفهم أنها لم تعجب الشيخ ، لأنه طلب منه كتابتها فى ورقة من جديد ليحتفظ بها ، فمزق نجم الغنوة وجلس يكتب ” البكرية ” أو أول عمل مع الشيخ إمام وهى الغنوة التى صمدت حتى اليوم بعد أن غناها المطرب الشاب محمد محسن
أنا أتوب عن حبك أنا
أنا ليا فى بعدك هنا !
وأظن أيضاً وبعض الظن إثم أن مصر كانت هى الميلاد الحقيقى لدولة الحشاشين التى أسسّ أركانها الحشاش الأعظم فى التاريخ ” حسن الصباح” أحد الشخصيات الاستثنائية فى الكوكب ،ذاك الرجل القصير المكير الذى نجح فى تجنيد جيش كامل بصباع حشيش ! وصنع دولة من القتلة والمجرمين والسفاحين بصدور النساء وإغراءات الجنس ، أخذهم إلى قلعة حصينة أقصى شمال إيران وجاء بالنساء والفاكهة ، وقال لهم هذه هى الجنة ولن ينالها إلا الشهيد ، والشهيد لن يصبح كذلك إلا إذا غرس الخنجر قى كبد أعداء الدين ، فأكلوا الفاكهة وتذوقوا النساء وسجدوا له وهم يرتدون السراويل متجهين إلى الجهاد وعائدين إلى النساء والحشيش شهداء أو أحياء ،وانطلقت عمليات الاغتيال السياسى فى كل ربوع العالم الإسلامى من بغداد حيث السلطان العثمانى إلى القاهرة حيث المستعلى .. وأهل السنة أيضاً !.
عاش الصباح هنا فى القاهرة وكان مقرباً من الخليفة الفاطمى ـ المستنصر ، وعندما توفى الخليفة وجاء إلى الحكم أخيه ” المستعلى ” قال الصباح إن مؤامرة تم تدبيرها لإبعاد ” نزار ” ابن المستنصر لتولية المستعلى واعتبرها خروجاً على أصول العقيدة الشيعية تستوجب منه إلرحيل وإعلان الحرب ضد الجميع فصنع دولة الحشاشين التى دخلت قاموس اللغات الأوربية وأصبحت مرادفة لكلمة (Assassin) أى القتلة المأجورون ، وعاشت قلعة ” ألموت ” أو عش النسر بالفارسية فى خيال الأدباء ،فسواء رأيت ” الصباح ” مجرماً أو سفاحاً فإن عبقريته فى تجنيد هؤلاء الحثالة من المنتمين لجنس البشر تستحق أن تكون عملاً روائياً شهيراً ، وهذا ما فعله فلاديمير بارتول مؤلف رواية ” قلعة ألموت ” التى صدرت عام 1938 وتمت ترجمتها إلى عدة لغات.