أتعرف يا أبى ماذا حدث لى؟، أتعرف أين أنا الآن؟.
سؤال وأكثر من سؤال بالمعنى ذاته،يتكرر همساً أو صراخاً فى بال الابن أو الابنة كلما تعرض لموقف أو وقعتْ البنت فى أزمة ،وسواء كان “بابا” معنا فى هذه الدنيا أو بعيداً فى العالم الآخر، فإن النداء والتذلل والرجاء والحنين لحضور الأب يجرف سيلاً من الدموع ، دموع الفقد ودموع العتاب ودموع الحسرة ربما .
وأنا وأنت وغيرنا ملايين يعرفون هذا المعنى، لكن الكاتب ليس دوره تحديد دور”الأب” فى حياتنا أو نتع الخطب العصماء عن ” الأب” وفضائله وفيض الحكمة والأمان وغير ذلك ،الكاتب يفتح النوافذ على تجارب عاشها فيلسوف أو سردتها روائية أوحكى عنها أدباء ومفكرين،وتجسد تلك النوافذ اختلاف معنى ” الأب “وقيمته ومفهوم الأبوة هنا وهناك .
والكاتب المصرى الأرمنى الموهوب “توماس جورجسيان” واحد من هؤلاء،يكتب للبهجة والمتعة ويعيد تأمل العلاقات بحثاً عما يبهج الروح ويزيد الوعى ويضيف إلى الخيال،ومنذ عرفت الطريق إلى كتابته وأنا أبحث عنها،وكتابه الصغير “الطيور على أشكالها تطير” الصادر عن دار العين،هدية لطيفة وأنيقة لمن أراد نزهة راقية بين الكتب والأفلام ومعارض الفن التشكيلى ،وحكايات الروايات والقصص،نزهة بين عالم نجيب محفوظ وكونديرا وماركيز، وتونى موريسون، وأليف شافاق، وأنيس منصور، وفؤاد زكريا” وعشرات يضيئون بين السطور .
“عن أبى أتحدث” مقال من الكتاب وهو بالنسبة لى الأروع والأكثر تعبيراً عن عالم توماس جورجسيان خفيف الظل والروح واسع المعرفة كثير التأمل ،وأذكر أن “شد حيلك” كانت أكثر التعبيرات التى تهزمنى فى عزاء والدى رحمه الله ،حيث يطبق بعدها صمت رهيب ،صمت يلف الكوكب ويجعلني وحيداً بلاسند فجأة وسط رمال وأصوات رياح عاتية ،.. “شد حيلك” تلك العبارة الماكرة .. يقشعر لها البدن بلا مبرر!
النجم السينمائى الشهير”روبرت دى نيرو” لم يكتف بقشعريرة البدن ولم ينتظر تعبيرات الدعم والمساندة المؤلمة، لكنه قرر إعادة الاعتبار لهذا الرجل،وشارك فى إنتاج فيلم وثائقى عن والده الفنان التشكيلى لتسليط الضوء على أعمال ولوحات ” نيرو” الكبير ، فعل ذلك وهو فى السبعين من عمره، وقال إنه أراد أن يقدم لأبنائه الستة صورة عن جدهم وماذا فعل فى حياته،لكنه تمنى لو عاش أكثر بالقرب من والده حيث كانت علاقتهما قد توترت من سنين بعد طلاق مبكر لوالدته ، وقال ليتنى كنت أمضيت وقتا أطول معه مستمعا إليه لكى أستطيع التكلم عنه بشكل أدق”.
الجميلة العنيدة القوية “جين فوندا “وهى تعيد حساباتها مع الزمن وقبل أن تدخل الخمسين قررت العودة إلى دفء أبيها ،وتخلصت من حكمها القاسى عليه واقتربت منه وتبادلا الذكريات والفلاش باك حيث وجد الممثل الشاب “هنرى فوندا ” نفسه وحيداً مع تلك الفتاة التى لم تبلغ الثانية عشر عقب وفاة والدتها ، ولم يكن لديه وقت ليعطيه ولا حباً ليقدمه ولا حضناً ليأخذها إليه،عاشت وحيدة معه ، لكنه أيضاً تحمل الكثير حتى أصبحت نجمة كبيرة،هكذا فكرت ” جين”،وعاتبت نفسها عتاباً شديداً، وشاركت فى إنتاج فيلم “البحيرة الذهبية “،وقام والدها “هنرى” بالبطولة مع كاترين هيبورن ” وحصل على أوسكار أحسن ممثل قبل أن يموت عن 77 عاماً.
الروائى التركى اورهان باموق الذى قال: “عندما أذهب إلى شاطئ البحر مع ابنتى التى تبلغ أربع سنوات (رؤيا) أصبح أسعد إنسان في العالم” ،هو نفسه الذى أهدى جائزة نوبل لوالده وقال فى خطاب الجائزة أنه مدين له بالحرية التى عاش فيها شبابه ، فقد كان ” حصناً غير مرئى “.
وحتى اليوم مازالت “نوارة نجم”تناغى الفاجومى وترسل إليه دعوات يومية ليعود ويتوقف عن الهزار!،هكذا يأخذك توماس جورجسيان فى كل مقال من كتابه الممتع ،يمتلك المعلومة ويعرف كيف يمررها كما يمرر الكرة لاعب مهارى كبير،يمتلك فضيلة التواضع ويخجل من الأضواء سعيداً بتمريراته اللطيفة الخفيفة التى تُسهل إحراز الأهداف،وقد مرر توماس عدداً وافراً من الكرات ومازال يمارس دوره بكل خفة وجمال فأن لم يجد كتابة يمررها فلا يبخل على متابعى صفحته بصورة تشيع البهجة وتعيد زمن فات بأضوائه وبهجته،وكنت سعيد الحظ حين التقيت بتوماس لقاءً تآخر كثيرا وكان الشاعر إبراهيم داود يعرف حبى لهذا الكاتب وفى زيارة من زياراته الخاطفة للقاهرة حرص على مقابلة إبراهيم،وحرص إبراهيم على تحقيق أمنيتى وطلبنى بطريقته اللطيفة: توماس هنا، كان يعرف أن العبارة كفيلة بحضورى السريع وقد كان،أدام الله علينا محبة الكتابة وصناع الكتابة فى كل عصر وآوان.
اقرأ أيضًا:
دموع الأميرة فايزة على كتف صلاح سالم!