في وسط الدلتا وفي مدينة شبين الكوم ولد وعاش ودفن الجد الحاج محمد أبو الغار،الذى كان تاجرا للأقطان متوسط الحال تتحسن أحواله المادية أحيانا وتسوء أحيانا أخرى، وكان على قدر من التعليم الذى كان صعب المنال في ذلك الزمان، فقد ولد في منتصف العقد السابع من القرن التاسع عشر فكان مولده قبل الاحتلال البريطاني لمصر ببضع سنوات ، وقدر له أن يتعلم قدرا من الفرنسية يستطيع به أن ينمي تجارته حين كانت الفرنسية هي لغة المعاملات في تجارة القطن في ذلك الزمان .
وقد بنى جدى بيته على الشارع الرئيسي أمام محطة القطار،وكان من دورين أحدهما على الشارع ، وبالرغم من أن جدى لم يكن من الأغنياء أو أصحاب الأراضى إلا أنه كان محبوبا وله شعبية كبيرة بين أهل بلدته ، وكان بيته مكانا لعقد المصالحات وحل الخلافات بين كثير من أهل البلدة ، ولا أعتقد أنه كانت له طموحات سياسية أو اقتصادية وربما كان يفضل حياة التاجر البسيط .
ويمثل جدى الشخصية المصرية التقليدية في ذلك الزمان بمميزاتها وعيوبها، فقد كان مثل أبناء طبقته على قدر كبير من الاستقامة وحسن الخلق والمعاملة ، وكانت علاقته طيبة بالجيران والأصدقاء وبزملائه من التجار وزبائنه. وكانت ثقافته العامة هي موروث الثقافة المصرية الذى يتناقله الشعب جيلاً بعد جيل ، وكانت ثقافته محدودة بقراءة الأهرام يومياً وكان شراء هذه الجريدة يعتبر شيئا قليل الحدوث في الريف ، وبدخول الإذاعة أصبحت نشرة الأخبار مصدرا هاما من مصادر المعرفة له. وقد كان جدى شديد التدين والإيمان يؤدي فرائض الإسلام ويلتزم بتعاليمه ولم أسمعه أبدا يتحدث عن الدين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فكان الدين عنده تعاليم وإيمان ونظام خاص بينه وبين ربه ، وبالإضافة إلى الصلاة كان يستمع للقرآن كل مساء في الراديو . أما عن الثقافة العامة خارج صحيفة الأهرام فتتكون من الموروث الثقافي المنقول عبر الأجيال ، فلم أرى في منزله ومقتنياته كتابا واحدا باستثناء القرآن الكريم. ولكن يجب أن أعترف بأن قراءته للجريدة كانت شاملة فكان يقرأ الأهرام سطرا سطرا وكلمة كلمة ، وقد شاهدت بنفسي وشاركت الأحفاد في القراءة له بعد أن ضعف بصره ، وكان يحتفظ بالجريدة حتى يأخذها جار أو صديق له في اليوم التالى . وكانت ولازالت الجريدة الجيدة مصدرا هاما وأساسيا للثقافة العامة بالإضافة للناحية الإخبارية .
أما موقفه السياسي فكان مثل معظم المصريين في ذلك الوقت الذين يتمتعون بحس وطنى عال ولكنهم كانوا يحجمون عن المشاركة السياسية الفعالة إلا في فترات نادرة وفي ظروف تاريخية خاصة . وأعتقد أن جدى كان متعاطفا مع الحزب الوطنى القديم في بداية القرن ثم أصبح متعاطفا مع الوفد،وبعد الثورة كان قد قارب الثمانين ولم تعد له اهتمامات سياسية . ولا أعرف أن انضم إلى حزب،ولكنه كان يدلي بصوته للوفد في الانتخابات العامة ، ويحكي أن جدى قد ساعد بعض الفلاحين بالاختفاء في منزله هربا من الجنود الإنجليز بعد حادثة نشواى حين تدفق كثير من الفلاحين في اتجاه شبين الكوم،وكان منزله في أول الطريق الموصل لدنشواى وهي قرية قريبة من شبين الكوم ،وأذكر أن حديثا دار بعد خمسين عاما من هذه الحادثة حول تكدير جدتي لجدي على هذا العمل المفروض أنه وطنى ، وعاتبته على عدم تقديره لخطورة الموقف وتبعات هذه المساعدة وما قد يترتب عليها من مخاطر على أسرته ومستقبله ، وقد كان أيضا يفتح باب منزله أثناء المظاهرات الصاخبة في ثورة 19 ، والتى كانت تمر من الشارع الرئيسي أمام منزله ، حتى يحتمي بعض الشباب الفار من طلقات الرصاص أو هراوات الجنود الإنجليز ، ولكن لا يعني ذلك أنه شارك مشاركة فعلية في هذه المظاهرات .
وأعتقد أن القهر السياسي في خلال حكم المماليك ثم حكم أسرة محمد على وأخيرا الاحتلال الإنجليزي قد ألقى بظلاله على التكوين الفكري ومنهج الحياة للمصريين الذى عاشوا النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وعند بداية التحديث المصاحب للأحتكاك بالغرب بدأت المحاولات الأولى للفكاك من هذا القهر الذى سببه كلاً من الحاكم المحلي والمستعمر البريطاني في مصر .
وقد كانت هذه المحاولات مقصورة على القاهرة التى عاد إليها المبعوثون المصريون لفرنسا والتى توجد بها المدارس العليا ، وقد كانت هناك مدرستين للتحديث: أولهما متأثرة بالحضارة الغربية والثانية محاولة لإعادة تفسير وتطوير التفكير السلفي ، أما في الريف حيث عاش جدى فكانت القاهرة بعيدة عنهم ، ولم تصل إرهاصات التغيير إلا إلى كبار الملاك المتنورين نسبياً والذين كانت لهم بيوت بالقاهرة وعلاقات وثيقة مع الحركة السياسية والفكرية .
لم يكن جدى يعمل في هذه الفترة فقد كان قد تخطى الخامسة والسبعين، وكان يجلس في الشمس ويذهب للجامع ويتحدث إلى أحفاده ، وقد كان مقلا في الأكل، وعلمت أنه طوال عمره لم يدخن أو يشرب حتى الشاى أو القهوة ، وكان أيضا مقلا في الكلام يجيد الاستماع والإنصات ، وقلما يبدي رأيا أو تعليقا ، وكان نظره قد ضعف بشدة فأصبح يعتمد على أحد أحفاده في قراءة الأهرام له كل يوم .
عمتى سعاد .. ومعركة التعليم
ولقد كان جدى وجدتى بمقياس هذا العصر تقدميين للغاية ، فلقد ذهبت جميع عماتي في عشرينات القرن العشرين إلى المدرسة ، وتعلمن جميعا القراءة والكتابة بطريقة جيدة وخرجن من المدرسة فقط ليتزوجن ، وكان ذلك في سن مبكرة في حدود الخمسة عشر عاما ، وتزوجن جميعا في شبين الكوم باستثناء العمة الصغرى التى تزوجت في الصعيد . وبقيت عمة لي استمرت في التعليم الثانوي واضطرت أن تسافر لتسكن في مدرسة داخلية خارج المحافظة لاستكمال تعليمها الثانوى. وكان ذلك حدثا كبيرا في العائلة بل وفي المدينة بأكملها ، واختلفت الآراء هل يصح أن تسافر بنت الحاج محمد أبو الغار وحدها وتسكن في بلد بعيد لتكمل تعليمها الثانوى، وربما كانت عمتى سعاد من أوائل الفتيات اللاتى أتممن تعليمهن الثانوى من بنات المنوفية،ولقد كانت الضغوط على جدى وجدتى لمنعها من السفر قوية للغاية. ولكن في النهاية انتصر صوت العقل ،وانتصرت الأفكار التقدمية ، وأخذ الأب القرار الخطير والهام بسفر ابنته متحملا كل المسئولية . وقد كان، وسافرت العمة ونجحت في الدراسة الثانوية والتى كانت في هذه الآونة ست سنوات للفتيات وخمس سنوات للفتيان ، ويقال أن السنة الإضافية كانت لإعطاء الفتاة دروسا إضافية في الحياكة والطبيخ وفنون رعاية الأسرة ، ويقول البعض الآخر أن السبب الحقيقي هو عدم قدرة المرأة على الاستيعاب والتحصيل بنفس درجة قدرة الرجل مما يستدعى إضافة هذه السنة، ولا أدري متى ألغيت هذه السنة الإضافية، ربما كان ذلك في نهاية الأربعينات ، ولا أدري من هو وزير المعارف المستنير الذى قام بإلغائها، ومن الواضح أن تحجيم وضع المرأة والاعتقاد بعدم استجابتها للتعلم والقدرة على اتخاذ القرار له جذور عميقة في وجدان هذا الشعب رجالا ونساء، ويتبلور هذا الأمر في وجدان الحكام بصفة أكثر وضوحا ورسوخا ، وتمر الأيام وتنهي عمتى دراستها الثانوية بنجاح وتفوق وتبدأ المعركة الكبرى ، فهذه الفتاة ترغب في استكمال دراستها الجامعية في القاهرة المحروسة أم الدنيا ، والتى يختلط فيها الرجال بالنساء ، فما بالك بفتاة ريفية تذهب للعاصمة وحدها ربما لأول مرة!
وقد وقف والدى وهو الابن الأكبر في صف عمتي، وشرح أهمية التعليم . ولكن التعليم في الجامعة كان أكبر مما تصوره الأب ، فوافق أخيرا على دخولها في القاهرة كلية المعلمات العليا في القسم الداخلي للفتيات لمدة أربع سنوات ، وفي تلك الآونة كانت الأحوال المالية للأسرة تكفي حاجتها بالكاد ، فكان دخول هذه الفتاة للتعليم الجامعى يشكل عبئا جديدا على الأسرة والتى تحملته حتى أنهت العمة دراستها لتصبح من أوائل الخريجات من بنات المنوفية ، ولتصبح المسئولة عن التعليم في المنوفية فيما بعد . أما والدى فكان الولد الوحيد والابن الأكبر ، وقد إهتمت جدتى بتعليمه اهتماما كبيرا ، إذ كان محور حياتها وكيانها ،ويذكر والدى أنه كان يذاكر حتى دراسته الثانوية على ضوء لمبة الجاز ، المعروفة بنمرة خمسة، ضوؤها ضعيف ، وكانت أمه تجلس خلفه حتى انتهاء المذاكرة خشية أن ينام فجأة ويسقط الكتاب على اللمبة فيحدث حريق . مما كان يعتبر من الحوادث المتكررة آنذاك، فلم تكن الكهرباء قد وصلت بعد إلى عواصم المحافظات .
لوحة للفنان سمير رافع
الحلقة الثانية
المساعى المشكورة.. ورحلة السيد الوالد
وكان من حسن الطالع لمحافظة المنوفية أن تأسست فيها في أوائل القرن العشرين جمعية خيرية سميت باسم جمعية المساعى المشكورة ، وقد كرست هذه الجمعية جهودها في التعليم ، فأنشأت المدارس ومن ضمنها أول مدرسة ثانوية في المنوفية، وهي واحدة من أوائل المدارس الثانوية التى تأسست في القطر المصري كله .
عندما تقرأ عن الكم الهائل من الجمعيات الأهلية في أوروبا وأمريكا ، والتى تقوم بدور عظيم في تقديم الخدمات الأساسية لشعوبها ، لوجدنا أن هذا ليس تقليدا غربيا فقط ، بل كان تقليدا مصريا راسخا في أوائل هذا القرن ، فقد تكونت هذه الجمعية برؤوس أموال أغنياء المنوفية ، والتى ساهم الجميع في إنشائها بمبالغ متراوحة من التبرعات قد تكون قروشا قليلة في بعض الأحيان ، ولا أرى اليوم ولا أسمع عن مشروع خيري حقيقي يستمر نصف قرن من الزمان كما كان يحدث في الماضى. هل هناك فارق في الانتماء للوطن ، وحبه بين أغنياء الماضى وأغنياء الحاضر ؟! هل كانوا في الماضى ينظرون للمستقبل بأمل كبير في التقدم ، ثم تضاءل الأمل في المستقبل في أيامنا هذه؟! ، أم كانت الوطنية وحب الوطن عبادة كما كانوا يقولون، والآن تأثر الناس بما يسمى بالعولمة ، أو على الأقل تأثر بذلك كبار الأغنياء والذين لهم قدم هنا وقدم هناك يستعدون للرحيل وتغيير الوطن عند أي شعور بالخوف أو الخطر على أموالهم بشكل مباشر أو غير مباشر من أموال النفط وأموال المصريين العاملين في بلاد النفط؟ أم هم كأغنياء الخليج يستثمرون أموالهم في الغرب ويمتلكون بيوتا فيه ويتعلمون أيضا في معاهده ، ويأكلون ويشربون كما يأكل الشباب في الغرب، وعندما يرد التفكير في المرأة أو الحب أو الأدب أو الثقافة أو المساواة والعدل ، فهم غلاة المتشددين المتمسكين بالأفكار السلفية!.
ربما كان أغنياء الماضى كلهم من المنتجين الزراعيين أو الصناعيين ، وكانت مصر مستقبلهم وأملهم وحياتهم ومماتهم مهما كانت أفكارهم أو ديانتهم أو انتماؤهم الحزبي ، أما اليوم فيا حبذا لو كان لي موضع قدم في الخارج أقفز إليه عند أول أزمة، حتى لو كان هذا الموضع جواز سفر أجنبي أحصل عليه بطريقة غير شرعية أو نصف شرعية!
رحلة السيد الوالد
هكذا تعلم والدي في شبين الكوم حتى نال شهادة البكالوريا في العشرينات . وكانت الخطوة التالية هي أن يدخل الجامعة وكان ذلك مستحيلا من الناحية الاقتصادية فالحياة في القاهرة مكلفة ومصاريف الجامعة مرتفعة وكانت شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) شهادة محترمة جدا في هذا الوقت ويعتبر الحاصل عليها قد أصاب قدرا عظيما من التعليم . وذهب أبي إلى القاهرة بحثا عن عمل ومحاولة للدخول للجامعة وبعد البحث والتقصي وجد أن كلية التجارة تقدم محاضراتها ودروسها في المساء فقط فقدم أوراقه وقبل ، ويحكي والدي أنه حصل على وظيفة مدرس في مدرسة خاصة بالزيتون فكان يعمل في الصباح ثم يسرع بركوب القطار ومنه إلى كلية التجارة في باب اللوق ويعود لمنزله وهو في حجرة في شقة يؤجرها الطلاب المغتربين – ، وبعد سنتين وحين انتقل للسنة الثالثة بالكلية غيرت الكلية النظام وأصبحت الدراسة نهارية فاستقال من التدريس وتفرغ للكلية لمدة عامين حصل بعدها على البكالوريوس وكان تخرجه في عام 1931 ، وفي هذا العام حدث انهيار في بورصة نيويورك وصاحبه انهيار البورصات العالمية وكساد عالمي أدى إلى توقف العمل في مصر وازدياد البطالة فكان من الصعب أن يجد عملا ، إلا أن الحكومة المصرية قررت أن تنشئ بنكا للتسليف الزراعي يكون له فروع في جميع المحافظات ويساعد الفلاحين والملاك في الحصول على القروض ، وكذلك مستلزمات الزراعة من أسمدة وبذور وأماكن لتخزين المحاصيل حتى البيع ، وقد أخبرنى والدى أن خريجي دفعته ذهبوا لمقابلة عبد الله فكرى أباظة باشا وكان رئيسا لنادي التجارة- كنقيب التجاريين اليوم – فأخذ مجموعة منهم لمقابلة إسماعيل صدقي باشا وكان رئيسا للوزراء ووزيرا للمالية، وطلب صدقي باشا أن تكون المقابلة في المساء في وزارة المالية ليكون عنده من الوقت ما يسمح له بالتحدث لهذه المجموعة من الشباب وقد كان ، وبعد مفاوضات وضغوط من أباظة باشا وافق رئيس الوزراء على تعيين خمسة عشر خريجا بترتيب تخرجهم في فروع بنك التسليف الزراعي المختلفة من أنحاء القطر وكان والدى من ضمن المعينين وانتقل والدى ليعمل في بنك التسليف في المنوفية ثم في البحيرة وتزوج من والدتى ، وهي بنت خالته ، عام 1937 .
وهكذا عاش جدى ومات مصريا بسيطا جميلا فيه كل مميزات وخصائص المصريين في ذلك الزمان من حسن الخلق والمعاملة والاستقامة، وكان يتمتع بسكينة وإيمان شديدين ، وكانت له أيضا عيوب المصريين، فلم تكن له طموحات أكثر من حياة بسيطة وكريمة ولم يشارك أو يفكر في محاولات جادة في العمل العام قد تؤثر أو ترفع من شأن الأمة ، وإنما كان تفكيره ينحصر في محاولة تعليم أولاده الذكور والإناث وكان ذلك يعتبر عملا تقدميا ويعبر عن نظرة مستقبلية .
اللوحة للفنان محمد صبري جواب منصمصر
الحلقة الثالثة
محمد أبو الغار يكتب عن مكتبة البلدية :
جدتى .. عالم السطوح المبهر
أما جدتى فكانت مملكتها الوحيدة بيتها وأولادها وبالرغم من أنها كانت تجيد القراءة إلا أنني أعتقد أنها لم تقرأ جريدة في يوم من الأيام ، لم يكن لها أية اهتمامات سياسية، ولم يكن يعنيها أو يثير اهتمامها أية أحداث محلية أو حتى حرب عالمية ما لم يؤثر ذلك بشكل مباشر على بيتها ، كانت تخشى من أي نشاط عام لزوجها أو أولادها ولا تريد أي مجازفة حتى لو كانت محسوبة، كانت تهاب الملك والإنجليز وضباط الثورة وأي حاكم مصري أو أجنبي ، وكانت تحمل الموروث المصري القديم الزاخر بالخوف من السلطة والشعور بالأمان كلما ابتعدت عنها. ولا أدري ما هي الحوافز القوية التى شجعتها على الاهتمام الشديد وإعطاء الأولوية لتعليم أولادها في عشرينات القرن العشرين حين كان التعليم شيئا ثانويا وغير هام وصعب المنال بالإضافة لتكلفته المادية الباهظة نسبيا ، وكان هذا التصرف نادرا خاصة في الريف .
وكانت جدتى التى لا تغادر منزلها أبدا هي المسئولة عن أعمال المنزل ، فكان الفرن على السطوح حيث كانت تقوم بتحضير العجين وإتمام الخبيز تعاونها سيدة عجوز من القرية المجاورة ،وكانت رحلتي إلى سطوح بيت جدي شيئا جميلا ورائعا بالنسبة لي وأنا في مرحلة الطفولة في نهاية الأربعينات حين كنت أزور البلدة في الإجازة الصيفية ، وكنت أتمتع بمشاهدة عشة الفراخ المليئة بالدجاج والتى تجمع منها جدتى البيض كل صباح وأشاهد بمتعة شديدة عشة أخرى للأرانب . وفي الركن يقبع برج صغير للحمام . وفي وسط السطح تمتد حبال الغسيل لنشر الملابس والتى تخرج من حجرة الغسيل الموجودة في الركن الآخر المقابل لبرج الحمام وكنت أشاهد عملية غسيل الملابس والتى تجرى في طشت كبير وبجواره إناء أسطواني الشكل له حمالة يسهل منه رفعه ونقله ويسمى أروانه وكان يتم تسخين الماء بواسطة أقراص الجلة المصنوعة من روث الحيوانات وكانت الحياة فوق السطوح حافلة بكل مظاهر الإثارة لطفل قاهري مثلي فكانت جدتي تقضي معظم وقتها بين خبز العيش وبين رعاية الطيور والغسيل ونشره وجمعه وكانت أم سعيد خادمتها وصديقتها ومساعدتها في كل شئ ، وكان هذا السطوح بمثابة عالم مسحور لي كطفل يزور الريف مرة أو مرتين كل عام ولعدة أيام ..
شبين الكوم وطفولتي
وحقيقة الأمر أن شبين الكوم من الناحية النظرية هي عاصمة لمحافظة المنوفية ويطلق عليها بندر، ومن الناحية العملية فهي أبعد ما تكون عن المدينة ، فمنزل جدي هذا يقع في وسط المدينة وكان يضاء بالكهرباء ، ويبدو أن وصول المياه الحكومية له كان في أواسط الأربعينات ، لأنني أتذكر أن طلمبة الماء التى تدار باليد وتضخ المياه من بئر تحت المنزل كانت موجودة في الدور الأرضي ، ولكنني لم أرها تستخدم أبدا وقد أزيلت بعد بضع سنوات ربما بعد أ ن تأكد جدي أن المياه القادمة في المواسير من محطة المياه الحكومية سوف تستمر ولن تنقطع ، وكان الدور الأرضي به شرفة واسعة بها كنبه إستانبولي ، نسبة إلى استنبول ، وأمامها نافذتان لكل منها شيش خشبي ذو فتحات عريضة يسمح لمن بالداخل أن يرى كل ما يحدث في الشارع دون ان يراه من يمر أمام المنزل ، وقد كانت جدتى قبل الغروب تجلس على الكنبة ، وتشاهد ما يحدث في الشارع ، لمدة ساعة أو أكثر كل يوم . وكان الباعة الجائلون يحدثونها من خلف الشيش ، ويمكن أن تفتحه قليلا إذا طال الحديث، أما إذا رغبت في الشراء والفصال والحديث الذى قد يطول إلى ساعة أو أكثر فينتقل البائع إلى داخل المنزل حتى تتم الصفقة .
أما الصالة في الدور الأرضي فتتوسط المنزل ، ويوجد رف خشبي عال فوق مستوى الرأس عليه راديو يعلوه غطاء من قماش البفتة البيضاء . وكان هذا الراديو يدار مرتين يوميا ، في الساعة الثانية والنصف ظهرا ، لسماع نشرة الأخبار ، وفي الساعة الثامنة مساء لسماع القرآن يليه أخبار الثامنة والنصف . وفيما عدا ذلك فالراديو مغلق طوال اليوم .
أما باقي غرف الدور الأرضي فإحداهما حجرة جدى والأخرى حجرة عمتى، التى كانت تسكن في بيت العائلة قبل زواجها ، وحجرة ثالثة لعمة أخرى متزوجة وتقطن هذه الحجرة هي وزوجها شيخ المعهد الديني بشبين الكوم . أما الدور الثاني، فكان الوصول إليه من سلم داخلي ، وكان هذا الدور لا يفتح إلا للزوار أو الضيوف، وبه حجرة نوم للضيوف وحجرة للطعام لم أرها تستخدم أبدا ، ولا أظن أن أحدا تناول فيها الطعام خلال نصف قرن ، وحجرة أخرى كانت تسمى حجرة المسافرين ، وهي صالون لاستقبال الضيوف كان يستخدم مرة أو مرتين كل عام . والحجرة الأخيرة كان بها طاقم انتريه جميلة بها مجموعة من كتب التراث ودواوين الشعر يملكها زوج عمتي المقيم في نفس المنزل .
كان شارع المحطة الذى يقع فيه بيت جدي شارعا هادئا فهو مواز للسكة الحديد وأمامه مباشرة منزل ناظر المحطة والذى هو متصل بالمحطة ويعتبر جزء منها وكانت تمر بالشارع بعض عربات الحنطور وكثير من عربات الكارو المحملة بالخضروات من القرى القريبة من شبين الكوم ، حيث تمر من تحت نفق يمر أعلاه القطار، وتنطلق إلى داخل شارع سعد زغلول وهو الشارع التجارى في المدينة والعمودى على محطة القطار . وكانت الدواب بكافة أنواعها تمر أيضا في الصباح الباكر وعند الغروب ، أم في وسط النهار وأثناء الليل فيخيم على الشارع هدوء نسبي حيث لا توجد محلات تجارية ولا مساكن كثيرة ، فالشارع يحده من ناحية سور السكة الحديد ومن الناحية الأخرى عدة منازل بسيطة . هذا الشارع لم يكن مغطى بالأسفلت أو على الأقل كان ذلك منذ سنوات بعيدة ، لأن الشارع كان مغطى بطبقة سميكة من التراب تتحول إلى بركة من الطين عند سقوط الأمطار ويصبح المرور في الشارع شبه مستحيل إذا حاولت ذلك بأي نوع من الملابس والأحذية المعروفة ، وكانت تمر أيام بعد انتهاء الأمطار ليجف الشارع مرة أخرى . ولحسن الحظ فإن أيام المطر معدوده كل عام . وكان هذا الشارع الهادئ نسبيا يتحول إلى كرنفال كبير يوم الخميس حيث يكون هو يوم السوق الأسبوعي . فمنذ الصباح الباكر يأتي الباعة ويفترشون الشارع أو على الرصيف أمام منزل جدي وينصبون تندة تحميهم من الشمس الحارقة . وكان كل شئ يباع في هذا السوق ما عدا الحيوانات الكبيرة كالبقر والجمال فهي تباع في سوق خاص في القرية المجاورة والمرور إليه بنفق تحت السكة الحديد ، وكان كل تاجر له مكان مخصص في الشارع وعلى الرصيف المقابل لبيت جدى كان تاجران للأقمشة يقتسمان الرصيف، وكانت الفرجة من نافذة شرفة الدور الأرضي على السوق متعة كبيرة ، فأمامك ترى مسرحا عظيما عليه ممثلين عظام بعضهم طبيعى في تمثيله وبعضهم يعتقد أنه فعلا على مسرح ، وكان الحوار الذى يدور بين البائع والمشترى مقسما تقسيما يبدو أنه باتفاق ودي بين التجار إلى تخصصات، فباعة الأقمشة متجاورين ، وباعة الخضار والفاكهة في مكان آخر أما باعة الفراخ والحمام والبط فلهم ركن خاص. ويبدو أن الفلاحين في القرى المجاورة كانوا يذهبون إلى سوق الخميس في شبين الكوم كل أسبوع لشراء حاجياتهم ، وكان الزحام يشتد عند اقتراب المواسم، حتى إذا حل رمضان أو العيد وعند حلول الغروب وفي دقائق معدودات ينفض السامر وترفع البضائع ويتحرك موكب التجار خارج المدينة للسفر لمدينة أخرى حيث يقام سوق اليوم التالى، وأعتقد أن هذه الأسواق كانت الملجأ الأول والأخير وربما الوحيد للشراء للفلاحين في هذه الأيام .
لوحة للفنان سمير رافع
مكتبة البلدية بطنطا
كنت أقضى عدة أيام قد تمتد إلى أسبوعين خلال الإجازة الصيفية في هذا المنزل، وكنا نلعب الكرة الشراب في الشارع بصفة منتظمة . وكان من ضمن المتع الجميلة ركوب الدراجات التى نستأجرها وننطلق بها في الطريق الزراعى المتجه إلى طنطا لعدة كيلو مترات قبل أن نعود . أما المتعة الكبرى فكانت مكتبة البلدية ، وهي مكتبة عامة تحتل جزءا من مبنى البلدية ، وبها صالة جميلة للقراءة والاطلاع ، وكنت أذهب إليها وأقضي ساعات كل يوم ، وفيها تعرفت على توفيق الحكيم لأول مرة ، وكنت أشعر بمتعة فائقة أثناء قراءته لدرجة أنني حاولت وأنا في حوالي الثالثة عشرة من عمرى أن أكتب رواية ، فاكتشفت بعد أن كتبت عدة صفحات أنني في حقيقة الأمر قد كتبت نسخة من آخر ما قرأت للحكيم . لست أدري ما آل إليه الحال في هذه المكتبة وهل لا زالت محتفظة برونقها ونظافتها وكتبها الجميلة المجلدة. وأذكر انني أقنعت زوج عمتى ، صاحب المكتبة الصغيرة الموجودة بالدور الثاني لمنزل جدى ، بأنني يجب أن أنظمها وأعمل لها فهرس ، وفعلا قمت بذلك ، ولست أدري هل قمت فعلا بعمل فهرس مفيد أم أنني قلبتها فقط رأسا على عقب . لا أذكر على وجه الدقة أسماء الكتب التى كانت بالمكتبة ولكنني أذكر أنني أعجبت بكتاب المستطرف في كل فن مستظرف ، وكان كتابا كبيرا ، ومادة الكتاب مطبوعة داخل إطار وحوله هامش عريض من كل النواحي، وعلى هذا الهامش كتاب آخر مطبوع لمؤلف آخر ، وحين سألت عرفت أن كثيرا من الكتب القديمة كانت تطبع بطريقة كتابين في كتاب واحد .
وقد اشتريت نسخة من المستطرف منذ سنوات قليلة من معرض الكتاب بالقاهرة، وكان قد طبع طبعة جديدة بدون الكتاب الآخر ، وأيضا بعد حذف الكثير منه، وبعد أن تم إجراء جراحة حديثة له نتج عنها بتر أجزاء وفقرات من الكتاب أعتبرها الناشر والمحقق الحديث لا تليق بهذا العصر أو رآها مخلة بالآداب والقيم الحالية، حقا لقد إختلت الأمور فمن سرق الملايين وهرب بها يتم التفاوض معه وملاطفته لأن ما فعله لم يعد يعتبر جريمة في هذا الزمان ، بينما تعتبر بعض الكتب التى نشرت منذ مئات السنين إهداراً للقيم ، ولست أدري كيف يحكم ناشر أو رقيب على كتاب نشر منذ مئات السنين وقرأه الآلاف على مر العصور وهو موجود في المكتبات العامة والخاصة بطبعته الأصلية ، ويعطي لنفسه الحق المطلق في حذف ما لا يعتقد أنه مناسب للقارئ!!
وبالرغم من رغبتي الشديدة في إعادة قراءة أجزاء هذا الكتاب حتى أتعرف على ذوقي في هذه الفترة من العمر وهل كنت محقا في الإعجاب به وأنا في الخامسة عشرة من عمري أم أن ذوقي وإحساسي قد تغير ، إلا أنني لم أستطع لأسباب نفسية أن أقرأ هذا الكتاب ، بسبب التغيير الذى طرأ عليه في هذا الزمن العجيب .
وكان زوج عمتي الشيخ عبد المجيد يس أزهريا حصل على شهادة العالمية من الأزهر، وتعرف على والدي حين كانا طلبة في نفس الوقت في القاهرة ، للدر اسة، ثم شاءت الظروف أن يعين مدرسا في المعهد الأزهرى الثانوي في شبين الكوم فإستمرت العلاقة وإنتهت بزواجه من عمتي . وكنت أقول له دائما عمي الشيخ ، وكان رجلا بسيطا مرحا ذا نكتة شديد التأنق في ملبسه فكان يفصل الجبة والقفطان عند ترزي شهير بالقاهرة ، وكان يشترى الصوف الإنجليزي الفاخر لجبته وكانت عمامته غاية في الأناقة . وبعد عدة سنوات أصبح شيخا للمعهد الديني (بمثابة ناظر المدرسة الثانوية) لسنوات طويلة وكانت له نشاطات اجتماعية كثيرة، فكان صديقا لمطران الكنيسة القبطية في المنوفية وكانا يتزاوران دائما وكل منهم يحمل مودة وحب شديد تجاه الآخر ، ولم يكن ذلك بغرض التصوير لإظهار الوئام بين عنصري الأمة!، ولا كان ذلك للوجاهة السياسية بل كان حبا وتعاطفا نابعا من القلب .
وكان عمي الشيخ رجلا اجتماعيا يذهب للنادي البحري وهو نادي الموظفين حيث يقابل كبار الموظفين والأعيان فيتسامرون ويتحاورون حول مشاكل البلدة في حب ووئام ، وكنا نذهب إلى النادي معه حيث نلعب تنس الطاولة والبلياردو في صالة خاصة لذلك ، وكان بالنادي المشروبات الروحية لمن يريد من أعضاء النادي وبالطبع لم يكن عمي الشيخ يتناول الخمر ، ولكنه لم يثر ضجة ولم يمتنع عن الذهاب للنادي ولا أثار مشكلة ، فكل مسئول عن تصرفاته ، وكان صديقا لشيخ الأزهر لأن شيوخ المعاهد الدينية كانو قلة في ذلك الوقت ، وكان يزوره بين حين وآخر . وأذكر مرة أنني عدت للقاهرة معه في القطار وكانت جلستنا في ديوان أنيق وقطع القطار المسافة من شبين الكوم للقاهرة وهي حوالي 80كم في ساعتين ونصف . وقرر عمي الشيخ أن يأخذنا في نزهة في القاهرة فصحبني أنا وابنه وهو في مثل عمرى حيث ركبنا مترو مصر الجديدة ، وكان أنيقا ونظيفا حتى نهاية الخط ثم مشينا بضعة دقائق وجلسنا في كازينو بسيط وأنيق يطل على الصحراء ففي هذا الوقت (أوائل الخمسينات) كانت مصر الجديدة لا تزال صغيرة . وهذا العم هو صاحب المكتبة التى حاولت أن أعمل لها فهرسا وأنظمها . رحمه الله كان شيخا متفتحا عالما بدينه ومحبا لدنياه وللناس وللحياة.
اقرأ أيضًا:
محمد أبو الغار.. من شبين الكوم إلى براح العالم