الحلقة الأولى
عندما بدأ أنور وجدى يفاتح ليلى فى الارتباط ويترجاها أن تقبل الزواج منه ،كانت ليلى فى حيرة كبيرة،فقد خرجت من ثلاث قصص حب مؤلمىة،كانت الأولى منهم للموسيقار محمد عبد الوهاب، وليس هذا سبب الحيرة فقط،لكنها كانت مشغولة بما يفعله والدها وما فعله مع والدتها،هل تتزوج من فنان وتعيد مأساة أمها مع والدها؟
كانت صورة الفنان في ذهنها متمثلة في رجل واحد ،هو زكى مراد.. وكان زكى مراد – كما عرفته ليلى – رجلا لا يوقفه شئ ولا يردعه شئ. رجلا عذب امرأته مثلما لم تتعذب امرأة لفرط ما كانت الست جميلة تغار عليه، ولفرط احساسه هو بالمرأة.. و.. وفي تلك الأيام التى إلتقت فيها ليلى مراد بأنور وجدي ، كانت الست جميلة قد ماتت منذ زمن ليس بالطويل ، وكانت حكاية حب جديدة لزكي مراد قد طرقت أذنيها، كان الرجل الكهل يودع فحولته غارقا لشوشته في حب تلك الفتاة الصغيرة التى سمعت عنها ليلى كثيرا ، لكنها لم ترها أبدا ، وإذا كانت ليلى تستطيع في تلك الأيام أن تفاتح أباها في الأمر ، فإنها أنها لم تفعل ، كتمت كل ما تعرفه في نفسها وهى تتساءل : كيف يستطيع الإنسان أن ينسى شريكة العمر بمثل هذه السهولة؟!”
وفي الصباح ، وعندما دخلت غرفتها في الاستوديو ، وجدت باقة الورد، وكانت عزيزة مراد – اللبيسة – في انتظارها… وعندما كانت ليلى تبدل ملابسها وتستعد للوقوف أمام الكاميرا أخبرت عزيزة بكل شئ … كأنها تكلم نفسها،فهى الآن تملك من المال ما يكفيها ويفي العائلة في المستقبل، بعد أن أدت دورها،وإذا كان الفن مهما لحياتها فإن أنور لن يمنعها من الغناء والتمثيل،لن يطالبها بالاعتزال كما فعل حبيبها السابق.. وراحت عزيزة تصب في أذنيها كلمات التشجيع… وفي البلاتوه بدأت قصة الحب تأخذ شكلا عمليا، راح كل منهما يتابع العمل في دأب وحماس، وامتد حماسهما إلى كل من في البلاتوه،أصبحا يعملان في اليوم ست عشرة ساعة… ينتهيان من التصوير ليشاهدا المشاهد التي صورت بالأمس في صالة العرض بالاستوديو ويتناقشان، ثم يذهبان إلى قاعة التسجيل لأداء بروفة على أغنية أو سماع لحن يوضع… تحولا إلى نحلتين فتحول الاستوديو كله إلى خلية لا تكف عن العمل… في كل صباح يرسل لها أنور باقة الورود إلى غرفتها،وفي كل يوم أصبحت بينهما خناقات صامتة، ذلك أن أنور كان من النوع “البلاّف”، كان يستطيع أن يأخذ من الراقصة أو الفنانة أقصى ما يمكن أثناء العمل ، حتى ولو كان الثمن كلمة غزل ، أو فرصة لا تخفى على عين ليلى الساهرة ، وإذا كان أنور فنانا ، فهو أيضا “شاطر” ، ومن الممكن أن تصبح الحياة معه جميلة .
بالمنطق وحده أقبلت ليلى على حبها الجديد،أعلنت الأمر في كل حركة وأصبحت تعامله كخطيبها … ذهبت إلى البيت ذات يوم وأخبرت أباها بالأمر كله، ورحب زكي مراد ، وزار معها الاستوديو في اليوم التالي … لم يكن هناك وقت للخروج أو الفسح فلقد كان الفيلم يأخذ كل وقتها ، وعندما زارها أنور ذات يوم في البيت ، تم الأمر ببساطة شديدة – دون كلام أو أخذ ورد – وعومل في البيت على أنه خطيب ليلى، وفي دقائق كان أنور يستولي على إبراهيم ومنير بالذات، لحس عقل الأب بنكته وضحكه وخفة حركته … لكنه أحب منير وإبراهيم حبا شديدا ، فأحباه هما أيضا، وأخلصا له تماما… ذات يوم دعتها إحدى صديقاتها على فرح الخادمة… كانت خادمة الصديقة قد تزوجت فأقامت لها السيدة فرحا عظيما في السيدة زينب ، وذهبت ليلى مع أنور إلى بيت الفرح ، وتجمع حولهما الناس ، وانطلق أنور في مداعبة السيدات والرجال على السواء ، كان المعازيم يجلسون في الدور الأول، بينما الفرح مقام فوق السطوح.
وسمعت ليلى دقات العوالم فأنقادت لها صعدت إلى السطوح ، واشتد فرح الناس وتزاحموا ليشاهدوها… ثم غنت ليلى ، غنت على موسيقى العوالم، ولما كان المفروض أنها تعيش الآن قصة حب ، فلقد انطلقت تغني وتغني حتى مطلع الفجر.
وقبل أن ينتهي تصوير الفيلم ، كانا قد تزوجا ..
ولقد أحدث زواج ليلى من أنور وجدى في تلك الأيام ضجة شديدة في مصر … رحبت به الصحف ونسجت حوله الحكايات كان أنور فتى وسيما خفيف الظل، وكان محبوبا، أما ليلى فكانت قد تحولت مع الأيام إلى نموذج لفتاة الأحلام لشباب مصر، كانت دائما تمثل دور الفتاة الطيبة المرحة التي تغني دائما وفي تلك السنوات التى تلت الحرب العالمية الثانية كانت مصر تغلي ، كانت أحداث كوبري عباس تلهب الوجدان الشعبي ، والمظاهرات لا تكف والصراع الاجتماعي والسياسي يأخذ شكلا جادا ، كان الإحساس بالقهر عاتيا في صدور الناس، وعندما عرض فيلم “ليلى بنت الفقراء” نجح نجاحا شديدا ، كانت قصة الفيلم تحكي حكاية حب بين فتاة فقيرة تسكن في حي السيدة زينب ، وضابط غني ارستقراطي والعقبات الاجتماعية والطبقية التي تقف في طريق حبهما، تلك العقبات التى ينتصر الحب عليها في النهاية… ومع قصة الحب بين ليلى وأنور وكل ما نسج حولها من قصص وأخبار، ازدحمت الناس على دور السينما.
وعلى الفور،جلس أنور لينتج فيلما آخر،لم يكن مترددا هذه المرة، كان قد أصبح أكثر ثقة بنفسه، واختار للفيلم الثاني نفس القصة ، فقط صنع البطل صحفيا فقيرا،والبطلة ليلى بنت الأغنياء… وكان هذا هو عنوان الفيلم الثاني، الذى نجح أيضا، لكن نجاحه لم يكن مثل نجاح الفيلم الأول.
نار الغيرة التى عصفت بالحب
ما أن مضت شهور حتى بدأت الخلافات بين أنور وليلى، لكنها لم تكن خلافات عاطفية… ذلك أن الحقيقة واضحة كل الوضوح ، هي أن كلا منهما قد اقتنع تماما بالآخر، وبجدوى حياتهما معا ، غير أن أنور كان إعصارا في معاملته المادية، لم يكن بخيلا أبدا ، لكنه كان تاجرا ، وعندما أراد أن يعطيها أجرا قليلا تشاجرا معا… وقد كان هذا محتملا ، فقد كانا يسافران إلى أوربا ويشتري أنور لليلى فساتين بألوف الجنيهات ، كان خلافهما هذا محتملا، لكنه لمة يكن كذلك إذا ما جاء لليلى عرض من منتج آخر ، هنا كانت الحياة تتحول إلى جحيم.
إلى أن كان يوم جاءها فيه أحمد سالم ليعرض عليها بطولة فيلم “الماضي المجهول”.
عند أحمد سالم ، لابد لنا من وقفة ، ذلك أن أحمد سالم كان – عندما جاء إلى ليلى – خارجا من السجن بعد فضيحة دوت في مصر وكتبت عنها الصحف شهورا طويلة، كان أحمد سالم متهما في القضية التى عرفت باسم قضية “الخوذات المزيفة”… حقا كان أحمد “ابن ذوات ، جنتلمان، طموح، مغامر، شاب، انيق، وسيم” غير أنه فوق كل هذا كان مديرا لاستوديو مصر لسنوات تعرف فيها على السينما كفن وكصناعة، ولقد كان من الممكن أن ينزوى أحمد سالم بعد خروجه من السجن، فلقد كان هذا هو العرف السائد خاصة إذا كانت الفضيحة فضيحة حول الرشوة والغش … لكنه خرج من السجن ليواجه كل الناس في تحد ، خرج من السجن وقد قرر أن يتحول إلى منتج ومخرج ومؤلف وممثل .
وصنعت هذه الخطوة حول ذلك الشاب الجسور حالة فرسانية، كان يبدو مغامرا، كما بدا في تلك الليلة التي التقى فيها بأنور وجدي وليلى مراد في الإسكندرية .
كانا يجلسان وسط شلة من الأصدقاء في حديقة الفندق الذى ينزلان فيه، وكان الوقت ليلا عندما هبط عليهما أحمد سالم فرحبا به ، جلس أحمد مع الشلة ، وهو يعرفهم جميعا، لكنه بعد لحظات ، أستأذن أنور في الجلس مع ليلى لدقائق… حمل مقعده ودار به حول المائدة – حتى وضعه بجوار ليلى وجلس ، مال عليها وراح يتحدث… كان واضحا من صوته الخافت أن ثمة أمرا مهما يتحدث فيه ، راح أنور يتبادل الحديث مع الشلة لكنه كان يغلي بالضيق … كانت ليلى تشعر بهذا ، لكن أحمد سالم كان غارقا في حماسه ، لقد قرر أن ينتج فيلما يلعب بطولته أمامها، حكى لها قصة الفيلم الأمريكي “الأسير” وكيف مصرها… أعلن منذ اللحظة الأولى أنه مصمم على إنتاج فيلم كبير وناجح… وطلبت ليلى مهلة للتفكير، فتواعدا على اللقاء في القاهرة .
ثورة أنور ضد أحمد سالم
عندما علم أنور وجدي بتفاصيل الحكاية ثار، راح يتهم أحمد سالم بشتى التهم وكيف تثق ليلى برجل خرج من السجن منذ أسابيع قليلة ، ومن أين له بالمال ، وما الذي يعرفه عن الإخراج؟!
وتبادلت ليلى مع أنور الكلمات لكن أحدهما لم يبت في الأمر وعندما عادا إلى القاهرة اتصل بها أحمد سالم، واتفق معها على أن يزورها في الأيموبيليا حيث كانا يقيمان ، كان الموعد في العاشرة صباحا، في يوم الأحد.
وما أن وصل أحمد سالم في الموعد بالضبط ، حتى كان أنور يغلي كالبركان .
بدأ أحمد سالم يحكى قصة الفيلم بالتفصيل ، وتحت ستار المناقشة راح أنور يسفه من القصة والأحداث ، لكن القصة في النهاية كانت جميلة ، وكان أحمد سالم ذكيا، مناورا … وليس هناك أدنى شك في أن ذكاء أحمد سالم كان سببا في انتصاره ، ذلك أن مناقشة أنور له أخذت تتحول من الحدة إلى الاستفزاز، وكانت فرصة أنور ساعة الحديث عن المال.
“أنت عارف ليلى بتاخد كام؟!”
هكذا صاح أنور ، ولم يعط الفرصة لأحمد سالم لكي ينطق حرفا ، لاحقه صائحا:
“ليلى بتاخد خمستاشر ألف جنيه ، معاك خمستاشر ألف!”
ولم يهزم أحمد سالم ، لم يستفز ، أخذ يناقش الأجر كأي رجل أعمال شديد الثقة بنفسه، كان هذا الشاب الذى أتهم بالسرقة في قضية شهيرة ، الذى غادر السجن منذ أسابيع فقط يتحدث وكأنه يملك الألوف تحت يده… واستشاط أنور غضبا.
“طب وحا تجيب الفلوس منين؟!”
“أنا حر يا أنور!”
“طب ادفع 8 آلاف مقدم!”
“لأ حادفع ستة …. دلوقت!”
ولم يكن من الممكن أن يصدق أحد أن أحمد سالم يستطيع الآن أن يدفع ستة آلاف جنيه، كان اليوم يوم أحد وكل البنوك مغلقة ، كانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة صباحا ، وكان أنور وجدى يقف أمام أحمد سالم في غرفة المكتبة بشقته في الأيموبيليا، وكانت ليلى جالسة تبدو شديدة السعادة ، وكيف لا واثنان من أشهر شبان مصر يتبارزان من أجلها ، وكان التحدى بينهما قد وصل إلى أن أبدى أحمد سالم أن يتغيب ساعة، ويعود بالمال … وفعلا، غادر البيت على موعد بعد ساعة .
لم يجرؤ أنور وجدى على مطالبة ليلى برفض الفيلم ، لكنه كان يتحداها بأن أحمد سالم لن يستطيع الاتيان بالمال ، وتظاهرت ليلى باللامبالاة ، كانت تعرف عن يقين أن أحمد سالم سوف يكسب المعركة ، أن فيه شيئا يؤهله للانتصار… وعندما دق جرس الباب في تمام الساعة الثانية عشرة أيقنت أن القادم سيكون أحمد سالم ، ودخل أحمد إلى غرفة المكتب يحمل عقدا ويصحب شريكا وسكرتيرا… بعد ثوان أخرج أحمد من جيبه ستة آلاف جنيه قدمها إلى ليلى ، ثم قدم لها العقد لتوقع عليه.
أمسكت ليلى بالقلم ووقعت ، ثم طارت المائدة الصغيرة في الهواء لترتطم بالحائط… فجأة هاج أنور ، وتطايرت قطع الأثاث ، ووضع أحمد سالم العقد في جيبه بهدوء ، وغادر البيت .
ما أن بدأت المعركة حتى دخلت ليلى غرفتها وأغلقتها على نفسها ، خفت الضوضاء وكيف صاح أنور ثم ساد الهدوء… وعندما فتحت ليلى باب غرفتها كان البيت خاليا… كان أحمد سالم قد غادره … وكذلك أنور وجدى .
الحلقة الثانية
ما قبل معركة الفلفل والكمون
محمد عبد الوهاب يشعل معركة الطلاق بين أنور وليلى !
كان أنور وجدى شخصية متعددة الجوانب ، كان فنانا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، كان طيب القلب إلى حد العبط ، وكان عصبيا إل درجة الجنون ، وكان – الآن- قد أصبح نجما لامعا ، ومنتجا ناجحا ذكيا ، ومخرجا يعرف كيف يحرك البلاتوه بكل ما فيه من آلات وفنانين وفنيين ، وكان – أيضا – قد أصبح مريضا بالكلى، مرضا كان يزيد من عصبيته يوما بعد يوم حتى أصبحت هذه العصبية جزءا لا يتجزأ من شخصيته المرحة!
ولقد يبدو الحديث عن أنور وجدى – بعيدا عن ليلى مراد – غريبا ونحن نحكى قصة حياتها هي… لكن ذلك يبدو ضروريا، بل لازما… ذلك أن تصرفات ليلى تجاه عصبية أنور، وتصرفاتها حيال هذه الشخصية الغربية التي كانت ذات يوم واحدة من ألمع نجوم الفن في مصر ، تصرفات ليلى تجاه أنور ومع أنور وأثناء حياتها مع أنور، هى أكبر المؤشرات على الإطلاق إلى طبيعة هذه الفنانة التي تربعت في تلك الأيام على عرش السينما والأغاني الخفيفة .
ويوم خرج أنور من شقته بالإيموبيليا بعد معركته مع أحمد سالم ، وقفت ليلى وسط حطام الأشياء التى وصلت إليها يد أنور عندما انتابته تلك الثورة الجامحة ، وقفت حائرة لا تدري ماذا تفعل … كانت قد وقعت العقد مع أحمد سالم ، وتسلمت عربونا قدره ستة آلاف جنيه نقدا ، كانت قد نفذت ما أرادت دون خناق أو زعيق أو عصبية، كانت قد نفذت كل ما أرادته بالصمت والهدوء ، وحنى الرأس لكل العواصف.
ولكن…
ولكن ها هو أنور وجدى يغادر البيت لا تعرف إلى أين ، فماذا تفعل؟!
كانت ليلى دون شك تعلم علم اليقين الأسباب الخفية وراء تلك الثورة التى اجتاحت أنور، كانت تعلم أن هناك سببين رئيسيين لا سببا واحدا ، وإذا كانت “الغيرة” هى العنصر الذى يجمع السببين معا ، فإنها كانت غيرة مزدوجة ، غيرة من الشاب الأنيق المغامر الذى دخل المبارزة مع أنور وانتصر، وغيرة أنور، لأن أحمد سالم كان يبدو شديد الثقة بنفسه، شديد الثقة بأنه سوف يخرج فيلما ممتازا وناجحا .
بعد ساعات أمسكت ليلى بسماعة التليفون وطلبت أم أنور … وعلى الطرف الآخر جاءها صوت حماتها منزعجا أشد الانزعاج ، إن أنور في حالة هياج حقيقية ، إنه غاضب أشد الغضب ، ثائر ثورة عارمة ولا سبيل إطلاقا إلا أن تعتذر ليلى عن فيلم أحمد سالم ، أن ترفض العمل في هذا الفيلم .
الثابت أن ليلى كانت مصممة على أن تنال حريتها في العمل أيا كانت العقبات، ولقد كان من الأسباب التى دفعتها إلى الزواج من أنور أنه فنان سيقدر حياتها كفنانة ، ولكن… ها هو الفنان يركب رأسه ويغيب عن بيته يوما ويومين وثلاثة وأسبوعا كاملا… وبدأ الأصدقاء يتحدثون في الموضوع ، وبدأت الآراء تتناثر ذات اليمين وذات اليسار كانت ليلى تقول: “أنا مضيت العقد ، أعلم إيه؟!”… وكان أحمد سالم يقول، إذا ما فاتحه أحد في الموضوع: “أنا لا يمكن أتنازل عن حقي!”.
وبدأت المسألة تزداد تعقيدا ، إن أنور لا يزال راكبا رأسه ، مصمما على عدم العودة إلى البيت إلا إذا فسخت ليلى العقد … ولم تجد ليلى أمامها سوى أن تذهب إلى أنور بنفسها ، قررت – تحت ضغط الأصدقاء ، والصديقات ، أن تذهب إليه في بيت والدته ، لكنها ما أن دخلت البيت ، وجلست مع أمه حتى فوجئت أنه يرفض مقابلتها .
كان أنور موجودا في البيت ، كان يجلس في إحدى الغرف ، وكانت ليلى جالسة في الصالون وهو يرفض الخروج إليها … كانت أمه تنقل إليها إنه تعبان جدا ، أنه في حالة سيئة، وكانت ليلى تطلب – فقط – أن تناقشه في الأمر ، أن تطلب نصيحته، كيف تتصرف وماذا تفعل!!
وقامت الأم بدور الرسول بينهما ، كانت تسمع من ليلى فتنهض إلى أنور ، وتسمع من أنور وتعود إلى ليلى … وكان هذا كله غير مهم ، لكن المهم في الموضوع كله، أن ليلى سمعت في ذلك اليوم القريب، ولأول مرة في حياتها مع أنور وجدى، كلمة: “الطلاق”!… كان أنور قد اشتط في غضبه وأعلن ، أنه: إما الإعتذار عن تمثيل فيلم “الماضي المجهول” مع أحمد سالم ، وإما الطلاق .
وغادرت ليلى بيت حماتها وهى ترتجف ، ذهبت إلى شقيقها الأكبر مراد، وسمع مراد كل شئ منها ، ورفع سماعة التليفون وطلب أحمد سالم ، وشرح له الموقف كله ، فكان رد أحمد سالم أن حدد موعدا لليلى لكي تلتقي فيه مع محمد فوزى – الذى كان مطربا مشهورا وملحنا شديد النجاح في تلك الأيام بعد ظهوره مع يوسف وهبى في فيلم “سيف الجلاد” – لكي تحفظ منه إحدى أغاني الفيلم .
كان أحمد سالم – على الجانب الآخر – باردا ، عمليا… كان قد وقع العقد وبدأ حملة إعلانات ودعاية مخيفة في الصحف والمجلات ، بل … إن الصحف والمجلات وجدت في شخصية هذا المغامر صاحب الصولات والجولات مادة خصبة للحديث، بل إنه استطاع – بذكاء شديد – أن يدخل إحدى دور الصحف في أحداث الفيلم ، وردت له الدار الصحفية هذه الدعاية بدعاية مماثلة ، وهكذا وجد أنور وجدى نفسه أمام خصم عنيد ، وفارس لا يتراجع أبدا ، ومع تدخل الأصدقاء، وموقف ليلى المستكين المستسلم ، عاد أنور إلى البيت مع مجموعة من أصدقائه الذين جاءوا معه ليحتفلوا بعودة الحياة إلى مجاريها بين الزوجين الشابين .
كان محمد فوزى والمطرب محمد البكار – الذى هاجر بعد ذلك إلى أمريكا – من الأصدقاء الذين جاءوا بأنور إلى البيت وكان فوزى مرتبطا مع أحمد سالم بعقود لتلحين بعض أغنيات الفيلم الذى حشد له أحمد سالم عددا كبيرا من الطاقات الفنية، وكان طبيعيا للغاية أن يلتقي أنور بأحمد سالم أثناء مناقشته السيناريو مع ليلى أو أثناء بروفات أغنية من الأغنيات… وهنا، يبدو التناقض الشديد في شخصية أنور، ذلك أن كل غضبه ذاب وأصبح مجرد ذكرى أو حديث ، ووصل الأمر إلى حد أن أنور ، كان يناقش أحمد سالم في السيناريو ، بل ويقترح عليه بعض المواقف..
وعرض فيلم “الماضي المجهول”، ونجح الفيلم نجاحا شديدا ، وفكر أنور وجدى في أن ينتج فيلما يلعب بطولته أمام ليلى مراد ، و… وأحمد !!
العنيف يخلع قناه البراءة
هنا… بدأت ليلى تفكر ، إنها تبدو في تلك الفترة الغريبة من حياتها- حتى وهى تحكى أحداثها بنفسها – وكأنها متفرجة … كانت شخصية أنور طاغية، عنيفة، عاصفة… وكانت هى مشغولة بعدد هائل من الأفلام ، وعدد أكبر من العروض، ولقد أحست بسعادة خفية يوم غضب أنور وثار وغادر البيت، لأنها استشعرت في غضبه غيرة عاطفية ، لكنها يوم عرض أنور على أحمد سالم أن يلعب أمامها فيلما جديدا، توقفت لتفكر .. هل كان أنور يغار من العقود التى تنهال عليها ، أو يغار عليها هى؟!
المضحك في الموضوع،أن أنور بدأ بالفعل في وضع سيناريو الفيلم، فرسم لأحمد سالم شخصية “الفلن” الذى يحب ليلى، والذى تكرهه ليلى كراهية عمياء،ورسم لنفسه شخصية الشاب الطموح الطيب الذى تحبه ليلى وتعشقه، ورغم أن محمد عبد الوهاب كان قد دخل مع أنور وجدى شريكا في ثلاثة أفلام ، ورغم أن هذا الفيلم كان أول هذه الأفلام، فإنه فشل وقدر لعبد الوهاب أن يكون شريكا لأنور في واحد من أجمل الأفلام المصرية،وهو فيلم “غزل البنات”. ولكن… هل كانت حياة ليلى مع أنور تدور كلها حول العمل؟!
هل كانت العاطفة بينهما مرتبطة بالفن ذلك الارتباط الذى يجعل الحديث عنها وسط ركام الأحداث صعبا؟!
الواقع أن هذا – إلى حد كبير – يبدو صحيحا… ذلك أن أنور وجدى كان فنانا من قمة رأسه حتى أطراف قدميه، كان تعامله في الحب ، يبدو وكأنه تعامل فني… وكانت عواطفه تلتهب وتبرد تبعا لسير حياته الفنية، وكان – أيضا – قد رضخ للأمر الواقع تماما، وسمح لليلى أن توقع عقودا أخرى، وأن تمثل أمام محمد فوزى وحسين صدقي وغيرهما ، لكنه كان – إذا حدث وعملت في فيلم لم ينتجه هو – يظل مجنونا ثائر الأعصاب حتى تنتهى ليلى من تصوير الفيلم .
أين ليلى في وسط كل هذا الحديث الذى ينجرف بالفعل ليصبح حديثا عن أنور وجدى وكيف يمكن أن تتوارى شخصية فنانة مثلها خلف أحداث حياتها…؟
هنا يكمن سر ليلى مراد ، سر شخصيتها ، سر هذا الهدف الذى إذا ما رسمته وصلت إليه بكل السبل وبكل الطرق… وكان هدوؤها هذا سببا في أن يطلقها أنور- لأول مرة – من أجل الكمون!!!
ليس الأمر نكتة ، فعندما استيقظت ذات يوم من النوم واستعدت لمغادرة البيت لتصوير بعض المشاهد لفيلم من أفلامها ، وجدت البيت وكأنه مقبل على معركة… كان صوت أنور وجدى يتصاعد من المطبخ صارخا لاعنا، وكان صوت الأطباق والحلل يتطاير بين الحين والحين ، ووجدت ليلى محمد البكار في صالون البيت فسألته عن سر ثورة أنور، فأخبرها أنه يطبخ طبخة دمشقية من التى يحبها، وعادت ليلى تسأل عن السبب في هذه الثورة، فجاءها صوت أنور من خلفها صائحا:
-“البيت ما فيهوش كمون يا ست هانم!”.
التفتت إليه ليلى هادئة ، كانت تعلم علم اليقين أن الكمون ليس سببا للثورة، قالت:
“طب وإيه يعني يا أنور ، نبعت نشتري!”.
وصرخ أنور:
“وإيه يعني… طب… إنتي طالب يا ليلى!”.
وبهدوء شديد خرجت ليلى من بيت الزوجية إلى فندق سميراميس … لتعيش فيه، وأصبحت في ذلك اليوم مطلقة لأول مرة في حياتها… كانت ليلى قد أصبحت ليلى مراد الآن… كانت قد واجهت الحياة بسلاح ضمنت تماما أنه لن ينكسر، وإذا ما كان أنور وجدى عصبيا وغيورا فهو يحبها، يحبها حقيقة، وهذه الحقيقة يشهد بها كل الذين عاصروا أنور وجدي وعرفوه وصادقوه، ولقد كانت ليلى – دون أدنى شك- تحب أنور وجدى، لكنها كانت تختلف عنه في أنها أصبحت الآن قادرة على التحكم في عواطفها ، أصبحت قادرة على أن تعيش بالحب وبدونه ، وفي اليوم نفسه أرسل لأنور وجدى ورقة الطلاق ، وفي اليوم نفسه أرسل يستدعى إبراهيم ومنير مراد – ولقد كانا يحبانه وكان يحبهما إلى درجة كبيرة – وظل طوال الليل يتحدث عنها، عن ليلى!
ولقد عادت إليه ليلى فلم يكن من السهل أبدا أن يفترقا، كانا يبدوان وكأن حياتهما – حتى الفنية – لا يمكن أن تستمر وهما منفصلان ، عادت إليه ليلى ليعيشا في الجو نفسه، وبالأسلوب نفسه ، وكان كل يوم يمر على ليلى يزيدها شهرة وصلابة، وكان أنور يسترضيها بالسفر إلى الخارج في كل عام ، إلى أن كان عام من الأعوام ، سافر أنور وحده ، كان المرض يشتد عليه ، وكان هو في حاجة دائمة للعلاج ، سافر إلى إيطاليا ، ثم إلى باريس … وكانا قبل السفر قد تشاجرا، فسافر غاضبا، لكنه من باريس أرسل لها خطابا ملتهبا يبثها حبه، يبثها حاجته إليها، يخبرها فيه أنه مريض على شفا الموت… وصل الخطاب إلى ليلى وكانت في الإسكندرية، فركبت القطار في اليوم نفسه إلى القاهرة ، وبعد أيام قليلة كانت تركب الطائرة إلى باريس، وفي مطار أورلي كان أنور في انتظارها ، تبدو لهفته عليها مثل مرض، كان في تلك الليلة يحبها حتى أغرورقت عيناها بالدموع ، عندما التقيا حملها من فوق الأرض وراح يدور بها في المطار ، وربما لأول مرة تشعر ليلى بالحب الحقيقى يتدفق من قلب أنور ، حجز لها جناحا في الفندق ، ووضع لها برنامجا حافلا ، وليوم أو يومين انجرفت ليلى في حبها، لكن عقلها بدأ يستيقظ من جديد، كان لابد لها أن تختبر حبه حقا… ولا تدري ليلي حتى اليوم كيف حدث ما حدث ، لكنها تعلم علم اليقين، أن تلك الليلة في باريس، كانت بداية النهاية في علاقتها بأنور وجدى.
وبينما هما غارقان في الحب في تلك الليلة ، قالت له:
“على فكرة يا أنور … الأستاذ عبد الوهاب اتفق معايا على فيلم جديد حايلعبه هو!”.
وفي ثانية، في أقل من ثانية ، تبدل الحال من الجنة إلى الجحيم .. كانت ليلى مراد لا تزال تحمل لعبد الوهاب ذلك العطر القديم الذى عبق حياتها في مطلع الشباب، ولم يكن أنور وجدى أبله أو مغفلا ، ولابد أنه استشعر ذلك الميل الغامض الذى تكنه ليلى لعبد الوهاب، بل يكاد الإنسان يجزم أنه أحس هذا الأمر بوضوح.. وإذا كان أنور وجدى يغار من عملها في أفلام أخرى ، فالذى لا يشك فيه إنسان أنه – أيضا- كان يغار عليها بجنون ، فإذا ما اجتمع السببان معا فلا يلومن أحد أنور وجدى مهما فعل .
لكن ليلى لامته، أكثر من ذلك ، بدأت تفتح عينيها أكثر على حقيقة حياتها مع أنور وجدى، بل… وبدأت تتساءل عن تلك الخطابات الغامضة التي كانت تصله من روما أحيانا ومن باريس أحيانا … وإذا كان هو يغار عليها فمن حقها أن تبحث خلفه… وإذا كانت الأنثى تستطيع أن تشم رائحة امرأة أخرى على بعد مئات الأميال فإن ليلى مراد تعرف كيف تكشف الأمر برمته ، في صمت ، وبهدوء ، وصبر طويل..ولقد حدث…كما سنرى التفاصيل فى الحلقة الثالثة
ليلى تكشف وقائع الخيانة
أنور بين أحضان فتاة فرنسية فى شقة الزمالك!
ففي تلك الليلة – في باريس – قررت ليلى أن تحسم الأمر كله ، لكنها لم تعلن شيئا، ظلت صامتة حتى عادا إلى مصر ، تقبلت ثورة أنور – كالعادة – بهدوء، ثار فناقشته، هاج فراحت تجادله … لا شئ سوى هذا ، لكنها كانت تشعر أن في الجو امرأة أخرى… وظلت تبحث – دون أن يشعر أحد – حتى عرفت أنها كانت على حق، وأن أنور غارق – بالفعل – في أحضان عشيقة جاءت خلفه من باريس ، ونزلت في إحدى عمارات القاهرة الشاهقة .
كانت حياة ليلى مراد مع أنور وجدى حياة عاصفة ، وإذا قدر لأحد ذات يوم أن يكتب عن هذه الزيجة الفنية التى فرح لها الناس في مصر كثيرا ، وهللوا لها طويلا، فلسوف يكتشف – إذا استطاع أن يلم بكل التفاصيل – حقائق أغرب من الخيال… سوف يكتشف مثلا أن أنور وجدى ، ذلك النجم الذى تألق في سماء السينما المصرية لسنوات طويلة ، كان نموذجا غريبا من البشر، كان تركيبة من عشرات المتناقضات ، كان مجنونا بالمال ، لكنه لم يكن عبدا له، كان جامحا مثل ثور هائج ، وكان رقيقا مثل طفل ، كان يحب ليلى مراد لكنه كان يخونها!!
أما ليلى ، فرغم المحاولات التى بذلت في هذه القصة لإلقاء الضوء على شخصيتها، فلسوف تظل فترة طويلة مثل لغز عسير الحل… كان الكتمان الذى تعودت ليلى عليه منذ نعومة أطفارها ، وكان إحساسها بالحاجة إلى المال ، وإحساسها الموازي بالحاجة إلى الحماية ، كل هذا كان يتبلور ويتضح أشد الوضوح، في علاقتها بأنور وجدى… ولقد استطاعت ليلى – رغم الطلاق الذى تم بينهما في النهاية – أن تسير دفة الحياة مع أنور بحذق غريب ، وأن تجعل أذنا من طين وأخرى من عجين أمام الهمسات العديدة التى كانت تنفث سموم الشك في حياتها… إن أنور وجدى “مادي” لا يعرف الحب ، ولم يعرف في حياتها إلا حب المال .
ولقد كانت لعودة ليلى مع أنور من باريس قصة شهيرة ومعروفة، قصة كاد أنور يحطم فيها حياة ليلى … لكنها عندما عرفت، تصرفت بذكاء وهدوء وبرود ، وبدلا من أن تضيع هي تماما ، أضاعته وأربكته وحيرته … لم يكن مهما أن يفعل معها أنور أي شئ في الدنيا، كان المهم في الأمر كله – منذ بداية الرحلة من باريس إلى مرسيليا ثم أيام السفينة – رغم الحب البادي على أنور – قد أحست أنه وقع في غرام امرأة أخرى!
كيف عرفت ليلى؟!
هذا ما لا يمكن أن يعرفه أحد حتى ليلى نفسها، إنه إحساس الأنثي عندما يهدد حبها دخيل مجهول … عندما تتغير في الرجل أشياء بسيطة، شديدة البساطة ، لكنها تصبح رغم صغر شأنها مؤشرات توحي بأن في الأمر إمرأة أخرى…
وكانت ليلى على حق…
فعندما عادت إلى القاهرة ، بدأت تسمع الشائعات ، بدأت تلحظ الابتسامات، بدأت أذناها تلتقطان الهمسات … شائعات وابتسامات وهمسات توحى كلها بأن أنور وجدى قد وقع في الحب أثناء زيارته لأوروبا ، فتاة جميلة – شديدة الجمال – كانت القارة تتحدث عنها، وعن لقاء أنور بها في فينسيا قبل ذهابه إلى باريس، وكيف لحقت به “لوسيت”- وهذا هو اسم الفتاة – في باريس ، ثم كيف سافرت وراءه إلى القاهرة .
ظلت ليلى تكذب نفسها،ظلت تتحايل على نار الشك في قلبها أسبوعا وأسبوعين وأسابيع عدة،حتى كان يوم دعيت فيه إلى العشاء على مائدة أحد كبار الصحفيين، وكان أنور هو الآخر مدعوا لهذا العشاء … غير أن الضحكات والابتسامات والهمسات بدأت – بعد العشاء – تأخذ شكلا جعلها تكاد تقترب من الجنون، فقررت أن تحسم الأمر ، وأن تعرف الحقيقة ، أيا كانت هذه الحقيقة .
وعرفت ليلى الحقيقة.
عرفت أن الفتاة فرنسية ، وأنها جاءت خلف أنور من باريس، وأنه استأجر لها شقة في الزمالك … عرفت ليلى كل هذا ، وعرفت أكثر من ذلك عنوان العمارة التى استأجر أنور فيها شقة لحبيبته الجديدة .
كانت لليلى صديقة اسمها مارسيل هى زوجة عازف الكمان المشهور “يعقوب تاتيوس” ، ولقد دخلت مارسيل ذات يوم على ليلى فوجدتها تبكي… كانت ليلى – مع نفسها- تضعف وتتألم… كات ترقب أنور وهو يرتدي ملابسه قبل لقائه مع لوسيت في صمت، بل – وفي بعض الأحيان – كانت تنتقي له رباط العنق، ولون البدلة، وتودعه حتى الباب وتتلقى منه قبلة ، ثم… وعندما تصبح وحدها، تناهر … تبكي.
مع مارسيل… اتخذت ليلى قرارها…
قررت أن تفاجئ أنور في شقته الجديدة ، قررت أن تحسم المشكلة برمتها أن تقطع الشك باليقين.
وكان ما فعلته ليلى مشهدا من المشاهد السينمائية، لم يكن تصرفا عاقلا أن ترتدي ليلى مراد، المطربة الشهيرة الجميلة التى يعرفها أهل مصر جميعا… لم يكن تصرفا عاقلا منها أن تهبط الأيموبيليا وهى ترتدي “منديل بأوية وملاية لف”، تصحبها مارسيل، وتدخل الجراج، وتركب سيارتها البويك، وتأمر “خضر” السائق أن يأخذها إلى الزمالك .
حدث هذا في أحد أيام شهر يناير، في العاشرة مساء، والجو بارد ، وعاصف ، والمطر ينهمر ، والسيارة تخترق شوارع القاهرة ، بداخلها ليلى مراد ومارسيل، في طريقها إلى الزمالك .
عند باب العمارة وقفت السيارة، وهبط السائق ليفتح الباب لامرأة ترتدي الملاية والمنديل… وفي السيارة انتظرت مارسيل مع خضر السائق… ودلفت ليلى إلى فناء العمارة، لم يكن هناك أحد ، كان البواب قابعا في غرفته اتقاء للبرد ، ولم تكن ليلى تعرف أين يسكن أنور مع عشيقته… تقدمت من غرفة البواب ودقت الباب..
“عاوزة إيه يا ست؟!”
“والنبي يا خويا تقول لي… هو سي أنور الممثل ساكن هنا؟!”
“وعاوزه إيه منه؟!”
“أصل أنا يا خويا الغسالة الجديدة، وأنا دايخة على العمارة من ساعتين!”.
“وحد ييجي يسغل في وقت زي ده؟!”
“أنا جاية أتفق معاه على ميعاد!”.
نظر إليها البواب طويلا ، ثم أشاح وجهه عنها وهو يقول:
“الأستاذ أنور ساكن في الدور السادس!”
وإمعانا في التمثيل … تركت ليلى المصعد ، وصعدت الدرج حتى الدور السادس.. كانت ترتجف وهي تصعد، كانت تفكر فيما يمكن أن يحدث ، وماذا ستفعل إذا ما واجهت أنور مع صاحبته ، ووصلت ليلى إلى الدور السادس وقد تقطعت أنفاسها، وما كادت تمد يدها إلى زر الجرس ، حتى سمعت ضحكات أنور في الداخل مع لوسيت، وجمدت يدها ، إنهما يتحدثان بالفرنسية، وحديثهما يصل إليها واضحا أشد الوضوح ، والسلم مظلم ، والبرد شديد ، وليلى تنتفض من الانفعال والغيظ ، هل تدق الجرس ، هل تقتحم البيت، هل تتسبب في فضيحة؟!
لكنها تراجعت .
هدأت قليلا وأصوات أنور ولوسيت تصلها من الداخل… ثم بدأت تهبط الدرج مرة أخرى… في هدوء وبطء راحت تهبط الدرج ، حتى إذا وصلت إلى الشارع ، طلبت من مارسيل أن تعود إلى بيتها .. ثم تركت السائق في السيارة واتجهت إلى جراج العمارة…
كان الجراج خاليا من السياس، وكانت سيارة أنور الكاديلاك هناك … وكانت مفتوحة ، ودخلت ليلى السيارة، وجلست في المقعد الأمامى تنتظر..
كان أنور يعود إلى البيت في كل ليلة ، لم يكن يبيت في الخارج أبدا … وفي الخارج ، في الشارع، كان المطر مازال ينهمر والريح تصفر، وخلعت ليلى المنديل والملاية اللف ، وظلت تنتظره .
وحتى الثالثة صباحا ، ظلت ليلى جالسة – وبإصرار – في السيارة، وفي الثالثة وصلتها ضحكات أنور ولوسيت ، التي نزلت لتوصل أنور وهى تصحب معها كلبها الصغير… وما أن اقتربا من السيارة حتى جمد أنور في مكانه ، كانت ليلى تجلس في سيارته ، أمامه ، وكانت عشيقته بجواره .
هبطت ليلى من السيارة ، وانطلقت تتحدث مع لوسيت بالفرنسية:
“آسفة يا مدام ، أو مدموازيل ، أنا لا أعرف… لكني في نهاية الأمر زوجته!!”
كان مشهدا مروعا هذا الذى حدث في الجراج… وقف أنور مذهولا لا يعرف ماذا يقول، وراحت الفتاة تتلفت حولها يمنة ويسرة ، تنظر إلى أنور تارة وإلى ليلى تارة أخرى، وابتسمت ليلى قائلة لأنور:
“حانفضل واقفين كده ، ما تتفضلوا!!”
ثم نظرت إلى الفتاة وقالت:
“آنسة لوسيت .. هل تتفضلين بالركوب!”
وأطاعت لوسيت وجلست في المقعد الخلفي ، وركبت ليلى في المقعد الأمامى ، ودار أنور حول السيارة – دون كلمة – وجلس خلف عجلة القيادة.. لم يكن أحد منهم يعرف إلى أين، كان كل شئ يسير بلا هدف ، وعندما خرجت السيارة من الجراج، صاحت ليلى في سائق سيارتها طالبة منه أن يلحق بهم… وراحت السيارة الكاديلاك التى تضم اثنين من ألمع نجوم السينما في مصر ، وفتاة فرنسية ، وقصة عاصفة، راحت السيارة تخترق شوارع القاهرة… وفي الداخل كانت ليلى تتحدث بلا توقف ، كانت تتحدث مع لوسيت عن باريس ، وعن فينسيا ، وعن كان ، والكازينو العالمي الشهير، ثم التفتت إلى لوسيت فجأة وقالت لها:
“ارجو أن يكون جو بلادنا قد أعجبك!”
وكانت السيارة – ساعتها بالضبط – تدخل جراج الأيموبيليا ، كان أنور وجدى يبدو وكأنه منعدم تماما ، وعندما التفتت ليلى نحوه وسألته:
“تحب توصلها أنت وألا نخلي خضر يوصلها بعربيتي؟!”
دمدم أنور قائلا:
“لأ … خضر يوصلها أحسن!”.
وعندما همت لوسيت بركوب سيارة ليلى ، صافحتها ليلى بحرارة، وتمنت لها إقامة طيبة، واستدارت نحو الداخل…
والذى لا شك فيه أن أنور وجدى كان ينتظر أن تبدأ ليلى الشجار حتى ينفجر فيها، ذلك أن أنور لم يكن من هذا الصنف من الرجال الذي يضعف أمام الحقائق… غير أن ليلى كانت تعرف هذا جيدا … فلم تفتح فمها… وعندما دخلا إلى الشقة … توجهت إلى غرفة النوم وهى تقول لأنور:
“تصبح على خير!”
كانت الساعة قد بلغت الرابعة صباحا عندما دخل أنور وجدى غرفة المكتب وجلس فوق مقعد وثير وغرف في التفكير، لكن ليلى ساعتها كانت تقف مع وصيفتها وقد تناثرت محتويات الغرفة تماما … كانت – في هدوء شديد – تجمع ملابسها، وكل ما يخصها … حتى إذا انتهت من ذلك ، ذهبت إلى الفراش ونامت .
نامت ليلى ساعتين أو ثلاثا فقط ، كانت هادئة في الظاهر لكنها – دون شك- كانت تغلي غليانا وقد اتخذت قرارها النهائي ، لسوف تنفصل عن أنور ، ولسوف تطلب هى لأول مرة ، الطلاق!
في السابعة صباحاً كانت ليلى قد ارتدت ملابسها ، وجهزت حقائبها … وعندما فتحت باب غرفة المكتب كان أنور لا يزال جاليا كما هو فوق المقعد ، بملابسه ، دون نوم… وقالت :
“أنا ماشية يا أنور!”
والتفت إليها أنور زاهلاً، وعادت تقول له:
“على فكرة أنا مش زعلانة منك، بالعكس … أنا فرحانة جداً!”.
“عاوزة تقولي إيه؟!… فيه واحدة تفرح لما تضبط جوزها مع واحدة ثانية؟!”
“أصل الناس كانوا دايما يقولوا لي أني اتجوزت واحد مالوش قلب، ما يعرفشي يحب غير الفلوس ، لكن أنا كنت باقول أن لك قلب ، وطلعت أنا صح!”
“إنت فاكرة نفسك مين؟… شكسبير؟!”
“ولا شكسبير ولا حاجة ، أنا بأقول لك اللى أنا حاسة بيه… أشوف وشك بخير!”
وكان هذا هو المشهد الختامي في قصة حياة أنور وجدى وليلى مراد … وربما كان هو المشهد الختامي لقصة نجمين من نجوم السينما في مصر… فإن أنور وجدي لم يقدر له أن يعيش طويلا … فلقد اشتد عليه المرض وتزوج … أما ليلى مراد لقد تزوجت هى الأخرى… لكنها كانت قد سئمت الفن، وسئمت الإحساس بالمسئولية، كانت تتوق لأن تصبح زوجة وأما … وقد أصبحت زوجة وأما ، وعادت من جديد تحمل مسئولية العائلة .. ولقد مضى منذ ذلك اليوم الذى افترقت فيه عن أنور وجدى ذات صباح باكر في إحدى شقق عمارة الأيموبيليا قرابة عشرين عاما… لكن الغريب في الأمر ، أن القصة بقيت ، ظلت تعيش رغم الطلاق والموت ، رغم حكايات أيام كانت تدور بعيدا عن كواليس السينما … ظلت قصة ليلى مراد وأنور وجدي تذكر الناس بأيام مضت ، في أفلام لا تزال تحمل دفء قصة حب ، ومغامرة… وفي أغنيات مازال الناس رغم مرور كل هذه السنوات ، يعشقونها، ويستمعون إليها، ويطربون لها ، لقد كانت قصة حب ، تركت علامة على الطريق .