* إذا كنت تذكر قصة حياة الموسيقى “شوبان” التي قدمتها فأغلب الظن أنك تذكر “شهر العسل” الذى قضاه الفنان الموهوب مع عشيقته “جورج صاند” في جزيرة (مايوركا).. فأين تقع هذه الجزيرة ،وكيف يعش أهلها، ولماذا اختارها العاشقان مسرحا لغرامهما الخالد؟.
تعال بنا نزور الجزيرة هذا الشهر..
* لو قدر لغريب أن يقترب من شاطئ جزيرة “مايوركا” – إحدى جزر “البليار” المتاخمة لساحل أسبانيا الشرقي – في وقت القيلولة، ما بين الظهر والعصر، لخيل إليه أنه يشرف على جزيرة أخذتها غشية، فإذا كل ما فيها جامد بلا حراك!
ذلك لأن إغفاءة القيلولة ضرورة من ضرورات الحياة في الجزيرة ذات الشمس الساطعة ، الدافئة .. فما أن يفرغ القوم من غدائهم ، ومن احتساء بعض كؤوس “البالوس” – وهو شراب قومي شبيه “بالروم” المعتق – حتى يخلدوا إلى سنة من النوم … وسرعان ما يحذو كل شئ حذوهم ، فتستسلم التلال للنعاس في أحضان الشمس .. وتغفو المرافئ الصغيرة.. وتهجع القرى والمدن – التى تسمى مدنا من قبيل التجاوز ، من فرط صغرها! – كل شئ ينام .. حتى الحياة!
بل أن هذه العادة تسرى حتى إلى السياح والزائرين، فتراهم يقيلون مثلا – على الأرض! – في البساتين الايطالية المتناثرة في بلدة “فورمنتور”..
شخص واحد هو الذى يظل يقظا في وقت القيلولة في “مايوركا”.. ذلك هو رئيس عصابة “المهربين”، التى تهرب إلى الجزيرة كافة أنواع السجاير، والخمور، والجوارب والثياب الداخلية “النايلون”، والأدوات الطبية.. إذ يظل يرقب قواربه وهى تتسلل إلى الميناء الحرة في “طنجة”، تسعى وراء شحنات جديدة من المهربات..!
فقر.. وكرم!
* والحياة رخيصه في “مايوركا”، ولكن.. بالنسبة للأجانب فقط فأنت تستطيع أن تستأجر مسكنا لائقا ، تجهزه بأكثر من خادم في مقابل أربعين دولارا في الشهر – أي حوالى ثلاثة عشر جنيها مصريا ونصف الجنيه (بسعر الدولار الحالى) ! بل في وسعك أن تقطن “فيلا” ذات خمس غرف، يحيط بها بستان من أشجار اللوز ، بأجر شهري لا يزيد على الجنيهين!
ولكن نشوة هذا الرخص تطير من رأسك ، إذا ما تبينت مستوى معيشة أهل الجزيرة من الأسبان .. ويكفيك أن تعلم أن العامل يعيش وأسرته – وأسرات العمال دائما كبيرة العدد – على ما يعادل اثني عشر قرشا في اليوم!
ومع ذلك ، فإن الفقر لم يستطع أن يسلب القوم لطفهم وكرمهم .. بل أخال أن اللطف والكرم يزدادن في نفوسهم بازدياد الفقر والمسغبة.. وليس في هذا شئ من المغالاة، فإن أول ما يأخذ الزائر الغريب هو أدب القوم ورقتهم وحسن مجاملتهم .. وهم يذهبون في ذلك إلى حد بعيد .. فأنت في “مايوركا” لا تعدم عجوزا ترتق لك فتقا أصاب حقيبتك ، أو عاملا يصلح لك سيارتك حين تفاجأ بعطب ، أو رجلا يحمل لك متاعك إذا وفدت على إحدى القرى، فإذا تحولت تدفع شيئا في مقابل الخدمة، ردت يدك إليك كما هى منطوية على ما بها من نقود.. وتلقيت أنت الثمن: ابتسامة لطيفة، ودودة دافئة!
والواقع أن “مايوركا” تبدو للأجنبي وكأنها تنبعث من دنيا الأساطير والخرافات.. ذلك أنك تستطيع أن تحلق في أجواء الخيال والأحلام فتنسى العالم وتنسى الزمن وأنت تجلس في أحد المقاهي الصغيرة التى تواجه موانئ صيد السمك، أو القائمة في الطرق التى تحف بها أشجار اللوز في “بالما”- العاصمة – أو في البيوت الحجرية المطلاة بالجير في بساتين اللوز والبرتقال .. أو في مسكن رخيص في الدير الرطب في “فالدموزا” ، حيث نزل قبلك “شوبان” و”جورج صاند” يوما، فغفلا عن الدنيا، واستسلما لأحلام واتتهما خلالها أروع آيات الإلهام!
أنك تنسى نفسك وتنسى الزمن في هذه الجزيرة الناعسة .. فالوقت رخيص ككل شئ هناك.. والحياة تسير وئيدة، بطيئة، يتمثل بطؤها في كل شئ : في العربات المصنوعة من الليف، تجرها الحمير المتكاسلة ، وقد استرخى العنان في يد السائق الذى أخلد إلى إغفاءة!.. وفي قطعان الماعز والغنم وهى تجر أنفسها جرا في أثر راعيها وهو يسعى إلى القرى لصيب غداءه، ثم يتسكع بين المناطق المعشوشبة خلف المستنقعات.. كما تتمثل في الحصان الذى عصبت عيناه، وربط إلى الساقية، فراح يدور في تراخ وخطى متعثرة لفرط التكاسل.. وفي الثيران المنتشرة في البساتين تسير في بطء جعل لوقع أقدامها طرقات رتيبة تشيع في نفسك الملل وتهفو بأعصابك نحو الاسترخاء..
لا عجلة ، ولا جلبة ، ولا ضجيج !.. اللهم إلا ضجيج “التاكسيات” العتيقة ، التى يقال أنها لا تسير بالبنزين ، وإنما يوقدون في جوفها أفراناً ، بوقود من قشر اللوز!
يخافون الظلام!
*ولقد ذهبت إلى “مايوركا” عن طريق “برشلونة”، فما أن أبديت رغبتي في أن أحجز مكانا على السفينة التى تبارحها ليلا إلى الجزيرة ، حتى صاح كل صديق أسباني، (وكل أسباني – على فكرة – صديق، لا يحتاج إلى من يقدمه لك أو يقدمك إليه!) : “يا لله!.. ما الذى يحملك على ركوب السفينة المتعبة.. إنها فظيعة!.. يكفي أنها تقطع الرحلة في الظلام الدامس !”.. ويبدو أن الظلام عند الإسبانيين شر يجب تجنبه!
وركبت سفينة الصباح، والحق أنها كانت نظيفة، أنيقة، جهزت بحجرات مريحة، وقاعة رحبة للطعام ، و”بار” للشراب
ولاحت لنا “بالما” – عاصمة الجزيرة – على أضواء الفجر، وكأنها تتمطى صاعدة من أعماق المياه .. وبدت كنيستها العتيقة من فوق أسوار المدينة تشرف في جلال على مئات من اليخوت التي انتشرت كالأوز البحرى.. حتى إذا اقتربنا من الميناء، حيتنا واجهات الفنادق الفخمة التى قامت على الشاطئ..
وإذ قدر لك أن تأخذ سيارتك في رحلتك – كما فعلت أنا – فلا مناص من أن تنتظر تحت مظلات المرفأ ثلاث ساعات أو أربعاً، ريثما يفرغ الحمالون من “أزيار” النبيذ، وسلال المؤن ، والحمير.. حتى يحين دور سيارتك فتتهادى في المؤخرة ..*ولعل أكثر فنادق الجزيرة متعة، هو فندق “فورمنتور” عند “رأس فورمنتور”، فهو يقوم على مرتفع يشرف على البحر، وقد أحاطت به الحدائق والبساتين.. ولن تكلفك الإقامة فيه أكثر من مائة وخمسين قرشا في اليوم، تستمتع في مقابلها بتناول الفطور في فراشك ، وغداء وعشاء يتألف كل منهما من خمسة أطباق .. بل أن الحلوان – “البقشيش” – والنثريات تدخل في نطاق هذا المبلغ!
حياة ريفية ممتعة..
على أن ثمة فنادق أخرى أقل نفقة – وإن لم تكن أقل خدمة – فهناك مثلا فندق “مار أي سول” – “البحر والشمس” – الذى يقدم لك كل المتع السابقة ، وفوقها مقعد أمام بابه الأمامي ، على رصيف الشارع الرئيسي – الذى يسير موازيا للشاطئ – في قرية “بورتو الكوديا” ، في مقابل .. دولار أو اثنين في اليوم .. أى حوالي ستين قرشا!
ولقد عثرت على هذا الفندق وأنا أجوس بسيارتي خلال الجزيرة بحثا عن شرفة مشمسة مطلة على البحر ، أعكف فيها على الكتابة والتأليف .. فإذا بي أحظى فيه بحديقة ذات سياج عال ، يتدلى الليمون من أشجارها ، ولا يقل حجم الوردة فيها من رأس “الكرنب”!.. وأنت هناك تستيقظ في الصباح على صليل أجراس الكنيسة الصغيرة، فترى الفجر الندي تتسلل خلاله أولى أشعة الشمس الذهبية، وقد أخذ القمر يتوارى غاربا ، وبدت عند حافة الأفق قوارب الصيد تداعب نسمات الصباح قلوعها..
ثم لا تلبث مع تقدم النهار أن ترى قطعان الماعز تتراقص مرحة ، ولغثائها في الأذن وقع الموسيقى .. وأفواج الفلاحات يحملن الفطائر والخبز إلى مخبز القرية لانضاجها.. ورجل البوليس وقد أسد بندقيته إلى أحد الجدران ، تنعكس الشمس على نصل “السونكي” البارز منها، ريثما يساعد فتاة الحانة القريبة على فتح أبواب حانتها..
ومع الضحى ، يقبل الصيادون من البحر حاملين سلالهم ملأى بـ “أم الخلول” وقواقع البحر و”الجمبرى” ذى الحجم الكبير.. بينما تبدو الحمير كسالى وهى تجر عربات الخضر
00 وترى “ميشيل” – (بارمان) الفندق – وقد استوقف أحداها ، ليبتاع البصل والخس والبرتقال واللوز والخرشوف والزيتون!
حاميها .. حراميها!
*وإذا تمشيت إلى بلدة “الكوديا” القابعة خلف سور من مخلفات الماضي، فسوف ترى منظرا عجيبا ” ساحات زرعت أرضها بالحشائش والزهور ، وتوسطتها نافورات الماء ، وتناثرت في أرجائها مناضد الباعة، حيث تجد الخمور واللحوم – غضة أو مشواة – بأسعار زهيدة..
وقد يحلو لك أن تنتقل بين صخور قرية “الكندا” ، حيث السجائر الأمريكية قد وصلت!.. فتهرع لتحصل على حاجتك منها ، وقد تعجب إذا علمت أن سعر العلبة لا يتجاوز هناك ستة قروش، رغم أنها تهرب في “لنشات” بخارية من (طنجة) إلى حيث تنتظرها قوارب المهربين في ظلمات الليل البهيم لتحملها إلى الساحل، ومنه ترسل بالسيارات إلى “الكوديا”!
ولا تتمالك أن تسأل الرجل الذى يبيعك السجاير: “كيف لا يفطن إليكم رجال البوليس، وهم كثرة على ما أرى، ومسلحين؟”
ويبتسم الرجل وهو يجيبك: “لا تشغل بالك.. أنهم نيام!”.. ثم يشير برأسه نحو أقرب شرطي ويقول: “أنظر .. أنه يدخن!”.
*هذه هى الحياة في “مايوركا” .. الجزيرة الناعسة.. التي يلفها جو الأساطير القديمة!.. وبهذه المناسبة ، أذكر “نكتة” يتندر بها القوم هناك كلما أعجب غريب بحياتهم:
قيل أن “فرديناند الثالث” – ملك أسبانيا – دخل إلى الجنة عقب وفاته، لأنه كان رجلاً طيباً.. وقد أتاحت له طيبته أن يعامل بإكرام خاص ، فما أن استقر في الجنة، حتى أقبل عليه ملاك يقول له:
-لقد كنت تحب أسبانيا، فهل لك أمنيات تتمناها من أجلها؟
وتمنى “فرديناند” أن تمنح السماء بلاده رجالا شجعانا، ونسوة فاتنات، وشمسا ساطعة مشرقة.. فقال الملاك: “هذه أمنيات بسيطة.. مكفولة”.
وأطمع هذا الكرم “فرديناند” فتمنى لبلاده زيتا وفيرا، وقمحا كثيرا، ونبيذا معتقا .. ومرة أخرى، ابتسم الملاك وقال: “وهذه أيضا سهلة التحقيق”.. فازداد طمع “فرديناند”، وتمنى أن يتوفر لبلاده: الثوم والثيران والسيجار..
ومن جديد، ابتسم الملاك قائلا: “لا بأس .. هذه الأخرى أمنية مقبولة.. ألا تريد لوطنك شيئا آخر؟”.. ففكر “فرديناند” لحظة ، ثم قال: “آه .. حكومة طيبة”.
وهنا قال الملاك: “كل الأماني .. إلا هذه ، فلو أنها تحققت ، لما قبل ملاك أن يبقى في السماء يوما آخر”.
ويضيف أهل “مايوركا” إلى الأسطورة قائلين:
-فما بالك لو عرف الملائكة بما في جزيرتنا؟!