هذه المسرحية كما هي ضاحكة ساخرة سواء في أحداثها أو في حوراها كانت كذلك ضاحكة ساخرة في الظروف الشائكة التي اجتازتها حتى أتيح لها أن ترى النور على مسرح دار الأوبرا بالقاهرة لأول مرة في السادس عشر من نوفمبر سنة 1941 حيث استغرق عرضها على النظارة شهرين كاملين حتى إذا ما عاد صديق عمري وزميل جهادي نجيب الريحاني إلى مسرحه ” ريترز ” فى شارع عماد الدين عادت معه المسرحية ذاتها ليستغرق عرضها على المسرح أكثر من شهرين آخرين دون أن تنقطع عن الجماهير ليلة واحدة خلال هذه الشهور كلها وكان هذا فى حينه رقما قياسيا بالنسبة إلى مسرحية محلية تعيش هذا العمر الملحوظ في تاريخ المسرح العربي ….
ولكى أبدأ الحديث من أوله ارانى مدفوعا إلى سرد ذكريات طريفة قد يكون في إثباتها تتمة لتاريخ حياة هذه المسرحية ولا يعجب من قولي احد فان للمسرحيات عند كتابتها وممثليها تاريخ حياه كما للأفراد سواء بسواء .
كنا زميلي نجيب الريحاني وإنا نعود ذات يوم مريضا من أصدقائنا بإحدى المستشفيات في حي العباسية وقد استرعى نظرنا في الطريق لافته فوق احد المتاجر ( مستودع … الأمانة ) لصاحبه ل. ابسخرون وص. عثمان.
ولا يدرى كلانا كيف استوقفته هذه التركيبة التي أن دلت على شيء فإنما تدل على أن شئون التجارة بمعزل تماما عن فوارق الأديان وهى من هذه الناحية تلعب دورا كبيرا في توثيق أواصر الأفراد وبالتالي توثيق أواصر المجتمع .
قلت لصديقي الريحاني : ” ألا ترى أن عنوانا كهذا جدير وقد لفت أنظارنا نحن … ألن يلفت إليه أنظار الناس فيما لو أطلقنا مثله على مسرحية اجتماعية نعالج فيها ذلك الاتجاه الذي يوفق بين مختلف المعتقدات في سبيل التأخى من اجل العيش.
وعلى الفور اجابنى الريحاني ” و كم يكون أجمل وأروع إذا أضيف الى الشريكين المسلم والمسيحي شريك أخر يهودي .
ومن هنا نبتت اول ما نبتت وجعلنا نقلب سويا عشرات الأسماء حتى استقر الراى أخيرا على ( حسن ومرقص وكوهين ).
على انه حسن لدينا فيما بعد لو أننا كنا اسميناها ( حسن وحنين وكوهين ) فهذا مع دلالاته الواضحة يتميز برنين موسيقى من ناحية السمع وان كان هناك من يرون غير ذلك وينادون بالواقعية البعيدة عن الصياغة والتكلف.
وعلى اى الحالين فقد أعجبتنا التسمية إلى حد كبير فى حين لم نكن قد فكرنا بعد ولو إلى حد صغير في القصة التي يمكن ان تكون مسمى لاسمنا المختار وهكذا فعلنا تماما كما فعل من قبل زميلنا ” جحا ” يوم عثر فى الطريق على حدوة الجواد فاثأر لفرط ذكائه أو لفرط غفلته أن ينتفع بالحدوة فيشترى لها جوادا من ماله وصلب حاله.
عكفنا على العمل نفتش عن الجواد المنشود أو بمعنى أخر القصة المنتظرة وظللنا نرسم لها الخطوط ثم نعود فنمحوها ونسينا بلاهة “جحا” لنتذكر رصانة شوقي العظيم في قوله:
” كم بنينا من حصاها أربعا
ثم عدنا فمحونا الأربع ”
وكان بعد ذلك أن وفقنا في ساعة من ساعات الرضا إلى إرساء قواعد المسرحية مسلسلة فى تفكيرنا وعمدنا إلى الورق نسجلها في ست وعشرين يوما اثنان وعشرون منها للفصلين الأول والثاني وأربعة فقط من الفصل الثالث ….!!
وهنا قد يندهش البعض أو يتهمني بالمبالغة ولكن العارفين ببواطن الأمور – أمور فرقة الريحاني طبعا – يشهدون أن الفصل الثالث من مسرحيات عديدة كان يتم في خلال يومين قبل الظهور آو حتى في نفس اليوم المحدد لتمثيلها ولله في خلقه شئون، أعود فأتابع مراحل المسرحية وأقص طرفا من الملابسات المعقدة التي كادت أن تحول دون ظهورها للناس لولا مجهودات عدة بذلناها لا إنا ولا زميلي الريحاني وحدنا بل يقتضيني الواجب في إسناد الفضل إلى ذويه أن أعود فيها بعرفان الجميل إلى شخصيات بارزة طواها الموت وكان لها الكثير من الخدمات المشكورة للفن والفنانين
وتفصيل الخبر أننا كنا قد أرسلنا بالمسرحية للتصديق كما هو المعتاد من إدارة المطبوعات وفى انتظار هذا الأجراء بدأنا الدعاية للمسرحية في الصحف وفوق جدران الطرقات.
والى هنا وكان الأمر يسير سيره الطبيعي لولا أن فوجئنا بالاعتراض على المسرحية من ادراة المطبوعات خضوعا لرأى أبداه فى رسالة مكتوبة عالم ازهرى رأى من زاويته الشخصية أن إقحام ( حسن ) في عنوان مسرحية ضاحكة يتنافى مع القدسية الواجبة ( للحسن ) سبط الرسول عليه أفضل الصلاة وازكي السلام.
كان غريبا كل الغرابة أن نقف أمام منطق كهذا وفى الأخيار كما في الأشرار الوف من حسن ولم تمس تسميتهم في كثير آو قليل قدسية سبط الرسول الكريم وقد تطوع بالوساطة في الحكم بيننا وبين أدارة المطبوعات في ذلك الحين المستشار السابق الواسع الأفق المرحوم عبد السلام ذهني بك الذي أضحكته أكثر ما اضحك هان يكون المحرض على هذا الاعتراض على اسم حسن.
زالت العقبة وحسبنا نحن أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد ولم يدرى قط في خلدنا أن تحتج بدورها بطريركية مواطنينا الإخوة الأقباط الاورثوكس على اعتبار أن مرقص الرسول هو البشير بالكرازة المرقسية.
ومرة أخرى تأزم الموقف وقام بدور حمامة السلام رجل المحاماة الضليع الفذ المرحوم / توفيق دوس باشا وحسبنا أننا قد نفضنا أيدينا من المتاعب.
وهل كان لنا ان نتصور ظهور اعتراض شديد من الحاخام الاسرائيلى يبينه على أن معنى كوهين باللغة العبرية هو الكاهن الأعظم أن يمتزج اسمه بضحكات الضاحكين في مسرحية ساخرة.
وللمرة الثالثة والأخيرة تصدى لإصلاح ذات البين صديق من رجال الإعمال “موسى داسا” ولم يبقى بعد هذا فى قوس الاعتراض منزع .
حدث هذا كله والمسرحية معروضة بنصها وفصها للقراءة والإطلاع بين ايادى أطراف النزاع في الأديان الثلاثة.
لكن رغم كل الصعاب والعقبات فقد استطاعت هذه المسرحية الهادف هان تجتاح تلك العقبات بسلام وان تذللها وان تسير في طريقها المرسوم لها وان تمتع الذين شاهدوها متألقة على المسرح فى فترة قياسية بالنسبة لظروف العصر الذي عرضت فيه.
……..
الهلال 1959
اقرأ أيضًا: