أصدر عزمى عبد الوهاب دواوين كثيرة بعد حارس الفنار،لكننى من وقتها لا آراه إلا حارسا عجوزاً للفنار،ولا أناديه إلا بهذا الاسم ،ولم تدهشنى تجاربه التالية قدرما خطفنى حارس الفنار،لست خبيراً بفنون الشعر ومداخله ،لكننى قرأت هذا الديوان وقتها، فانتابتنى تلك الرغبة المجنونة فى الكتابة عن الشعر!،وهى رغبة لا تقل خطورة عن قيادة الشيخ حسنى للموتوسيكل فى الكيت كات!،وقلت لاكتب عن ذلك العاشق العجوز الذى تعاطفت معه ،نعم لأكتب عنه،كى يخرج لى بعيدا عن الديوان ويصبح صديقى، فهو يشبهنى ويشبه جيلا كاملا(..وكان آباؤنا يروننا جميعا /عيالاً خائبين/افسدتهم الكتب)
،نعم،جيلنا البائس العظيم المولود فى العصر الرمادى،فلا نحن عبرنا فى أكتوبر1973 ولا انكسرنا فى يونيو1967،لكننا تحملنا وزر الجميع وخطاياهم!،الذين هزمونا ..اطعمونا شعارات أكلناها عن طيب خاطر وبعبط شديد، والذين عبروا استكثروا علينا الفرحة فورثنا عنهم فرحة مذبوحة بتصالح مهزوم .. لا نحن هؤلاء ولا هؤلاء .. نحن ضحاياهم على أية كل حال!،تحولنّا إلى حراس نحمى هزائم وانتصارات غيرنا حتى أصابنا العجز قبل أن يغزو الشعر الأبيض مفارقنا.
ومع ذلك .. فكم نحن عظماء .. كما يقول لك العجوز الذى يحرس الفنار فى معظم القصائد، نعم عظماء،فقد حولناهم فى نهاية الأمر إلى مادة خام لإبداعاتنا لننتصر لانفسنا بالكتابة.
وفى الديوان قصيدتان ـ تحتاج كل واحدة منهما مقالاً مطولاً ـ رأيت الحارس العجوز بطلا فيهما ،وأقول رأيت أو تراءى لى فأنا جاهل بالشعر.
فى القصيدة الاولى وعنوانها “ثرثرة عن حفل زفاف لا تعنى أحداً سواهما”رأيتنى أو رأيت الحارس العجوز عاشقاً انهكته دروب الهزائم والانتصارات سابقة الذكر،عاشق تسكنه الخبرة والحكمة وعلمته الليالى الطويلة فن تسكين الآلام ـ وهو فن لو تعلمون عظيم ـ فى قوة واحتمال أسطورى،وقف هذا العاشق يشيع محبوبته الى عُرسها،إلى حفل زفافها، عاشق يلقن معشوقته أخر درس فى الحياة بعد أن تعلمت على يديه فنون اللوعة والعشق والمتعة ،تذوق العاشق المتمرس طعم أنوثة فتاة صغيرة تتقافز مثل فراشة بريئة ،وتشتعل كإمرأة متمرسة أذا أطفئت الأنوار، فأصبحت قطته المدللة ،وفجاة وجدها ذات مساء ترتدى فستان زفافها لعاشق أخر سيكون زوجاً مغفلاً ،وستكون هى “كذابة” كبيرة كلما أقنعته بأنه “رجلها وفارسها ” .
لوحة للفنان سمير رافع
ارتدى الحارس العجوز عباءة الحكمة وبدا قويا غير عابىء برحيلها ،لكننى رأيته يتمزق كلما تخيل وحدته بعدها ،فمن الواضح إنها لم تكن مجرد عشيقة ،بل حياة مكتملة ، فوقف يشيعها ويرثى أيامه المقبلة :
انتهينا الآن /تعثرى فى فستانك الأبيض الطويل/كامرأة تدخل المكان الغلط/ لا تبكى .. كأن البكاء علامة فرح/وإذا تذكرت شقةً دخلناها معا /حاولى اقناعه بانك خائفة جداً /إلى أن تخرج من رأسك أفكار تعرفينها/وملابس سقطت قطعة قطعة على الارض/ووسائد أغمضت عينيك عليها من تعب اللذة … منذ عامين /بعثتْ قطة بموائها إلى هاتف رجل عجوز/كان يتدثر بشتائه متكئاً على عزلته /اشارت إلى شعرها القصير /وقالت:ساظل بجابنك إلى أن يصل الشعر إلى ردفىَ /فاهنأ بفاكهتى وسريعا أعادته إلى شتائه الموحل /لأنها لا تريد أن تكون خائنة!!ما جدوى هذا الآن ؟ /نحن انتهينا /والذاكرة التى ربيتها على النسيان /لا تجيد الالتفات إلى الوراء /ستكونين زوجة صالحة بالتأكيد/لأنك قادرة على كشط عامين من الحب والجنس.
إنها واحدة من أروع القصائد التى قرأتها فى حياتى .. وليتنى كنت ناقداً حقيقياً لأكتب عن جمالياتها .. ولكن ها أنا كتبت نصفها على الأقل ربما تشعرون معى بمرارة هذا العاشق الذى عاش الأسطورة كأنها لا تنتهى ولا يصدق أن نهاية قد جاءت .
الحارس يتجول فى قصائد الديوان ،لكنه يتجلى أيضا فى القصيدة الثانية “شيوعيون كنا “.. يكفى ان نقرأ منها مقطعا لنعرف كم كانوا بلهاء وهم يصدقون .. وكم كنا طيبين ونحن نصفق :
كنا طلابا فى المدارس والجامعات/وشيوعيون أيضاً/نهزأ بأصدقائنا/الذين ينتظرون نبياً /يأتى من زمن الستينات/وكان آباؤنا يروننا جميعا /عيالاً خائبين/افسدتهم الكتب/غداً يصير بإمكان الواحد منا /أن يشترى قميصاً/يشترى حرية /غادرنا ديارنا/إلى بيوت كثيرة/… انتظرنا .. يا ما انتظرنا /لا الثورة جاءت /ولا اشترينا قميصاً/لكن شيئاً غامضاً /يطل من عيوننا /كأنه العدم /كأنه الموت.
اقرأ أيضًا:
كل هذه الكتب الجميلة .. تطاردنى !
ميرفانا ماهر تكشف شبكات المال وكواليس الفساد