وأنت لا تعرف ماذا تفعل بك ملامح محمد أبوالغار؟ماهذا الذى يضىءمن ضحكته ؟وماهذا الذى تجد نفسك مشدوداً إليه؟ هل انحناءة الظهر التى تجعله يمشى الهوينا كملاك طيب؟،أم بقايا الكلاسيكية المصرية متجسدة فى إنسان هادىء الطبع،خفيض الصوت ومعتدل الذوق؟!، هل مواقفه الإنسانية أو الوطنية؟،هل دوره ومكانته كأحد رواد طب أطفال فى العالم؟!،أم أن الموهبة الإبداعية هى التى تجعله يتحرك بنعومة بين فنون الغناء والكتابة فيصبح حاضراً بكل هذه القوة ؟!.
كان من حسن حظى وحظ ابنى مروان أن يكون ميلاده(2007) على يد هذا الطبيب المصرى الكبير ،مثلما كان من حسن طالعى وحظى أن أسلم عليه مرات باليد ،صحيح تبادلنا كلمات قصيرة، إلا أنه فى كل مرة يفيض حنانا من الكف مختلفا عن المرة التى سبقتها!،عموما تلك المذكرات لا تجيب عن تلك الأسئلة فقط،لكنها تضعك مباشرة أمام شخصية مختلفة واستثنائية فى كل شىء حتى فى الكتابة وطريقة السرد التى تقترب من الرواية وتتجاوزها فى بعض الفصول خاصة تلك التى يصف فيها شوارع وبيوت ومدارس شبين الكوم منتصف الأربعينات،فأنت فى حضرة مفكر ومؤرخ أدبى يجعل من تاريخ العائلة امتداداً لتاريخ مصر،يأخذك فى الحديث عن جده لترى
النسيج الاجتماعى لمصر بكامل طبقاتها، ففي وسط الدلتا وفي مدينة شبين الكوم ولد وعاش ودفن الجد الحاج محمد أبو الغار،الذى كان تاجرا للأقطان متوسط الحال تتحسن أحواله المادية أحيانا وتسوء أحيانا أخرى، وكان على قدر من التعليم الذى كان صعب المنال في ذلك الزمان، فقد ولد في منتصف العقد السابع من القرن التاسع عشر فكان مولده قبل الاحتلال البريطاني لمصر ببضع سنوات،وعلى سيرة التعليم يأخذك محمد أبو الغار إلى حكايات العمات والخالات ليشرح لك كيف كانت صورة التعليم فى مصر آنذاك:
(ذهبت جميع عماتي في عشرينات القرن العشرين إلى المدرسة ، وتعلمن جميعا القراءة والكتابة بطريقة جيدة وخرجن من المدرسة فقط ليتزوجن ، وكان ذلك في سن مبكرة في حدود الخمسة عشر عاما ، وتزوجن جميعا في شبين الكوم باستثناء العمة الصغرى التى تزوجت في الصعيد، وبقيت عمة لي استمرت في التعليم الثانوي واضطرت أن تسافر لتسكن في مدرسة داخلية خارج المحافظة لاستكمال تعليمها الثانوى. وكان ذلك حدثا كبيرا في العائلة بل وفي المدينة بأكملها ، واختلفت الآراء هل يصح أن تسافر بنت الحاج محمد أبو الغار وحدها وتسكن في بلد بعيد لتكمل تعليمها الثانوى).
وبعد الحديث عن الجد وقضية تعليم العمات،تأتى رحلة السيد الوالد لنتعرف على (بنك التسليف الزراعى) وحكايته ومتى تأسس ومدى أهميته فى تلك الفترة؟، كما نتعرف على رواتب الموظفين آنذاك:
(.. تسلم أبي عمله كمدير لبنك التسليف في المنيا وهو في الثالثة والثلاثين من عمره . وكان منصبا هاما وزاد من أهميته تركيبة عملاء البنك في المنيا ، فمعظمهم من كبار الملاك ويحملون لقب الباشاوية ولهم نفوذ كبير في الحكومة والأحزاب ، وبالرغم من صلتهم الوثيقة بالأرض والفلاحين وعادات وتقاليد الصعيد إلا أن جزءا كبيرا منهم كان على صلة وثيقة بالثقافة الغربية ، فبعضهم كان من خريجي أعرق الجامعات البريطانية والفرنسية ، وبعضهم أتى بزوجة أوروبية لتعيش في المنيا . وكانت هذه الطبقة تعيش في برجها العاجي ولها قصورها الجميلة الأنيقة وناديها الاجتماعي الفخم ذو الحدائق الغناء وبعضهم كان يزاول رياضات شديدة الندرة عالية التكاليف محصورة في طبقات وفئات محدودة حتى في بلاد الغرب .
وهكذا وجد والدي وهو الرجل الذى نشأ في عائلة بسيطة أنه بالمثابرة والتعليم قد أصبح رجلا مرموقا يركب سيارة أمريكية كبيرة يملكها البنك ، ويقودها سائق البنك ويسكن في بيت أنيق على النيل . وأعتقد أن مرتبه لم يكن يتعدى الثلاثون جنيها شهريا في ذلك الحين . ولكنه كان كافيا لأن يعيش في بحبوحة من العيش ، وكانت إدارة البنك في القاهرة تهتم بأن يظهر مديرها في أي مكان بمظهر لائق حتى لا يسهل الضغط عليه من كبار المزارعين
يتحدث محمد أبو الغار عن والده فيرسم صورة متكاملة للحياة فى الأربعينات والخمسينات،فلم يصل السيد الوالد إلى مكانته بسهولة،فقد تعلم فى شبين الكوم حتى نال شهادة البكالوريا في العشرينات،وكانت الخطوة التالية هي أن يدخل الجامعة وكان ذلك مستحيلا من الناحية الاقتصادية فالحياة في القاهرة مكلفة ومصاريف الجامعة مرتفعة وكانت شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) شهادة محترمة جدا في هذا الوقت ويعتبر الحاصل عليها قد أصاب قدرا عظيما من التعليم . وذهب والدى ـ يقول محمد أبو الغار ـ إلى القاهرة بحثا عن عمل ومحاولة للدخول للجامعة وبعد البحث والتقصي وجد أن كلية التجارة تقدم محاضراتها ودروسها في المساء فقط فقدم أوراقه وقبل ، ويحكي والدي أنه حصل على وظيفة مدرس في مدرسة خاصة بالزيتون فكان يعمل في الصباح ثم يسرع بركوب القطار ومنه إلى كلية التجارة في باب اللوق ويعود لمنزله وهو في حجرة في شقة يؤجرها الطلاب المغتربين – ، وبعد سنتين وحين انتقل للسنة الثالثة بالكلية غيرت الكلية النظام وأصبحت الدراسة نهارية فاستقال من التدريس وتفرغ للكلية لمدة عامين حصل بعدها على البكالوريوس).
وفى الحديث عن جدته لأمه يتجول بك محمد أبو الغاربين شبين الكوم والسويس ويحدد لك شكل الاختلاف بين المدينتين بسطور قليلة للغاية يقدم خلالها معلومات عن شركة ماركونى الإيطالية للتلغراف 🙁 جدتي لأمى كان زوجها – جدى – وكيلا لشركة “ماركونى” الإيطالية للتلغرافات في مدينة السويس،وكانت المدينة تعج بالأجانب بعضهم مقيم وبعضهم عابر مع السفن أو مقيم لفترات قصيرة ، وكان هو المسئول عن إرسال وتلقي وتوزيع التلغرافات من مكتبه الخاص بالمدينة . وقد كانت حياة جدتي لأمي في هذه المدينة، التى تتمتع بطابع ما يسمى بالكوزموبوليتان، مختلفة تماما عن جدتي في شبين الكوم فكانت جدتي هذه تخرج من المنزل وهو على مدخل قناة السويس وتجلس مع أصدقائها يدخنون النرجيلة على شاطئ البحر الأحمر، وكانت لها صداقات كثيرة مع مصريين وأجانب من أهل السويس ، وأعتقد أن حياتها في السويس كان لها أثر كبير على تفكيرها وطريقة تربيتها لأولادها ).
الطيب الصالح صاحب موسم الهجرة للشمال والذى لم نتعود عليه يكتب مقدمات لكتب، فعلها مع الدكتور أبو الغار وكتب مقدمة بديعة قارن فيها بين السرد عند محمد أبو الغار وأشكال السرد الروائى الكلاسيكى،وقال إنها الكتاب سيرة ذاتية لمصر وليست لصاحبها فقط.
من شبين الكوم ينطلق الدكتور محمد أبو الغار فى تلك السيرة الذاتية المُلهمة والتى صدرت عن الهيئة العامة للكتاب واختفت تماما !!ربما نفذت طبعاتها الأولى؟!، لا أعرف،المهم أن النسخة التى بين إيدينا لم تعد موجودة إلا معنا بحمد الله وببركة شبين الكوم التى أنجبت كل هؤلاء العباقرة والمبدعين من شعراء وأدباء وفنانين يملأون الساحة جيلا بعد جيل، ولاشك أن حديث أبو الغار فى هامش الرحلة عن شبين الكوم جديراً باحترام كل المنايفة حتى وإن كنا نرتاب من بعضهم.
يربط محمد أبو الغار نسيج مصر بحكايات بسيطة عن زيارة والدته للقسيس كى تطلب منه الدعاء لابنها المريض،وكان المريض هو محمد الصغير الذى كبر ليكتب من الذاكرة هذه الحكاية: (كانت أمى تدعو لي ليل نهار بالشفاء ، وكانت تذهب مع طنط أولجا للكنيسة لإحضار بعض التعاويذ والأحجبة لوضعها تحت وسادتى لتساعدنى على الشفاء ، وكانت تدعو قارئا للقرآن في الحجرة لعل ذلك يساعدنى . وقد أحضرت طنط أولجا القسيس مرتين لزيارتي والدعوة لي بالشفاء عندما اشتدت العلة ).
ولا تملك سوى أن تقول له : سلامتك من العلة أيها الكاتب الكبير الذى أدهشنى فى كل صفحات الكتاب،فلم يترك مناسبة عائلية إلا وراح يرسم صورة الأحداث المصاحبة لها حتى يوم ميلاده يتحول إلى كنز معلومات فى سطور قليلة : (.. ولدت في سنة 1940 بينما جيش المحور يجتاح أوروبا الغربية ويستعد للهجوم على روسيا وبينما الجيش الإيطالي يمرح في ليبيا . في هذه الفترة ولمدة خمس سنوات كان والدي يعمل مديرا لبنك التسليف في المنيا ، وكان من الطبيعي أن تحضر أمي للولادة في القاهرة بجوار أمها ، وفي هذه الأثناء شن الألمان بعض الغارات على الإسكندرية والقاهرة فأصاب الرعب الكثيرين وهاجرت بعض العائلات التى لها أصول ريفية إلى الريف فهاجرت أسرتنا إلى شبين الكوم ، وعاشت هناك عدة شهور حتى عاد الهدوء للقاهرة وتوقفت الغارات الجوية الألمانية، وفي هذه الفترة ولدت في شبين الكوم في المنزل الذى استأجره والدى على فرع من النيل المسمى بحر شبين).
اقرأ أيضًا:
صلاح حافظ بين كامل الشناوى وشارلى شابلن