أنا من انصار ” البلاجات ” التى ألتقى فيها بالناس ، لست من ؟أنصار العزلة فى المنتزه ، و الأنزواء فى المعمورة ، و الفرار إلى العجمى ، و الاختفاء فى هانوفيل ، فإن قضاء الصيف بين الناس و حكايات الشاطىء و انفعالات لهيب الصيف متعة أخرى لا تقل فى امتاعها عن هواء البحر و دعابة الموج ، و لهذا فإننى على وفائى و ولائى لشاطىء ” ميامى ” الذى بدأت عشرتى له منذ أكثر منذ عشر سنين ..
أنا صديقة للأسر على شاطىء ميامى ، و لأنها – أى الأسر – بنسائها و رجالها يروننى معهم كل عام ، فإننى لا أثير عندهم فضولا ، و لا أحاط بالمظاهرات إلا إذا كنت غائبة لمدة طويلة عنهم ، و أنخرط فيهم و أحيا حياتهم و استمتع بالصيف استمتاعهم .
و من أعوام شاهدت قصة على البلاج ! عجوز لا يكاد يطلع عليه الصبح حتى أراه فى بنطلون و قميص ، و على صدره وردة و فى يده ” منشة ” يروح و يجىء فى مسافة طولها كيلو متر ، تتوسطها كابينتى ، و لا يكاد يصل إلى موضعى حتى ينظر إلىً نظرات ساهمة ، وكأنه عاشق جافاه النوم و حالفه السهاد ، و يظل هكذا ساعة ، و لا يكاد يرى بعض الصبية يقفون عند كابينتى حتى يقف بينهم ، و ” الصب تفضحه عيونه ” فإن نظراته تقول كل شىء !
و أشفقت عليه … كنت أريد أن أحدثه و أقول له إن الذى يفكر فيه عبث ، فإننى طلقت الحب إلى الأبد ، و أن ما يفكر فيه هو إعجاب بممثلة يحبها من أدوارها ، و أن خير علاج له أن يبتعد عن الشاطىء ، و لكنى ترددت … ثم عدلت ، فقد خشيت أن يفتح حديثى معه أمالاً جديدة له و جاءت من غيرى !
تنبهت له فتيات ميامى ، و فتيات ميامى لا تفوتهن شاردة و لا واردة ، و كان موضع تريقتهن ، يستوقفنه و يخاطبنه و يخطفن وردته و يسرقن منشته و هو صابر !
و لما زادت التريقة اختفى الرجل !
و عدت إلى القاهرة لأجد خطابا غراميا ملتهبا من العجوز الذى فشل فى حبه ، فكتب خطابه و طواه على ” وردة الحب الصافى ” تذكار بلاج ميامى ! و لله فى خلقه شئون !
و مرة أخرى على البلاج استوقفتنى مجموعة من الفتيات ، منهم فتاة فى السادسة عشرة ، وقفت صامتة بينما انهالت الباقيات علىً بالأسئلة ، حتى أن صمتها استوقف نظرى فرمقتها بنظرة إعجاب فقد كانت جميلة … و لم تكن ثرثارة
و لكن الفتيات ما كدن يبتعدن عنى حتى تقدمت هى منى و سألتنى :
- تفتكرى أحسن سن للجواز كام سنة ؟
و نظرت إلى عودها الناضج و قلت :
- زمان كانت البنت تتجوز و سنها تلتاشر سنة ، أربعتاشر سنة ، ستاشر سنة ، دلوقت الدنيا اتغيرت ، القانون يحتم أن السن ما تقلش عن 16 ، و ظروف حياتنا تحتم أن السن ما يقلش عن عشرين .
فشهقت و هى تقول :
- ياه … عشرين سنة …
- يعنى تستنى اربع سنين كمان ، تتعلمى الدنيا ، و تفهمى ، و تدرسى الناس ، و تعرفى إزاى تصدرى أحكام عليهم ، عقلك يشتغل مع قلبك ، لأننا لما نسيب قلوبنا تحكم على مواقفنا ، و على حبنا ، بنتغاضى عن حاجات كتير كان لازم نفتح لها عنينا .
يعنى سن عشرين هى السن المناسبة للجواز !
- رأيى كده …
أمال لما انتى بتتكلمى بالعقل ده كله … فشلت ليه فى جوازك ؟
فقلت لها و قد أغاظنى حديثها
- قسمتى كده .!
و مضى عام و عدنا إلى البلاج ، و كنت أستطيع أن أنسى أى وجه إلا وجهها ، و لكنى ما أن رأيتها حتى وجدتها ذابلة ، زائغة النظرات ، شاردة ، و لم تندفع مع الفتيات لتلف معهن حولى ، و لا كلفت نفسها بإلقاء التحية الواجبة بين اثنتين تبادلتا المعرفة و الحديث ، و أحزننى أنها فى ذاك الانطواء و الوجوم ، و حسبت أن كارثة نزلت بها ، و مرة اتجهت إليها لأحدثها ، فضاعت بين الناس ، لست أدرى إن كانت تعمدت ذلك أو لم تتعمده ، إنما الذى أدريه أنها اختفت و كأنها فص ملح و ذاب !
و كنت متشوقة لأن أعرف بقية القصة .. قصتها التى عرفت أول سطورها من سؤالها العجيب فى العام الماضى .!
مرة وجدتها فى كابينة أسرة صديقة ، و صافحتها مع من صافحت ، و جلست أدبر وسيلة للانقضاض عليها بالأسئلة ، و لكنها كانت أسرع من الخطة التى رسمتها ، فإنها نظرت إلى ساعتها و تذرعت بموعد .. و قامت !
و سمعت من زميلاتها قصتها كاملة ”
كانت الفتاة قد عشقت على البلاج فتى فى الجامعة ، و ذهب إلى أمها تسر لها الخبر ، فعارضت أمها أشد المعارضة لأن البنت صغيرة ، و لأن الفتى غير معروف الأهل و الأصل ، أغلب الظن أنه من الأقاليم ، جاء إلى الأسكندرية طالبا للعلم ، و كان يذهب إلى البلاج زائرا لاصدقائه ، و وقعت فى الحب ، وقعت بكل جوارحها و خلجات قلبها ، بكل قوة الحب الأول ، فلما اعترضت الأسرة تظاهرت الفتا’ بالأمتثال ، و عندما شرعت الأسرة فى الرحيل بحثت عن الفتاة فلم تجدها !
و البوليس لم يجدها .. و البحث الطويل اليائس لم يجدها ! إنما بعد ستة أشهر وجدوها تطرق باب بيتهم فى القاهرة !
إن ما حدث بينها و بين الفتى أمر لا يعلمه أحد ، إنه سرها الذى تطوى عليه سرها و يسلمها للشرود و الزيغ و الوجوم ، و أهلها لم يفاتحوها فى شىء ، فرت مرة فهل من العسير عليها أن تفر ثانية إذا اثقلوا عليها ، كل ما قدمت إليهم ورقة طلاق لتثبت أن ما كان بينها و بين الفتى أمر حلال و وضع مشروع!
و ها هى عادت إلى البلاج بأحزان و ذكريات و فشل !
ألا ليتها سمعت نصيحتى ..
تلك هى قصة الحب التى عشت فيها ، قصة تركت فى نفسى أكبر الأثر عندما مثلتها أمام إسماعيل يس فى فيلم ” اللص الشريف ”
منذ أعوام عديدة ، كنت أعيش مع أسرتى فى حى من الأحيائ الشعبية ، فى بيت صغير متواضع ، و كان أهل الحى لا يعرفون النفاق و لا الخداع ، ظاهرهم طيب ، و باطنهم أكثر طيبة ، وحياتهم بنيت على الخير و حفظ حقوق الجار و رعايته و عدم التدخل فى شئونه إلا بما تمليه واجبات الجيرة الطيبة ، و لم يكن للحب و الغرام مكان فى مثل هذا المجتمع المسالم الذى يعيش على التقاليد ..
و كان يعيش فى الحى شاب خفيف الدم ، حرمته الطبيعة من كل ما يزدان به الشباب العصريون من وسامة و جمال ، و لكنها لم تحرمه من وفاء متأصل فى نفسه ، وسمو فى روحه ، وخفة كبيرة فى دمه تغطى على الكثير من دمامته ، و كان الشاب سباقاً إلى المجاملة ، سباقاً إلى التطوع بإحياء حفلات الزفاف الكثيرة التى لا تنقطع من ليالى الحى ، وكان يتفوق بطبيعته الفنانة ، و يدخل السرور على القلوب بمرحه و فكاهاته .
و كنت كلما شاهدته فى حفل من هذة الحفلات أحسست أننى أعجب به و أن شيئا ما يترسب فى قلبى و نفسى حياله ، و فى إحدى حفلات الزفاف هذة ، ألح علىً أهل العروس أن أغنى ، فقد كنت صديقة لها ، ولم أجد بداً من الغناء ، إرضاءً لأهل العروس و مجاملة منى لها ، و عندما غنيت كان الشاب و اسمه إسماعيل ، أكثر الموجودين إعجابا بى ، و أشدهم حماسا و تصفيقاً لى بعد أن انتهت من الغناء ، و حاول المدعوون أن يستزيدونى و أن يجعلونى أعاود الغناء مرة أخرى ، إلا أننى هربت من فوق مسرح السرادق عندما وجدت فى نظرات إسماعيل ما يدل على أنه لا يوافق على أن أغنى ثانية .
و فى تلك الليلة لم أر النوم ، كنت أفكر فى أسماعيل ، كنت سعيدة جدا عندما أفكر فى أن أسماعيل لن يكون مطمع فتاة أخرى فى الحى ، و أن حبنا سيكون هادئا بعيدا عن العواصف و الأنواء ، خاصة و أن دمامته لن تترك للغيرة مكانا تنفذ منه إلى قلبى ، و بدأنا نلتقى خلسة فى غفلة من أهل الحى ، ونتبادل أحاديث الهوى و الغرام فى رقة شاعرية ، وكنت أزداد حبا لإسماعيل الذى اكتشفت يوما بعد يوم ، أن دمامته تخفى قلبا رقيقاً حانياً ، كله حب و وفاء و شاعرية .
و ذات يوم خلونا أنا و هو على سطح بيتنا فى جلسة عاطفية ، و رحنا نتبادل أحاديث الهوى ، و فوجئت به يعاتبنى على ما أشيع عن خطبتى لتوفيق ابن الجيران ” الأبله المتلاف ” ، كان توفيق هذا شابا جاهلا ، غبيا ، يعيش عالة على ثراء والديه ، أفسده تدليلهما له ، و خطر لى أن أداعبه فقلت له إن ما سمعه فى الحى ليس شائعة و لكنه حقيقة لا تلبث أن تكشف عن نفسها .
و غضب إسماعيل و ثار ، فغنيت له أغنية رقيقة استحلفته فيها بحبنا ألا يصدق هذة الشائعات ، و جددت فيها حبى له قائلة : ألا حياة لى بدونه و لا طعم لحياتى مع غيره ، وتلاقت عيوننا و اتصلت نفسانا بالهيام و النجوى ، و تقاربت شفاهنا و كدنا نغيب فى قبلة حارة طويلة لولا أن فوجئنا بظهور والدى الذى صرخ فينا غاضبا ، و همً أن يعتدى على إسماعيل بالضرب .
و وقف إسماعيل بشهامة يعلن حبه لى و يبدى رغبته فى الزواج منى ، على أن والدى لم يقبل منه هذا الكلام و جرنى وراءه جراً ، و لم يلبث أن قرر زواجى من ابن الجيران الجاهل الأبله توفيق ، و تمسكت بحقى فى أن أرفض الزواج من شاب جاهل ، أبله ، لا أحبه و لا أطيق رؤياه ، و رفضت فى عزم و تصميم ، ورأى والدى ألا فائدة فى الإلحاح ، فقرر أن يبعدنى عن الحى حتى أنسى غرامى بإسماعيل ، أرسل بى عند عائلة من أقاربنا و أمرهم أن يضربوا حولى حصاراً محكماً حتى لا ينفذ إلىً أحد أو أنفذ أنا إلى أحد ، كان سجنا لى أقام والدى أسواره بإحكام .
و لكن إسماعيل كان يحبنى حباً ملك عليه حياته ، فقرر أن يبحث عنى فى كل مكان ، وعزم على أن يهتدى إلى مكانى مهما تجشم من صعاب ، و لكن سوء حظه لم يلبث أن أوقعه فى كارثة ، كان يبحث عنى فى أحياء شعبية بعيدة عن العمران ، وقادته قدماه إلى وكر لعصابة من العصابات الدموية ، أعتقد أفرادها أنه رئيسهم لشدة الشبه بينهما ، و كان رئيس العصابة قد خان أفرادها و سرق الأموال التى غنموها من سلسلة من السرقات و هرب بها وحده ، و عبثاً حاول إسماعيل أن يقنع أفراد العصابة بأنه ليس رئيسهم ، و لكنهم ساموه العذاب الشديد ، وكنت أنا الأخرى أعانى عذاب السجن الذى أودعنى إياه والدى رغماً عنى ، و كان أشد ألوان العذاب الذى ألاقيه هو حرمانى من رؤية حبيب قلبى إسماعيل .
و ذات يوم عاد أحد أفراد العصابة إلى الوكر بنبأ اهتزت له جنبات وكر العصابة ، كان هذا الفرد قد التقى بزعيم العصابة المختفى الذى ظهر فجأة ، و اجتمع أفراد العصابة حول حبيبى آسفين على ما سببوه له من عذاب ، و أخذوه معصوب العينين إلى خارج وكرهم ثم تركوه .
و كنت أنا الأخرى قد صممت على الهرب من السجن الذى فرضه علىً والدى ، و عندما هربت بعد أن لاقيت الكثير من الصعاب و المتاعب التقيت بحبيبى إسماعيل بعد أن تركته العصابة بعيداً عن وكرها ، و كان لقاءً حاراً أشبعنا فيه شوقنا و لهفتنا و قررنا ، و دموع الفرح تملأ عيوننا ، أن نتزوج .
مجلة الكواكب – 29/9/1959
اقرأ أيضًا:
قصة زواج ليلى مراد من أنور وجدى