لو كان الأمر بيدى لجعلت علاء خالد يكتب فى كل صحف مصر وما تبقى من مجلاتها،فمن أحق بالكتابة من كاتب وهب نفسه وحياته للكتابة!،أرأيت جنونا أكبر من أن يكون عمود حياتك وسند ظهرك فى تلك الحياة هى (الكتابة)!،منذ سنوات بعيدة نصحنى عمى خيرى شلبى بقراءة مجلة (أمكنة) التى يصدرها علاء خالد بمساعدة المصورة الفوتوغرافيه سلوى رشاد ، وكانت المجلة حدثا ثقافيا نجح شخص بمجهود ذاتى أن يصنعه ويلفت الأنظزار إلى رشاقة اللغة واختلاف الأفكار،ففى كل صفحة أنت أمام مكان يتحول إلى بشر وناس يصنعون اسمه (شلة المنيل) مثلاً ،مجموعة تعيش فى مكان اشتهرت فى الأوساط بهذا الاسم(شلة المنيل) ،علاء خالد خصص افتتاحية أحد ~أعداد مجلته عن تلك الشلة بشخوصها وحكاياتهم ولك أن تتخيل أن عاطف رضوان الكاشف،ومجدى أحمد على ،وعادل السيوى ،ومحسن ويفى وجلال الجميعى كانوا أعضاء تلك الشلة التى حاورها علاء خالد بمساعدة زوجته المصورة الفوتوغرافية سلوى رشاد التى شاركته هذا الكتاب الشجى البديع () والذى اخترت لكم منه بعض الفصول القصيرة لتعرفوا أن هذا البلد مازال فيه علاء خالد وسلوى رشاد يجمعان سويا جماليات الأمكنة بجهود ذاتية بعيداً عن التيك توك وتوك شو والوان مان شو، استمتعوا بكتابة ناعمة من كتاب ( وجوه سكندرية)لصاحب ديوان (كرسيان متقابلان،و ألم خفيف كريشة طائر يتنقل من مكان لآخر)
الإسكندرية الحزينة
نسير فقط لنغير المشهد
في الثمانينيات والتسعينيات ، كان ليل الإسكندرية فقيرا ومظلما ، تجلس مع أصدقائك على المقاهي، تتململ من طول الجلسة، لا تعرف مكانا آخر تذهب إليه. كنا أبناء جيل يبحث عن “مكان آخر”، ووسيلة ليطفو على سطح الحياة،ربما كانت جماعات المسرح، ومسرح الغرفة، وعروض المسرح التجريبي التى تأتي للإسكندرية من عام لعام ، هى التي ضخت بعض النشاط والحيوية في تلك الفترة، حفظت هذه الجماعات والعروض لحياة وسط البلد تاريخها وإرثها الثقافيين.
على فترات متباعدة سترى عرضا للباليه الكلاسيكي، أو للرقص الحديث على مسرح سيد درويش، الذى ستُغلق أبوابه بعد ذلك لسنوات طويلة . في تلك العروض، ستظهر تلك الطبقات الأرستقراطية والسلالات الباقية من الأجانب التي يلبس نساؤها الفراء. أو خلال مهرجان الإسكندرية السينمائي ، سترابط لمدة أسبوع على المقاهي المحيطة بدور العرض تذاكر برامج الأفلام المعلقة على البوابات، أو تنحشر داخل هذه الصالات المظلمة مع جمهور كان يتنشق على مشاهد لم تمر من تحت يد الرقيب.
تليفزيون الدولة، وباقي أفلام دور السينما، والحس الأخلاقي المتسرب من الستينيات، كانوا جميعا يساهمون في ضبط وتهذيب الصورة والفكرة اللتين ستعبران لعين المتفرج الأعزل. خلال هذا الأسبوع، كانت تنتعش حياة ومقاهي وسط البلد، تشعر في الجو بحالة نشوة جماعية ، أحيانا كانت المراكز الثقافية الأجنبية، والتي لا تحمل من ماضيها الثقافي الفاعل داخل المدينة سوى جمال مبانيها، وأناقة موظفيها والمترددين عليها، تشعر أن هذه المراكز أيضا قد نُسيت من حكوماتها، كانت تقيم أسابيع أفلام لمخرجيها، أصبحت منفذا استثنائيا لمشاهدة أفلام ستظل تشغل أحاديث الأصدقاء لأسابيع وربما لسنوات قادمة. كان هناك مجتمع آخر على وشك الاندثار يتعلق بقاؤه بهذه المراكز، وحفلاتها، ومآدبها التى تتكاثر عليها وجوه مكررة أصبحت جزءا من المشهد الثقافي الغارق في التطفل والسطحية.
خارج هذه المراكز، كان من النادر أن ترى أجنبيا، رجلا أو امرأة، جالسا على أحد مقاهي وسط البلد، أو سائرا في الشارع، في إحدى المرات كنت جالسا مع صديق لي على مقهى الكريستال، ورأيت على الرصيف الآخر من البحر شابا أجنبيا يحمل على ظهره حقيبة النوم، ونظرت إلى صديقي بنظرة بها حيرة وغيرة وإعجاب، تمنيت ساعتها أن أكون بدلا من هذا الشاب، أسير في بلاد الله وعلى ظهري حقيبة النوم، وفي قائمة قلبي مدن مُنتظرة.
نادي السينما في أتيلييه الإسكندرية كان له دور في بث بعض الحيوية في هذا الليل الممل، واستضافته مخرجي وممثلي القاهرة لعرض أفلامهم لأول مرة أشاهد هؤلاء النجوم عن قرب، وأشعر بأن الإسكندرية جزء من مكان آخر يمتلئ بالنجوم والأضواء وكاميرات التصوير، حتى منتصف الثمانينيات كانت أبواب الأتلييه مغلقة أمام قبول أعضاء جدد، مكتفيا أيضا بالأعضاء القدامى ، الذين يعكسون إسكندرية النصف الأول من القرن العشرين.
برغم كل هذا، كانت تلك النشاطات عبارة عن جزر منعزلة ، غير قادر على جذب أو تشكيل ملامح جيل جديد ينتظر على المقاهي وفي البيوت .
المقاهي والأصدقاء كانا المركزين الأكثر ثراء في تلك الفترة من تاريخ الإسكندرية، كنا أبناء جيل يود لو يكمل حياته بالمدينة نفسها التى نشأ فيها ، الأجيال السابقة، من الفنانين والكتاب، التى تحققت ذهبت إلى القاهرة، والبعض الآخر ممن ظل بالمدينة وأسره الحس الأمومى لها، أخذتهم الوظيفة بعيدا عن الفن والأدب. أو أخذهم صمت المدينة وليلها الفقير لبناء عزلات شخصية زاهدة ينشع فيها الإحساس بالدونية.
كنا نحاول أن نهرب من هذا المصير.
كنا ننتقل في ليلنا هذا بين مقهى الحاج صالح، ومقهى وبار الوطنية الكبرى، ومقهى الكريستال، ومقهى البوابين، ومقاهى حي الأنفوشي، وبار الشيخ علي، ومقهى عبد الكريم بجوار محطة قطار سيدي جابر، كأننا على سفر. خلال هذه المقاهي، تكونت حياة ثقافية بديلة ، مليئة بالمناقشات والاحتدامات الحية .
السير في الشوارع كان يشكل ثقافة بديلة بحد ذاته. الفرجة على الحياة ومحاولة الاقتراب منها بهدوء، فقد كانت هذه الحياة غائبة في الكتب التى نقرؤها، ونود لو تعود ، كنا نوثق لهذه الحياة بالصور، نصور، ونصور، لقطات إثر لقطات، ثم البحث تعن معامل تحميض وطبع جيدة لأفلام الأبيض والأسود . هذا السير العشوائي وهذه المشاهد، واللقطات والصورة صنعت ذاكرة بصرية للحياة التى عشناها في تلك الفترة، فترة التيه والبحث عن منفذ وطريقة وفكرة.
في إحدى المرات ، اكتشفنا، بطريق الصدفة، المقابر اليهودية الكائنة في ميدان الخرطوم. أعطينا الحارس بضعة جنيهات، وتركنا لعدة أيام نوثق لشواهد القبور والأزهار الجافة المنثورة عليها، وصور الميتين، والكلمات التى تودعهم، توالت زيارات الموت هذه ، إلى المقابر الرومانية في كوم الشقافة، واليونانية في الشاطبي، كان الموت شاهدا على تعدد طبقات المدينة، الذى لم نره بوضوح في حياتها اليومية.
كان من المهم تغيير المشهد، نسير فقط لنغير المشهد
أي جيل جديد كما يحتاج لمكان آخر، يحتاج أيضا لوسيط تتبدى فيه أفكاره، بالنسبة إلينا كان الشعر هو هذا الوسيط ، بما يختزنه في تاريخه من حس تمردي ورغبة في التغيير، وأفكار تتناسب مع طموحات هذا الجيل الجديد، كان ما يشغلنا في الشعر تلك الأفكار والرؤى التي تخص “الفرد” وقلقه، وطرق تحققه، وعلاقته بالمجتمع المحيط ، حتى الصورة الخيالية داخل الشعر، والتى كانت لها الصدارة في كتابات الأجيال السابقة أخذت تذوي وتذبل عناصر خيالها، وحل محلها “المشهد” أو “الحدث” ، أو “الحكاية” . فالكتابة اكتسبت تلك الحالة السردية؛ لأنها تُنتج وأنت سائر في الخارج وسط سياقات من الناس، أنت في النهاية جزء منهم. أصبحت الكتابة لها هذه الذاكرة البصرية. وأخذت هذا المنحى التوثيقي للحياة. بمعنى آخر، كانت هناك عودة إلى الواقع وإلى الحياة الشخصية أو السيرة الذاتية كمصدرين ملهمين للكتابة. كانت الصورة هي القاسم المشترك بين الأدب والحياة.
في تلك الفترة، كان من النادر أن تصادف معرضا للصور الفوتوغرافية . كانت وقائع الحياة اليومية في الإسكندرية غائبة داخل أي وسيط سوى في بعض الكتابات، أو في أفلام السينما القديمة أو الحديثة . معارض الفن التشكيلي، وجماعات الفن التشكيلي، كانت أيضا أحد مظاهر النشاط والحيوية في تلك الفترة، ولكنه فن لن يسعفه الوقت أو التقنية ليواكب ويعبر عن التحول الذي يحدث حوله؛ لأن داخل هذا الفن نفسه أفكارا أخرى تشغله . ربما كان يوثق لحياة الأفكار، بعد أن يصفي الواقع من تفاصيله؛ ليراه عبر مراحل معقدة ومجردة وشديدة التركيب .
في الأفلام السينمائية، كان لجغرافية الإسكندرية حضور مقيد. في فيلم “ميرامار” لكمال الشيخ و”السمان والخريف” ، واللذن تدور أحداثهما في إسكندرية الستينيات، لم تجد هذه الأفلام سوى منطقة وسط البلد ومبانيها ذات الطراز الإيطالي وشوارعها لتوثق من خلالها هذه الحقبة. أفلام البحر والمصيف والاستجمام وشهر العسل، كانت تبحث عن أيقونات أخرى مثل فندق البوريفاج، أو فندق سان إستيفانو القديم، واللذين ذاع صيتهما وأصبحا من رموز الإسكندرية حتى بعد أن تم هدمهما. ربما فيلم “الصعاليك” لدواد عبد السيد بدأ في نقل صورة أخرى للإسكندرية؛ إسكندرية الميناء والحواري ، والانفتاح، وعلاقات الطبقات الهامشية بكل ما يحدث من حولها من تغيير وتحول، كانت الإسكندرية في طريقها إلى التحول ..
أتذكر ، في منتصف الثمانينيات، مع صديقي الراحل الشاعر أسامة الدناصوري؛ كنا نجلس مع مجموعة من الشعراء الأكبر سنا، على مقهى “عم محمود” في وسط البلد. كانوا يتحدثون عن الشعر بشكل مبالغ فيه ويتخاصمون من أجله . لأول مرة أسمع اتهامات من قبيل “فلان سرق قصيدة فلان” و”فلان منتحل” ، كانوا يتحدثون في أحاديثهم العادية بلغة عربية فصيحة ، حتى هزارهم كان يأخذ طابعا شعريا محافظا. كنت أستغرب جدا هذا المجتمع ومدى تعلقه بالشعر، ومن مفردات اللغة المهجورة التي يتحدثون بها، ربما كانوا يتعشمون خيرا في هذا المستقبل الذي سيتولون فيه إمارة الشعر. لم أسمع عنهم شيئا بعد ذلك . ذكروني بفيلم “مجتمع الشعراء الموتى”، بالرغم من اختلال المسعى والنهاية، سواء في الفيلم أو الحياة. ولكن المشترك بينهما هي روح الشعر. والتي أفضت ببطل الفيلم الشاب إلى الموت؛ لأنها تحولت إلى أداة ضد السلطة الأبوية. أما هؤلاء الشعراء فروح الشعر التي تلبستهم قد نزع منها فتيل الموت والمخاطرة، وأمست روحا مستأنسة كقطط البيوت.
طريق الكورنيش
أصبح طريق الكورنيش هو طريقي المفضل ، أقطعه كل يوم على قدمي في أثناء رحلتي الليلية من محطة الرمل حيث أجلس على المقاهي، وصولا إلى حي بولكلي حيث يقع بيتي القديم. من تكرار السير اليومي تكونت خريطة جغرافية في قدمي، وتشكلت لي نفسية خاصة تتمدد على هذا الخط المتعرج الموازي لشريط البحر. كنت أقسم الطريق إلى ثلاث مراحل؛ الأولى تبدأ من محطة الرمل حتى منطقة السلسلة؛ والثانية تصل بين السلسلة وحي كليوباترا؛ والثالثة والأخيرة نهاية الرحلة الليلية. المرحلة الأولى بين محطة الرمل ونتوء السلسلة دائما ما تكون هي الأصعب لأنها تشكل البداية؛ مرحلة ازدحام الرأس بالأفكار والتوقعات ومطاردة الأحاسيس التي تتوارى في أقاصي النفس. وعلى بساطة تلك الأحاسيس، إلا أنها في غاية الأهمية، فعدم إلقاء ولو ضوءا خافتا عليها، يجعلك تشعر بأن هناك جرحا مفتوحا على الدوام لا تعرف مصدره، وأنك تشعر فقط بفراغ حزين في قلبك .
في تلك المرحلة لا أعي ما حولي جيدا، لا أرى الناس أو البحر أو العربات، كلها تتحول إلى خلفية لطاقة الاضطراب الذي يمور بداخلي، بالرغم من ازدحام هذه الوصلة بالكثير من بائعي اللب والذرة المشوية، وبائعات عقود الفل، ونصبات الشاي. حتى سور الكورنيش يكون ملغما بالأحبة والعائلات، تضيق المسافات فيما بينها، ويختلط الحب المراهق بالمشاعر العائلية المطمئنة، باللهو، بالشحاذين المتناثرين أمام هذه الصور الحياتية المستعدة للبذل والعطاء .
عند وصولي إلى منطقة السلسلة، أسترد يقظتي وحساسية قلبي تجاه الشاعر والناس. يبدأ المشهد الخارجي في الوضوح، وأشعر حينئذ بأني قد وصلت إلى البيت، بالرغم من طول الطريق المتبقي للبيت. ربما أي لحظة انسجام بين الداخل والخارج تقرب المسافات، كأن الرحلة الأساسية يجب أن تحدث داخلك أولا. أكاد أجزم بأن معيشتى بالإسكندرية وهذا السير الطويل والمتكرر بجوار هذا الشريط المائي، كان لهما دخل كبير في القبض على لحظة الانسجام تلك، بأن تكون لهذا الداخل أبعاد ونتوءات وزوايا وخطوط منحنية وأخرى مستقيمة، لها ما يماثلها في جسد المدينة . إحساسي بالمدينة يمر عبر هذا النفق النفسي، عبر شخصنة مكانية لها.
منطقة السلسلة هي أحد النتوءات المهمة في طريق الكورنيش. ذلك الجيب السري الذي تمرد على الخط المستقيم ليكون له دور مختلف في الحياة. في العصور البطلمية، كان هذا الجيب السري هو الحي الملكي، ويقال إن قبر كليوباترا كان هناك . عاش فيه ملوك وماتوا، وتحركت مواكب وتفرقت أحزان. وبجانيه أنشئ مسرح كانت تعرض فيه مسرحيات إسخيليوس ويوربيديس، إذ كانت المنطقة تشكل مجالا ثقافيا نشطا. وكان لسان السلسلة يمتد في البحر حتى يصل إلى قلعة قايتباي. ومع الزمن، انحسر اللسان وتهدم أو غمرته المياه. في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، اتخذا هذا اللسان كناد للصيد الملكي في عهد الملك فاروق . ومن قبل، كان نقطة لخفر السواحل كما أشار الكاتب البريطاني إ.م. فورستر في كتابه عن الإسكندرية . وبعد حرب 67 ، تحول إلى ثكنة عسكرية لها أبواب كبيرة وسور عال أخفى تماما هذا اللسان الممتد في البحر. ثم تحول الآن إلى مجموعة من الفيلات التى تتبع الجيش . هذا التحول والتبدل اللذان شهدهما هذا اللسان يثبتان النفوذ الخفي الذى تبثه هذه القطعة الصغيرة من الأرض على مر العصور، فكل النشاطات التي مرت به ترتبط بشكل مباشر بسلطة ما.
وسط الحديقة التي تشغل نتوء السلسلة، وضع تمثال أوربا للمثال السكندري فتحي محمود، تم إزاحة الستار عن التمثال في عقد الستينيات، في عز ازدهار الفترة الناصرية وعدائها مع الغرب. هل هو اتفاق ضمني من الفترة الناصرية بخصوصية مدينة الإسكندرية في أن تكون الباب الموارب للعلاقة مع الغرب؟ في تلك الفترة، كانت الإسكندرية خالية من التماثيل، باستثناء تمثال محمد علي باشا في ميدان المنشية، وتمثال سعد زغلول في محطة الرمل، وتمثال نوبار باشا الذي تغير مكانه عدة مرات إلى أن استقر في المخازن ، ثم أعيد وضعه أمام مسرح سيد درويش، ثلاثة أو أربعة تماثيل تغطي أحياء الإسكندرية كلها؛ لذا كل واحد منها كان منفردا بمجال من الأهمية والدلالات.
يذكر د. عبد الحميد يونس في معجم الفلكلور تلك الأسطورة التي تشخص قارة أوربا. ترى الأسطورة أن أوربا كانت تلهو مع رفيقاتها على البحر. فألهب جمالها زيوس، وكان يبدو في هيئة ثور أليف، ولقد شجعتها وداعته على أن تمتطي ظهره، فما كان منه إلا أن اتجه بها إلى البحر وشق عبابه حتى بلغ جزيرة كريت، وأنجب منها. ولقد عبدها الناس في جزيرة كريت.
في تمثال فتحي محمود لا تمتطي أوربا ظهر الثور، ولكن الاثنين نحتا في وضع متضافر الثور من أعلى وأوروبا أسفله. لحظة اشتباك، قريبة من الاشتباك الجنسي. ربما هذا البعد الجنسي، أو الخصوبة بشكل ما؛ ما جعله مزارا للعرسان. كل خميس تجد صفا من العرسان ينتظر التصوير بجانبه. يصعد العروسان على قاعدة التمثال، ثم يلتصقان بالتمثال، كأنهما يريدان أن يدخلا في الأسطورة.
لتمثال أوربا معي قصة. فكلما كنت أمر عليه كنت ألحظ به كسورا أو ترميمات تجري له. خصوصا ي منطقة الأطراف للقدمين والذراعين. وصل تدهور جسد التمثال في بعض السنوات إلى ظهور الهيكل الداخلي الحديدي له. أحيانا كانت الترميمات تجري من دون دراسة النسب القديمة للتمثال، فتنتفخ اليد أو تتورم أصابع القدم، فتحدث مفارقة ساخرة من النسب الجديد، كأن هذه الأطراف نمت وتضخمت بمعزل عن باقي الجسم. أصبح التمثال يشكل أزمة وخاصة عند بناء المكتبة في المكان المواجه له. إزالته كانت تعني غياب رمز من الصعب أن يكون له بديل بالفكرة الحساسة والشعبية نفسها. المهم بعد بناء المكتبة، صار هناك ترميم ودهان دوريان للتمثال. أحيانا تتدخل عوامل الطبيعة في صياغة رمز صغير؛ لتحمله بتناقضات تاريخ طويل. ربما يحمل التمثال رمزا لاختلال نسب علاقتنا بأوربا!
أصبحت المكتبة بعد افتتاحها عام 2003 ضمن المشاهدات اليومية عند مروري من هناك. لا أعرف السبب في ورود رواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو على مخيلتي عندما أرى شبح المكتبة من بعيد. تحكي الرواية ، في أحد مستوياتها، عن قصة مخطوط قديم مخفي عمدا داخل إحدى حجرات المكتبة في أحد الأديرة المهمة في القرون الوسطى، وهو زمن اضطراب الأفكار والهرطقات الدينية، والصراع بين الفلسفة والدين في أوروبا المسيحية. وأيضا زمن نفي “الآخر”. هذه المكتبة كانت مصممة على شكل متاهة، وبناء المتاهة يشير من طرف الروائي إلى تعقيد حالة الفكر في ذلك الوقت. ولكن وسط هذا الاضطراب ، وأي اضطراب فكري في أي زمن، هناك حقيقة كامنة بداخله، وهي هذا المخطوط المفقود. بالتأكيد هذا المخطوط له بعد رمزي في الرواية ، إخفاؤه هو إخفاء وطمس لفكرة “الآخر” ، واكتشافه هو اكتشاف لهذا الفكر. لماذا دائما الشئ المخي هو الذي يحتفظ بقيمة؟ كأن هذا الآخر دائما مخفي، وأهمية حياتنا هي استعادته لنستعيد وعينا بأنفسنا . وأن ما يجري على السطح والظاهر منه ليسا كافيين ، بل قشرة زائلة من هذا الآخر .
الرصيف من محطة الرمل إلى نتوء السلسلة كان مبلطا بأحجار البازلت الكبيرة. هو والسور الثخين للبحر الذي تبلغ ثخانته قرابة المتر. الاثنان حافظا على نضارة وبدائية المشهد القديم الذى عاشته المنطقة. خشونة السور والأرض أضافت جمالا من نوع خاص على طريق الكورنيش ، الذى أنشئ عام 1936 في عهد وزارة إسماعيل صدقي. تلك الفراغات بين كتل البازلت ، وعدم انتظام حجومها، كأنها لوحة موازييك كبيرة تترك ملمسا وتنطبع على ذاكرة قدمك عند السير عليها. حتى حبيبات الزلط التي تعرت في جسم السور تترك أثرا لا ينسى. كان من عاداتي وأنا أسير، أن امرر يدي أيضا على هذا السور الخشن. تكون الحصيلة في النهاية بعض الندوب الخفيفة . كانت تلك سنوات العذاب؛ أن يتحرش الجسم والوعي بكل ما هو خشن وصادم ويترك أثرا. تقاطع الرصيف البازلتي مع السور بالإضافة إلى أثر المياه، جميعها عمقت الإحساس بمشهد قديم، بزمن لم نطن من صناعه أو ساكنيه. كثيرا ما تنتشر تلك الجيوب السرية في أي مدينة قديمة / حديثة . جيوب تخفي بداخلها زمنا مضى، عمود إنارة ، صندوق بوستة، مقبض باب خشبي، يافطة محل، يافطة شارع وقد ازدحمت بها كلمة سابقا.. سابقا، إعلان منسي فوق إحدى العمارات. فالتغير الجذري الذي يحدث في مدينة قديمة كالإسكندرية يحول الناس إلى أركيولوجيين ، ينقبوم بأعينهم عن أثر لهذا الزمن القديم .
حكاية جمال الدولي .. عاشق ليلى علوى
في نهاية عقد الثمانينيات، انتشرت على حوائط وجدران مدينة الإسكندرية مجموعة من العبارات المكتوبة بخط جميل والممهورة بتوقيع “جمال الدولي”. كانت أغلب هذه العبارات لها هذا الجانب السياسي الساخر، بل اليائس أيضا من الأوضاع التي وصلت إليها مصر. عبارات من قبيل “متر الوطن بكام” و”مهرجان بواقي الوطن” و”جمال الدولي مرشحا لرئاسة الجمهورية”. أحيانا كان يخرج جمال الدولي عن هذا السياق الساخر ليكشف عن حبه اليائس أيضا لليلى علوي عندما يكتب “أنا بحب ليلى علوي”. تحول جمال الدولي لى شبح بالنسبة إلى كثيرين فهم لا يرون إلا آثاره على الجدران، وشكوا أن الاسم ما هو إلا قناع يتخفى تحته أشخاص عديدون؛ خوفا من العقاب أو الملاحقة. وكلما حاولت أجهزة المحافظة أن تمحو وتزيل هذه العبارات، وجدنا عبارات أخرى فوق طبقة الطلاء الجديدة وفي المكان نفسه، كأنه أيضا يلاحق تلك الأجهزة ويترصدها. كان جمال الدولي يتجول بشاعرية داخل المدينة، تخيلته يسير ثم تأتي له فكرة ، وبدلا من استخدام الورقة يكتب على الجدران قبل أن تتبخر هذه الفكرة. الكتابة على الجدران تحمل ضمنيا معنى الاحتجاج والسخط، وتدعو الآخرين أن يشهدوا معك على يأسك هذا، وكذلك على حبك. شعارات جمال الدولي كانت تتركز غالبا في الأحياء القديمة، حول مجمع الكليات ومنطقة الشاطبي وجليم وغيرها من الأحياء التي يتصور أنها جمهوره المنتظر. في تلك الأحياء، كانت هناك نسبة كبيرة من طلبة الجامعات، وأيضا يسكن فيها أعضاء الطبقة الجديدة الثرية وصاحبة السلطة، والتي يوجه لها جمال هذه العبارات، وربما هى السبب في نظره في بيع الوطن أو عرضه في مهرجان كبير للتخفيضات. ذكاء ومرارة وطرافة في التقاط هذا الحس الذي يربط بين التجارة والوطن، وتحول المواطن إلى سلعة قابلة للبيع والتداول.
في إعلان حبه لليلى علوي ومناطحته السلطة، هناك تحد بشكل ما، سواء للسلطة أو للحب. الاستحالة هي التى تجمع بين ليلى علوي والوطن، استحالة أن تحبه ليلى علوي، واستحالة أن يكون مواطنا محترما يتمتع بحب هذا الوطن. حب من طرف واحد، فكم هو يشعر بضآلته امام الاثنين. ولكن هل فكر جمال الدولي، ولو مرة، أن ليلى علوي ربما تقرأ عبارته، أو حتى تسمع عنها؛ عندها ربما تغضب أو تفرح بهذا العاشق الجوال؟ في كلتا الحالتين، ستتكون مشاعر في قلب ليلى علوي تجاهه وعنه، كراهية أو إعجابا أو سخرية، وربما هذا ما كان يبغيه من وراء كتابته هذه العبارات، أن يتم تمرير وتبادل مشاعر ما، حتى ولو من بعيد، تحت ظل هذه الشعارات والكلام المكشوف. فلحظة الكتابة على الجدران هي اللحظة التي يتكلم فيها مباشرة وجها لوجه، وأمام الناس جميعاً، مع ليلى علوي أو مع الوطن، ويمرر لهما رسالة بها بعض من مشاعره المكبوتة .
مع مرور السنوات وصولا لبدايات التسعينيات وتوالي كتابته على الجدران، أصبح جمال الدولي شخصا له حضور جماعي، ربما لا تأخذ عباراته وشعاراته مأخذ الجد، ولكن تكرارها يجعلك تنتظر جديدها. أصبح شبيها بمجنون القرية الذى يقول كل شئ من دون حساب أو خوف؛ لأنه يحتمي تحت جناح جنونه. ثم فجأة ظهرت شخصية جمال الدولي، الذى كان معروفا لدى مشجعي فريق الاتحاد في الإسكندرية. في إحدى مباريات كرة السلة، والمذاعة تليفزيونيا على الهواء، قام جمال الدولي يخلع ملابسه كاملة ونزل إلى أرض الملعب وسط الجماهير والمشاهدين الجالسين، فقدرته على أن يكشف ويعري نفسه والآخرين فاقت قدرته على الصبر والجلوس كمشجع مجهول وسط المدرجات . ربما شعر بمؤامرة تحاك حول فريق الاتحاد، وعادة ما يشعر مشجعو فرق الأقاليم بهذا الشعور لاسياسي الذى يجعلهم يكرهون النظام الذي يدعم ويقف وراء فرق العاصمة. نادي الاتحاد السكندري له باع في كراهية النظام منذ سنوات، عندما تولى رئاسته الدكتور محمود القاضي، أحد رموز المعارضة سنوات حكم السادات. وخرج من مجلس الشعب بعد أن حل الرئيس السادات المجلس نظراً إلى الحراك السياسي الذى سببته مجموعة مميزة من المعارضين، وحتى الآن لم يظهر من يضاهيهم في قوة تأثيرهم وشعبيتهم وسط الناس .
في مقهى الحاج صالح بحي كامب شيزار، شاهدت عن قرب كابتن “ريعو” أهم مشجعي نادي الاتحاد ، بعد كابتن “الوحش”، ودائما كان يوجد بصحبة مجموعة من المشجعين، يتداولون في أمور النادي وفي أدق التفاصيل التى تحجب وراء الكواليس. رابطة الصداقة التي نشأت بينهم تفوق في عمقها أي روابط أخرى. هناك انجذاب عاطفي إلى الكرة والنجيل الأخضر والنادي يفوق برنامج أي حزب سياسي، فهناك رغبة متبادلة، تجعل تشجيع فريق بعينه مثل الإدمان يجري مجرى الدم في العروق. جمال الدولي كان واحدا من هؤلاء المشجعين الذين يقودون الجماهير، ولا تظهر مواهبهم إلا وسط حشود . من قبل كان الزعماء السياسيون، بدرجاتهم، يقومون بهذا الدور الريادي، فلا تظهر مواهبهم ولا يتحققون كذوات إلا وسط الحشود.
يتراجع فريق الاتحاد في كرة السلة والذى عاش أزهى عصوره في الثمانينيات والتسعينيات، وكان متفوقا على فرق العاصمة، وبالانتكاسات المستمرة لفريق الكرة في النادي؛ ربما يئس جمال الدولي الذي كتب مرة عن الجمهور وليس عن اللاعبين “جمهور الاتحاد سيد البلد”. إنه يرد الاعتبار لجمهور فقد الأمل في الفوز ، وبرغم هذا مازال يحب فريقه .
اختفت عبارات جمال الدولي من الشوارع والجدران ، ثم عادت إلى الظهور على استحياء في السنوات القليلة الماضية، بجوار شعارات “الإسلام هو الحل”، و”الحجاب الحجاب يا أختاه” و”قاطعوا البضائع الأمريكية”، لم يعد لشعاراته تأثيرها القديم، وأبحت نادرة تبحث عنها بإبرة، ومركزة في المنطقة حول مركز حبه وهو نادي الاتحاد. مع مرور السنوات، فقدت الرغبة في تتبع أخباره، ربما ما زال هناك يلعب دورا جديدا ولكن من دون رغبة في الإعلان، كجندي مجهول يجلس وسط جموع المشجعين مناديا بالشعار التقليدي لجماهير الاتحاد: “الانتحاد.. الانتحاد”..
اقرأ أيضًا:
شباب امرأة ..جزء من تجربتى العاطفية فى باريس!
مذكرات محمد ابو الغار..عن جدى .. وعمتى سعاد