فى السنة الثانية 1956 أخرجت فيلم شباب امرأة، إنه جزء من تاريخى العاطفى قبل الفنى،فقد استغلت امراة ناضجة أكبر منى مرتين شبابى عندما كنت فى باريس،وكنت أشعر بالسعادة والخوف معا،بالمتعة والعذاب،بالحاجة إلى الطعام والقلق على الصحة،جعلتنى أشعر بسطوة المرأة المُجربة وبأساليبها فى اصطياد ضحاياها،وكيف تجعله يشعر بالإهانة والفقر ويسقط فى بحر عسلها مستسلما للاغتصاب الجنسى .
من هذه الصفحة (214) بدأت قراء مذكرات صلاح أبو سيف ،ولم أكن مطمئنا لمصداقيتها لظهورها المتأخر (2020) حتى وإن كان الأستاذ عادل حمودة هو صاحبها،لكننى قلتُ أجرب .. ربما،وعندما قرأت المعلومة وصياغتها المدهشة بالطبع ،بدأت المذكرات من أولها مع استبعاد تام للمقدمة التى كتبها طارق الشناوى الذى أنا حانق عليه، بسبب تناقض كلامه عن فيلم أولاد رزق.
وبدأت قراءة المذكرات من صفحة 23 التى يكتب فيها عادل حمودة توضيحا بشأن هذه المذكرات التى سجلها على شرائط كاسيت مع المخرج الكبير فى بداية التسعينات لكنه لم يستكمل التسجيل بسبب وعكات المرض التى بدأت تداهم المخرج الكبير،ويقول عادل حمودة أن التسجيلات فُقدت منه فى زحام الحياة وأنه عثر عليها وعرضها على محمد صلاح أبو سيف قبل نشرها .
وفى المقدمة يستعرض حمودة حياة صلاح أبوسيف الذى عاش بحى عابدين،ثم يستعرض كيف تعرف عليه فى مقهى (لاباس)بصحبة عادل إمام وأحمد زكى ورؤوف عياد،ويقول أن صلاح عرض عليه كتابة مذكراته وأنه الأصلح لتسجيلها!،وفوجى عادل بالعرض فهناك عشرات من نقاد الفن وهو متخصص فى السياسة،لكنه فكر فى الأمر،فصلاح أبوسي ليس مجرد مخرج،لكنه حياة كاملة من الكفاح والوطنية والأفكار التى سعى من خلالها لتغيير السياسة قبل المجتمع،ثم يعدد عادل حمودة الأسباب التى تدفعه لكتابة مذكرات هذا الرجل،فيجدها كثيرة ومتعددة،فصلاح أبوسيف كان اول من اقنع نجيب محفوظ بكتابة السيناريو مما دعم تيار الواقعية ،وهو أول من فكر فى نقابة للسينمائئين ،وأول طالب بمعهد السينما،وأول مخرج مصرى يصدر عنه كتاب بعنوان (فنان الشعب)عام 1968 للناقد الكبير سعد الدين توفيق،فاز أكثر من غيره بجوائز الدولة ،وهوالمخرج الوحيد الذى عرضت أفلامه بجميع مهرجانات السينما الدولية،وأول من قدم صورة ابن البلد وبنت البلد،والحارة ،وإن كان صلاح أبوسيف تحدث كثيراً وسجل حوارات أكثر،لكنه مع عادل حمودة كان يتحدث بأريحية كأنما يترك هنا بين هذا الكاتب الكبير كل ما يملك من ذكريات وحكايات وصراعات ومعارك،يحكى صلاح أبوسيف عن كل ذلك،ويحكى عن حياته الشخصية أيضا، يسخر من الواقع والأيام بطريقته السينمائية حين يتحدث عن ابنه (اشرف) الذى كان يسأله: أنت بتشتغل إيه يابابا؟ هو ليس مجرد سؤال من طفل فى الخامسة،لكنه مسألة وجودية لكل الذين يعملون فى مهنة الإخراج أو وراء الكاميرا بشكل عام، يقول صلاح أبوسيف لعادل حمودة:
كنت أعمل في فيلم “شباب امرأة” عندما سألني ابني الأكبر أشرف : أنت بتشتغل إيه يا بابا؟
وكان يراني أعود إلى البيت كل يوم مجهداً وأدخل مباشرة إلى الفراش دون أن أنطق بكلمة ، وتدخل أمه تمنعه هو وأخواته من إزعاجي ، وتؤكد لهم أنني مرهق وفي حاجة إلى الراحة .
وفي ذلك اليوم سألني أشرف ، وكان عمره نحو خمس سنوات عن عملي، فتعجبت من السؤال ولكني أجبته :
– بشتغل مُخرج .
– يعني إيه مُخرج ؟
– المُخرج هو الذي يصنع أفلام السينما .
– لكن لا نراك على الشاشة ، ثم إنه لا أحد من زملائي في المدرسة والده مُخرج ، آباء زملائي محام وقاض ومهندس ووزير ، لكن مافيش مخرج!
– قل لهم بابا بيشتغل في السينما .
– أي سينما…؟
– سينما مترو .. أسمع ، تعال معي إلى الاستوديو لترى بنفسك عملي…
وأخذته معي بعدما لقنته أمه كل نصائح الأدب والطاعة ، وفي الاستديو سعد بركوب الكاميرا ، ووقت الغداء دعوه إلى الطعام فاعتذر بأدب حسب نصيحة أمه، ولكنه فوجئ بتحية كاريوكا تخطف الأكل من أحد العاملين في الفيلم وهو أنطوان برزوس مهندس الديكور ، فقام غاضباً وقال لي: “ماما قالت خليك مؤدب ساعة الأكل والناس دي مش مؤدبة”!
وعدت إلى البيت مرهقاً كالعادة ، وعندما طلبت زوجتي من الأولاد أن يتركوني أستريح قال أشرف بحدة :
– والله العظيم يا ماما كل الناس في الاستديو بتشتغل إلا بابا ، قاعد على الكرسي لا يفعل أي شئ!
وما قاله الصغير سمعته فيما بعد من أشخاص أصبحوا مخرجين ، وقالوا:
– هو المخرج بيعمل إيه يعني؟!
وهذه العبارة فتحت الباب لكل من هب ودب أن يعمل في الإخراج …. وهذه قصة أخرى .
ولا يترك صلاح أبوسيف السؤال الوجودى من غير إجابات،فهو يقول إن الجوائز التي يحصل عليها المخرج هي التى توضح الفروق بين مخرج وآخر.
شباب امرأة الذى قال أشرف إن والده لم يفعل شيئاً فيه!،حصد أكبر عدد من الجوائز لفيلم سينمائى آنذاك ،حصل صلاح أيبو سيف على جائزة أحسن مخرج ،وحصلت تحية كاريوكا على جائزة أحسن ممثلة،وحصل شكري سرحان على جائزة أحسن ممثل،ولم يحصل المنتج رمسيس نجيب على جائز أحسن فيلم.
فتحت هذه الجائزة عالماً أوسع من الحارة لدى صلاح أبوسيف بتشجيع من رمسيس نجيب ،ودخل صلاح عالم إحسان عبد القدوس … فقدم “لا أنام”.
وهكذا ..تجولت مع رشاقة الأستاذ عادل حمودة فى حديقة الذكريات المدهشة التى تحدث فيها عن علاقته بشادى عبد السلام وحكايات عن فيلم الفتوة لم اسمعها من قبل ، أقول أننى تجولت وقرأت واخترت مقاطع وفقرات بعينها لنشرها فى فودكا،وأغلقت المذكرات،لكن ضميرى لم يسترح لهذه السذاجة فى التفكير فالحب والعواطف عموما لا علاقة لها بالموهبة،حتى أقنعت نفسى بقراءة مقدمة طارق الشناوى، وكانت ممتعة فى حقيقة الأمر،فقد تحدث بأريحية تامة عن أستاذه عادل حمودة وكيف صنع منه ناقداً سينمائيا،حين طالب بشكل صريح بأن يكون لروزا اليوسف ناقدها السينمائى مثلما لباقى المؤسسات نقادها،ووقع اختيار عادل على طارق الذى صنع حالة سينمائية جديدة بين النقاد تثير الجدل وتأخذ من مدرسة روزا اليوسف هذا الميل إلى المشاغبة،واعتذرت بينى وبين نفسى للكتابة وللموهبة حتى وإن عكّ صاحبها برأى هنا وتلطيشة هناك .
ويمكن لقارىء فودكا أن يقرأ بعض فصول تلك المذكرات البديعة التى صدرت عن دار ريشة.