يسكن أحمد بهجت فى منطقة خاصة من الكتابة والأفكار،لا أقول لك مكانة عظيمة أو ضخمة،لكنها خاصة جداً مثل بصمة لا يمكن تقليدها،وإن كانت أجيال قد قرأت كتابه الرقيق (أنبياء الله) الذى أعيدت طباعته أكثر من 60 مرة،فإن ذلك لتلك الخصوصية التى تجعل اللغة بسيطة وسهلة ويمكن تمرير المعلومة من خلالها فى انسيابية مثلما أراد مؤلفها منذ قرر الكتابة عن أنبياء الله،فمئات الكتب الدينية مثلا تحدثت عنهم صوات ربى وسلامه عليهم ،وآلاف المجلدات التراثية تفعل ذلك،فكيف حقق أحمد بهجت كل هذا النجاح والانتشار بكتابه الثانى (الحيوان فى القرآن الكريم )،حتى جاء كتابه المُلهم (بحار الحب عند الصوفية) فكانت اللغة وانسيابها وأمواجها الهادئة طريقا سلك به إلى قلب القارىء، يأخذه من المعنى إلى الروح ويصعد به الملكوت ليعرف أن بحر التصوف يبدأ بالمحبة وينتهى عندها، ليس صراعا بين مذاهب فقهية بقدر ما هو اختيار من الله لعباده الصالحين الذين يتوالدون عبر عصور وأزمنة.
لا يكتفى أحمد بهجت ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ بهذا الأسلوب الكتابى البديع كأنما يرفض تصنيفه ككاتب إسلامى،فيقدم البهجة نابعة من اسمه فى عدة كتب (مذكرات صائم ثم مذكرات زوج )التى التقطها السيناريست الموهوب محمد سليمان عبد الملك وأذيعت رمضان قبل الماضى.
وفى الصحافة هوابن ( صباح الخير)برشاقتها ومؤسسة الأهرام بعراقتها وكلاسيكيتها، كما أنه ابن الحياة،وفى مذكراته يشير إلى ذلك كثيراً،فلم يكن يعرف اسم تشيكوف كاتب القصة الروسى الأشهر إلا من خلال أحد أخواله.
وعندما كتب مجموعته القصيصية الرشيقة (ثانية واحدة من الحب)لا ينكر مدى تأثره بعبقرى القصة القصيرة تشيكوف ، فالمواقف التى ترويها القصص سهلة وبسيطة وتمتلك عمق روح تشيكوف صاحب (الرجل الذى عطس).
وكل ما سبق نقطة فى بحر الكاتب الكبير الذى حفظت الجماهير كلماته وعباراته وأفكاره على لسان فؤاد المهندسين فى برنامجه الأشهر (كلمتين وبس).
وما مناسبة كل هذا الكلام عن كاتب كبير؟،المناسبة يا سيدى أنى عثرت على جزء من مذكراته كتبه بخط يده إلى مجلة الهلال …،ولا أعرف إن كان قد كتب مذكراته بشكل أكبر؟ أم أنه اكتفى بما كتب من سيرته ونشر بالمجلة؟ فلم أعثر له على مذكرات إلا لو كانت صدرت وجهلت بأمرها ،وأطن أن الكاتب الكبير بالأهرام محمد بهجت هو الوحيد الذى يمتلك إجابات.
عموما هذه صفحات يسترجع فيها كيف بدأ الكتابة وكيف نزل النهر وتعلم السباحة،ويحكى عن أساتذته ومشواره الصحفى باختصار شديد وفى لغته الانسيابية الجميلة:
أحلام والدى .. وأحلامى
ولدت في نهاية ليل خريفي بارد ، فأصبحت عاشقا لليل والشتاء، هل هناك علاقة مع الليل بين من يولدون تحت جناحه؟.. لا أعرف على وجه التحديد.. كل ما أعرفه أنني في الصيف أقاسي من راجمات الصهد ومدفعية الرطوبة.. وأعيش طوال الصيف في انتظار مجئ الشتاء، كانت أمي تنتمي إلى الطبقة البورجوازية، وهى الطبقة التي تعيش في المدن وتستقبل كل الرياح الوافدة من أوروبا، أما أبي فكان ينتمي لطبقة الفلاحين الميسوري الحال من ملاك الأراضي الزراعية.. وكان أبي يعمل مدرسا في المدارس الثانوية وكان جدي، وهو شيخ بلد في الدقهلية تسمى ميت فارس، كان جدي يحلم بحفيد**
وقد صرح ذات يوم أمام أبي وأمي بأنه إذا ولد له حفيد فسوف يتكرم عليه بخمسة أفدنة من أجود الطين ، وسيكتب هذه الأفدنة باسمه .
فلما تحقق الحلم وولدت ، واجهت الأسرة جدي بما قاله فادعى في البداية أنه لا يسمع جيدا بأذنيه ، فلما استمر الهجوم عليه صرح تصريحا عموميا قال فيه إن كل فدادينه ملك لهذا الحفيد ، وهو يديرها له أثناء حياته ، وبعد الموت يحلها ربنا، وبهذا التملص الرائع خرج جدي من تصريحه الأول، وظللت أنا فقيرا لا أملك طينا ولا يملكني الطين .
سأكتشف فيما بعد أن سر مجيئي إلى العالم هو الأحلام .. كانت أمي تحلم بي قبل أن اولد.. فقد مات لها ولد قبلي ، وكانت تظن أنها لن تنجب بعده.. وقد بلغت ثقتها في أحلامها أنها صنعت ملابسي قبل أن تحمل بي وقبل أن أولد .. كانت تتمني في قلبها أن أصير طبيبا شهيرا عندما أكبر .
أما حلم أبي فكان يختلف .. إنه يريد وريثا للعرش رغم عدم وجود عرش ، أما داخله فكان يحلم أن يصير ابنه قاضيا مثل خاله محمد على رشدي .
أما جدي لأبي فكان يريد أن يورثني عدة أفدنة من أجود الأرض ، ثم سحب عرضه بعد أن ولدت .
جدتى تعزف بيانو
أما جدتي لأمي فكانت حبي الكبير في هذا العالم، كانت تريدني لأنها تريدني، لم تكن تراني طبيبا ولا قاضيا ، ولا كانت تشغل نفسها بمستقبل بعيد.. وربما كانت تدرك أنها لن تعيش لترى هذا الأمل البعيد ، ولهذا اكتفت بحلم بسيط هو “أنا”..
لم يكن جدي يربي لحيته رغم أنه كان شيخا من خريجي الأزهر، ولكنه انصرف عن العلم إلى الزراعة، وكان انسانا مرحا لا يكف عن السخرية ولا يغادره الضحك من أي شئ ومن كل شئ، وأحسب أنني ورثت في جيناتي نظرته الساخرة إلى الأمور أما أمي فكانت سيدة مدهشة، مثلما كانت أما عظيمة بنفس المقدار..
باختصار.. كانت سيدة من أصحاب التقاليد.. وكانت لها تقاليدها في كل شئ ، في الأثاث والطعام والحديث والتعبير عن المشاعر والجلوس والكلام وكل شئ..
كانت تملك بيانو تعزف عليه الموسيقى أحيانا ، وبسبب حبها للموسيقى أحببت الموسيقى، إن في كونشرتو البيانو الأول لشوبان أمومة تحتضن المشاعر الكونية كما تحتضن الأم طفلها .
وأحيانا أفكر .. كانت نساء الطبقة الوسطى يتجهزون بعدة غرف وكان وجود البيانو في الجهاز مسألة حيوية وطبيعية.. ولا نقاش فيها ولا جدل..
أيضا كان في جهاز أمي مكتبة تضمها غرفة مكتب .. وكانت هذه الغرفة هي عالم أبي.. وبعدها صارت جزءا من عالمنا.
أين ذهبت أمى؟
لا أذكر في طفولتي حتى صار عمري ثلاث سنوات سوى مشهد واحد، وأذكره مثل حلم غارق في الضباب ..
شاطئ بحر طويل لعله البحر الأبيض في الإسكندرية.. عربة أطفال يجلس فيها طفل يرتدي رداء من الصوف المشغول من رأسه إلى قدميه .. والدنيا نهاية شتاء أو بداية شتاء.. وإن كانت الشمس ساطعة ..
أمي تقف وراء العربة وتدفعها على الكورنيش أمام البحر.. هذا كل ما أذكره من طفولتي الأولى، ولست أعرف لماذا لم تحتفظ ذاكرتي بغير هذا المشهد .. إن الصورة جزء من عالمي الداخلي، واذكر أنني سألت أمي يوما..
-هل عشنا في الإسكندرية ..؟
قالت: نعم .. كان أبوك يعمل مدرسا هناك .
سألتها: هل كانت عندي عربة أطفال؟
هل كان لدي رداء من الصوف المشغول…؟
قالت: نعم.. أنا نسجته لك
أين ذهبت عربة الأطفال؟ أين ذهب الرداء الصوفي؟ وأين ذهبت أمي؟
اختفى الثلاثة بالموت على ثلاث مراحل متعاقبة .. لم يعد باقيا سوى البحر..
كنت شيئا مختلف .
في طفولتي كان هناك البحر والعربة والرداء وأمي،لم يكن إحساسي يومئذ يستطيع التمييز بيني وبين العربة والبحر والصوف،كنت أحس إنني أنا البحر والعربة والصوف ، وقد وقفنا معا نأمل أن يرتفع الحجاب عن وجه السر.
وأحيانا أخرى كنت أحس أنني شئ يختلف عن كل ما أراه ، وأحيانا كنت أحس أنني اتلقى قبلات مبللة بعطر البحر ، حين يقع على وجهي رذاذ البحر الذى يتناثر من الموج ثم ينكسر على منطقة صخرية ومن الغريب أني لا أذكر وجه أمي في هذا المشهد .
اذكر ملمس الصوف واحس بحركة العربة ولكنني لا أذكر وجوها بما في ذلك وجهي نفسه ..
كانت الصورة تخلو تماما من البشر، لم يكن فيها غير كائنات وعناصر ومن بين هذه الكائنات كان البحر أضخمها.
هل وقعت في حب البحر منذ هذا التاريخ أم أن لهذا الحب تاريخا سابقا يرجع إلى الأيام التي كان فيها عرشه على الماء ..
بقيت صلتي بالبحر موصولة .. أليس هو الجد الأول للبشرية؟ وحين كبرت كنت أرقب أمواجه المتدافعة .. إن كل موجة مقبلة تبدو وكأنها تريد أن تقول شيئا ما .. شيئا بالغ الأهمية والخطورة .. ولكن هذا اشلئ من الجمال والكمال بحيث يعجز البحر عن تحويله إلى كلمات ، ومن ثم يكتفي بانقلاب موجاته وانسياحها على الشاطئ.
إن الموجة تضرب الشاطئ ثم يرهقها الغضب فتنداح عائدة ، تهدأ وتنسحب ، ثم تبدأ رحلة العودة إلى البحر حيث تذوب في موجة ثانية.. ويتكرر المشهد بلا توقف ولا تغيير، وكلما فتح الموج فمه المائي ليقول السر أدرك أن السر أعظم من أي كلمات.. ويطبق البحر فمه على السر..
كنت طفلا لا يعي ، فيما بعد عندما أكبر واحدق في البحر سأسمع قوله تعالى “قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا”.
بقرش صاغ .. عرفت الكتب
على نهايات الطفولة وبداية المراهقة ، كنا نعيش في شبرا .. كان اسمها يومئذ حدائق شبرا..
كنا نسكن في شقة في الدور الثاني ، وكانت هذه الشقة تتكون من خمس غرفات.. غرفة للطعام وغرفتان للنوم وغرفة صالون ، وغرفة مكتب يفتح على فراندة واسعة وله باب خاص للدخول والخروج وله باب آخر يفتح على الشقة .
كان أثاث غرفة المكتب يتكون من مكتب ضخم أمامه كرسيان من الجلد ، ومعهما في الغرفة كنبة من الجلد .. أما الحائط فكانت تحتله مكتبة ضخمة لها ثلاثة أبواب… بابان جانبيان من الخشب وباب عريض في الوسط من الزجاج ….
وكانت هناك وراقة من النوع الذى يدور بحيث تلتقط الكتاب الذى تريده منها بدل أن تقوم.
كانت معظم كتب هذه المكتبة في التاريخ والجغرافيا واللغة الإنجليزية.. وبعض المؤلفات المصرية .
وبسبب وجود هذه المكتبة … اتيح لي أن أتعرف على العالم الخارجي..
كنت طفلا انطوائيا كثيرا ما يقاسي من احتقان اللوز ، ومن هنا فقد حاولت ملء فراغي بالقراءة ..
وكانت مكتبة أبي أصعب من أن أحاول قراءتها … وفي ذلك الوقت.. كانت هناك سلسلة تظهر تحت اسم “روايات الجيب”.
وكانت روايات الجيب تركز على الرواية البوليسية من جانبيها جانب اللصوص وجانب الشرطة .
من جانب اللصوص كانت هناك شخصية أرسين لوبين اللص الشريف، ومن جانب الشرطة كان شرلوك هولمز، ومساعده واطسن .
رسم الكاتب الفرنسي موريس لبلان شخصية اللص الشريف كبطل كان يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء..
أما السير آرثر كونان دويل فقد رسم شخصية شرلوك هولمز كمحقق في حوادث القتل وكعقلية لا يشق لها غبار.
وكانت الرواية تباع بقرش صاغ ، فإذا قرأتها ورددتها إلى البائع دفعت قرش تعريفه.
كان عمري لا يزيد على عشر سنوات حين أدمنت قراءة هذه الروايات .
روايات على مائدة الطعام
ومن خلال هذه السلسلة التي كان المترجم الأول فيها هو الأستاذ عمر عبد العزيز أمين، تعلم أبناء جيلنا كيف يطلق العنان لخياله ويعيش في عالم يختلف كل الاختلاف عن الواقع .. وفي هذه السلسلة قرأت معظم ما كتبه الروائيون عن الثورة الفرنسية .. والغريب أنهم كانوا في صف النبلاء لا الشعب الثائر .
وقرأت مغامرات الفرسان الثلاثة ، وعاينت الصراع بين باردليان وفوستا.
وقرأت أحزان الشيطان ، وتاه عقلي مع رواية “هي التي ينبغي أن تطاع”.
ويمكن القول بأنني أدمنت هذا النوع من القراءة، ولاحظ أبي ذلك.
وأمسك يوما برواية اقرؤها وقال لي:
-ماذا تقرأ؟
ثم قلب فيها قليلا وقال لي هذا النوع من الروايات كلام فارغ .. لماذا لا تحاول القراءة في مكتبتي..
لم يكن الوقت قد حان بعد … ولم أكن أتفق مع أبي في نظرته لهذه الروايات… أنها ليست كلاما فارغا كما يقول … ويبدو أن أبي قرأ ما يجول في خاطري فقال:
– هذه الروايات كالسلاطة على مائدة الطعام .. هل تأكل السلاطة فقط وتترك بقية الطعام .. هذا ما تفعله الآن ..
فيما بعد .. سأعرف أن أبي على حق ، وأن هذه الروايات لا يمكن ضمها للأدب الرفيع ونقدها على هذا الأساس ، إنما هى روايات هدفها التسلية .. ورغم ذلك فإن لها جانبا إيجابيا هو جانب الخيال المتوقد الرائع الذى تثيره والعوالم المدهشة التي تتناولها والنفسيات المختلفة التي تعرض صورها على القارئ .
ولقد جاء على وقت كنت أتصور فيه أن الجنة كرسي وثير في شرفة قصر يطل على نهر، وجوار هذا الكرسي مكتبة فيها مئات الكتب .. وأنا جالس اقرأ دون هموم، ودون إزعاج ، بعيدا عن مشاغل الحياة وأعبائها ..
حكايتي مع الجامعة
وعلى أيامنا كانت الثانوية تسمى التوجيهية ، وقد حصلت عليها بمجموعة 61.5% قسم علمى.. وكان هذا في أيامنا مجموعا كبيرا .
كان هذا المجموع يضمن لي دخول كلية الهندسة جامعة عين شمس أو كلية الطب بجامعة الإسكندرية ، أو كلية الحقوق بجامعة عين شمس ، وقد رفضت العائلة أن التحق بكلية طب الإسكندرية لأنني سأعيش وحدى هناك ، وسألعب بذيلي ولن أفلح.. وهكذا بقى أمامي كلية الهندسة أو كلية الحقوق ..
وقد دخلت الهندسة يوما واحدا واستمعت إلى المحاضرات طوال هذا اليوم، ووجدت نفسي أمام طلاسم بدت لي ألغازا بغير حل كانت ميولي أدبية بحتة .. ودخلت كلية الحقوق وحضرت محاضرة فيها ففهمت ما قيل رغم أني استثقلت ظلها..
كنت أكتب القصة في هذه الفترة، وتعرفت للمرة الأولى على الأدب المصري بمحض الصدفة ..
عثرت في مكتبة أبي على رواية أهل الكهف لتوفيق الحكيم .. وقرأت الرواية فأشعلت داخلي قنديلا منورا…
أعجبني أسلوب الحكيم الذى يبدو كأنه السهل الممتنع ، وشدني حواره المدهش الراقي البسيط ، وأعجبني هذا التناول الجديد لقصة وردت أصلا في القرآن الكريم..
بعدها قرأت لتوفيق الحكيم كتاب “محمد” بعدها صرت من عشاق الحكيم ..
كان عباس العقاد مقررا علينا في المدارس بكتابه عبقرية عمر، ولم أكن استسيغ أسلوبه العربي الصعب ، ومن هنا كان إحساسي به هو عدم الرضا.. وربما جاءني هذا الإحساس لأن الكتاب مقرر علينا ، فهو إذن جزء من كتب المدرسة، وهي كتب بغيضة وليست مثل القراءة الحرة التي تختار فيها ما تقرأ وتدع فيها ما لا تحب.
أنا .. والدين
فيما بعد .. سأفهم العقاد واقدره واقرأ معظم كتبه واعتبره رجلا كتب في الإسلام ما لم يكتبه أحد .. وكان درعا يصد عنه وسهما يدافع عن عقائده بشجاعة وحب وعلم..
وفي هذه الفترة اتيح لي بمحض الصدفة أو الحظ الحسن أن أتعرف على الدين بشكل أعمق ..
كان لي صديق اسمه عطية ، وكان أبوه صاحب دكان للبقالة ، وكنت أقف أحيانا مع صديقي في الدكان واشترك معه في البيع ، وكان يبيع الجبنة والحلاوة والزيتون ، وما شاكل ذلك ، ولاحظت أنه يلف ما يبيعه في ورق مجلة الإسلام.. وقلت له – لو احضر تلك مجموعة من الصحف ، فهل تعطيني هذه المجلة .. ووافق عطية وصحبت أعداد المجلة إلى بيتي .. وبدأت أقرأ فيها فانبهرت ، كانت تبدأ بشرح آيات من القرآن ، ثم تتحدث عن حديث صحيح ، ثم تورد شيئا من تاريخ الإسلام، بعد ذلك كانت تمتلئ بمقالات تشرح الإسلام شرحا مضيئا باهرا.. وكان الواضح أن محرريها من الشيوخ كانوا يدركون روح الإسلام كما يدركون نصوصه وشعائره وكان هذا أول اهتمام لي بالإسلام .. وهو اهتمام بدأ مبكرا ولكنه لم يظهر فيما اكتبه إلا بعد فترة من الزمن…
ولقد كان إفلاس مجلة الإسلام وبيع أعدادها للبقالين إشارة كافية إلى الأزمة التي تمر بها الثقافة المصرية في ذاك الوقت.. بعد أن اتيت على الكتب التي استهوتني في مكتبة أبي، بدأت أقرأ بشكل مكثف تاريخ مصر الفرعونية..
كنت يومئذ أعمل بالصحافة تحت التمرين ، ولم يكن كتاب الأستاذ سليم حسن موجودا كما هو الحال اليوم ، إنما كانت هناك عدة نسخ منه في دار الكتب..
وهكذا كنت اتوجه كل يوم إلى دار الكتب – وكانت يومئذ في باب الخلق – وأطلب جزءا من أجزاء الكتاب وهو يقع فيما يقارب عشرين جزءا .. وانكفئ على قراءته حتى يحين موعد اغلاق الدار ، فانصرف لأكرر في اليوم الثاني ما فعلته بالمس..
طريقي للصحافة
كيف دخلت الصحافة؟
إن لهذا قصة..
كان لي ثلاثة أخوال ، محمد علي رشدي وزير العدل السابق والمحامي بعد ذلك ، ورشاد رشدي الذى كان أول من عرفني على أنطون تشيكوف ، واللواء عبد المنعم رشدي ضابط البوليس.. وكان خالي على رشدي هو مثلي الأعلى في كثير من الأشياء .. ورغم أن الأمل كان أن أتخرج من كلية الحقوق والتحق بمكتب خالي وكان واحدا من أكبر المكاتب في العاصمة .. ولكن هذا الأمل لم يتحقق، فقد استولت الصحافة على تماما..
كنت أكتب قصصا قصيرة في ذلك الوقت وتصورت أن الصحافة يمكن أن تنشر لي قصصا كمشاهير الكتاب ، وذهبت بقصتين إلى الأستاذ موسى صبري في الأخبار.. وأخذ مني القصتين وقال لي تعال بعد شهر أكون قد قرأتهما..
عدت بعد شهر فقال لي تعال بعد شهر آ خر..
وذهبت إليه عالما أنه يزحلقني فقال لي – لك أسلوب في الأدب ، ولكننا لا ننشر إلا للأسماء المعروفة .. هل تحب العمل في الصحافة ؟
قلت له: ولكنني لا أعرف ماذا أعمل في الصحافة ..
قال لي : سنعلمك..
وكانت هذه هي البداية في مجلة الجيل الجديد .. وكان رئيسا لي في هذه الفترة الكاتب الساخر أحمد رجب .
تشيكوف فى حياتى
وإسنادا للفضل إلى أهله ، كان خالي د. رشاد رشدي هو الذى عرفني على تشيخوف .. وهو كاتب لا يستطيع القارئ أن يفلت من حبه أو الإعجاب الشديد به.
إن مؤلفاته تشرب من نهر الابتكار، والتنوع الدائم ، فليس هناك من وتيرة واحدة، ولا تكرار دائم ، وليس هناك من قصتين متشابهتين لا في الأشخاص ، ولا في الحوادث.. وهو يطرق موضوعات لم يطرقها مؤلف من قبله ، حتى ليخيل اليك أنه يملك حساسة تمكنه من أن يرى ويسمع ويشعر بأشياء لم نحلم نحن بوجودها ، وإن كانت تمر تحت أنظارنا دون أن نحس بها..
ولقد كتب في إحدى رسائله يقول:
“إن هدف القصة هو الحقيقة الصادقة والمطلقة”.
وقد حقق تشيكوف هذا الهدف إلى درجة بعيدة ، الأمر الذى يجعل منه سيد القصة القصيرة بلا منازع ، مثلما كان ديستويفسكي سيد الرواية الطويلة …
عرف تشيخوف كيف ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية، وكيف يعطف عليها ويخفف من قسوة الحكم الذى سيصدره القارئ على انهيارها إذا كان مقدرا عليها أن تنهار .
كان الناس جميعا أصدقاء تشيخوف .. الفلاحون والعمال والتجار والكهان والمعلمون وضباط الجيش وموظفو الحكومة صغارا كانوا أم كبارا ، رجالا أم نساء أم أطفالا … كان هؤلاء جميعا أصدقاء لتشيخوف …
وهو يحدثنا عن كل شئ في الحياة.. إنه يتحدث عن العربات والفجر والأكواخ ، والثلج والخيل والنهر والأصدقاء والخصوم ، مثلما يتحدث عن الموت والعار والظلم.
وفي فن تشيخوف سخرية مبطنة تتوارى في ثياب الجد وهدفها أن توفظ الخاملين والنائمين .
يقول أحد النقاد عن تشيخوف:
أن أول ما يبرز في قصص تشيخوف هو تلك الحوادث البسيطة التى تطفو فوق السطور في عذوبة ملموسة، كروح حزينة تشعر باضطرابات الحياة وهمومها، وتلك المعلومات، بل تلك اللوحات التي يستوحيها من الحياة اليومية، والتى تفسر نزوات النفس مرسومة بريشة بارعة ترى من ورائها أغوار النفس الحقيقية، وعواطف الإنسان الكئيبة ، وتحملك على التفكير في الحقيقة الصادقة والحياة الإنسانية.
وكان في رسمه صور الحزن والدموع والمآسي رحب الصدر لا تخفى عليه لمسة الفكاهة، وكثيرا ما تجد هذه اللمسة سائدة في أكثر المواقف المفجعة .
الأدب الروسى
لابد من التنويه هنا بالدور الواعي الذى قامت به دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر بسورية…
لقد قامت هذه الدار بترجمة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، ومن خلال مترجميها الأكفاء قرأنا هذا الأدب.. وأذكر أن أول من ترجم تشيخوف في العالم العربي كان فؤاد أيوب وسهيل أيوب ..
بعد ذلك دخل الأستاذ سامى الدروبي الذى ترجم ديستويفسكي وهم يقولون عن المترجم إنه خائن ، إشارة إلى أنه خلال الترجمة يمكن أن يفلت روح النص الأصلي..
ولقد كان سامي الدروبي مترجما رائعا يحتفظ في ترجمته بجمال النص وروح الموضوع .
مضت قراءتى للشعر العربي والأدب العربي إلى جوار قراءتي للأدب الروسي.. وهو أدب بلغ ذروته في القرن التاسع عشر على يد مجموعة من الكتاب مثل تولستوي وجوجل وديستويفسكي وتشيخوف وبوشكين وليرمونتوف وغيرهم..
فتح لي هؤلاء الكتاب آفاقا جديدة في فهم الإنسان والحنو على ضعفه البشري ومعرفة حقيقته .
وقد لعب ديستويفسكي في حياتي دورا يشبه الدور الذى لعبه في حياة الناقد الروسي برديائيف … مع اختلاف الثقافة يقول الناقد إن ديستويفسكي أثار فيه من الحماسة والنشوة ما لم يثره كاتب أو فيلسوف آخر… وهو يقول عنه:
“كنت في كل مراحل حياتي أقسم الناس قسمين ؛ أولئك الذين تأثروا بروح ديستويفسكي ، وأولئك الذين كانوا عن هذه الروح غرباء”.
وهذا هو موقفي تقريبا.. إنني أعتبر الأدب الروسي مدرسة حتمية لمن يشتغل بالفكر أو يحترف الأدب … وهى مدرسة يعني عدم دخولها حرمان الإنسان من أنبل صفاته الإنسانية .
هيكل وموسى صبرى
بدأت أعمل في الصحافة مع موسى صبرى وعلى أمين في مجلة الجيل الجديد في الأخبار، كان هذا سنة 56 ، سنة 57 انتقلت إلى العمل مع الأستاذ أحمد بهاء الدين في مجلة صباح الخير…
سنة 1959 انتقلت إلى العمل مع الأستاذ محمد حسنين هيكل في الأهرام وخلال عملي في الأهرام أعرت للعمل رئيسا لتحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون.. واستمرت هذه الفترة ست سنوات… اما بقية سنوات العمر فقضيتها في الأهرام عاملا بالصحافة والكتابة…
والمعروف أن الصحافة يمكن أن تكون رسالة ، ويمكن أن تكون حرفة لتوفير لقمة العيش ، وفي تصورى أن الصحافة رسالة مهمتها وضع الحقائق تحت أعين الناس وزيادة وعيهم …
وقد حاولت جهدي أن أؤدي واجبي كصحفي يرى أن الصحافة رسالة .. ولست أعرف هل نجحت في هذا أم لا؟
وسوف يلاحظ القارئ في كتاباتي وجود تيارين ربما ظهرا للنظرة العجلى متناقضين…
تيار من السخرية التي تنبه ولا تجرح ، وتيار ديني تشرب جذوره من الصوفية…
وأحب أن أشير فى موضوع الصوفية أنني انحنيت عليها ونهلت منها كأدب من آداب التراث .. لا كدين او طريقة صوفية وليس صدفة أن معظم الصوفية شعراء أو كتاب أو فلاسفة ..
وهم في تصوري يحملون نفسيات فنية شكلت داخلهم الدين بشكل خاص تقوم أعمدته على أساس الحب إلى درجة فناء الصوفي عن نفسه وقيامه بالحق وحده…
بقى سؤال أخير عن سنوات التكوين… سأتحدث هنا عن سنوات التكوين بالنسبة للكاتب ، ورأي أنها لا تقتصر على فترة الشباب والرجولة والكهولة ، إنما يجب أن تمتد حتى تنتهي الحياة ذاتها وتطوى الصحف .
أحمد بهجت
- من مواليد القاهرة .
- خريج كلية الحقوق.
- عمل بالصحافة في مجلة الجيل الجديد في الأخبار عام 56.
- في عام 57 عمل مع الأستاذ أحمد بهاء الدين في مجلة صباح الخير .
- انتقل للعمل بالأهرام من عام 1959 .
- عمل رئيسا لتحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون ست سنوات .
- كتب حوالي أربعين كتابا ما بين المؤلفة والمترجمة وكتب الأطفال، منها: أنبياء الله (24 طبعة) – قصص الحيوان في القرآن (أربع طبعات، وترجم إلى اللغة الهندية) – رحلة في أفريقيا – قناة السويس شريان من دم المصريين ومن كتب الأطفال قصص القرآن المصورة (ثلاث طبعات).
- نال وسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى من الرئيس مبارك منذ تسع سنوات، كما حصل عليه عن سيناريو وحوار فيلم السادات هذا العام .
- ترجمت بعض كتبه إلى سبع لغات .
اقرأ أيضًا:
صلاح حافظ بين كامل الشناوى وشارلى شابلن