ومن زمن بعيد لم تفرح الأوساط الثقافية كما فرحت لانطلاق مهرجان بردية لسينما الومضة وعاشت صفحات فيس بوك حالة بهجة وترحيب بالوليد الجديد الذي ظهر مرتبطاً باسم الكاتبة عزة أبو اليزيد وهي نموذج البنت المصرية المكافحة التي تثق في قدراتها ، ومنذ سنوات بعيدة وأنا أتابع دأبها ونشاطها في معظم النشاطات الثقافية ، وظلت كما هي لم تتغير فى حماسها وإصرارها وابتسامتها التي لا تفارقها ترحيبا ومحبة ، ولعل هذا الذي حدث في افتتاح مهرجان صغير وبإمكانيات محدودة من زخم وحضور وترحيب وفى دورته الأولى، يؤكد أن الأشخاص يستطيعون التغيير ويمكنهم تقديم إضافات للمؤسسات ، وعزة أبو اليزيد التي صنعت هذه الحالة من المحبة لم يسبقها إليها سوى عدد قليل جدا كان الناقد السينمائي عصام زكريا واحداً منهم ، ففى أبريل الماضي اشتعلت الحياة الثقافية بحالة من البهجة وهى تستقبل خبر تولى عصام إدارة مهرجان القاهرة السينمائي في دورته المقبلة 13 – 22 نوفمبر (2024 وكان الفرحة كانت مؤجلة لدى الجميع انتظارا لمكان يليق برجل لا يجيد سوى العمل والمحبة من دون صراعات صغيرة أو حتى كبيرة ، هو ممتلىء بذاته لا يبحث عن منصب أو يداهن لمصلحة ، وحافظ عصام زكريا على مساحته الخاصة باعتباره كاتبا سينمائيا لا يحتج حتى إلى صفة (ناقد ) التي يلهث البعض خلفها ، ولم تكن حالة الإجماع على اختياره لهذا المنصب إلا تعبيراً عن احترام وتقدير كبير حتى لدى هؤلاء الذين لم يقتربوا من عصام على المستوى المهنى أو الشخصي ، وبالفعل سيظل هؤلاء الذين يصنعون الفارق في حياتنا الثقافية جزء من مستقبل مصرى
أجمل لبلد تستحق الأجمل …
الفنان الكبير خالد داغر في فبراير عام 2023 ، فلم يحدث أن فرحت الأوساط الثقافية والفنية كما
فرحت باختیاره رئيسا لدار الأوبرا التي غادرها في فبراير 2024 ورغم انه لم يستمر سوى عام واحد
بالتمام والكمال، ورغم أن ظروف إقصائه مازالت غامضة حتى الآن، إلا أن حالة الإجماع غير المسبوق
التي صاحبت قرار توليه منصبه أعادت إلى الأذهان رائحة (داغر) وآل داغر باعتبارهم جزء من وجدان الثقافة المصرية على مختلف مشاربها ، فالموسيقى الكبير تم اختياره رئيسا لدار الأوبرا يحمل (رصيداً) كان مخزونا فى صهاريج اللؤلؤ المعتقة، إذ يحمل خالد داغر على ظهره تاريخا عريقا ومضيئاً صنعه والده الفنان الكبير الموسيقار عبده داغر رحمة الله عليه الذي لم نعرف الطريق إليه عبر الشاشات واللقاءات التليفزيوينة لكننا عرفناه من بين صفحات الكتب ، فهو عبد البصير الصوفاني بطل رواية خیری شلبی ) صهاريج اللؤلؤ ( هو الملهم لكاتب كبير جمعتهما صداقة الفن والمحبة الخالصة لتراب هذا الوطن ، كتب خيرى شلبى روايته عن ذاك الصبى المولع بالموسيقى والذى يرفض والده أن يتعلم ابنه العزف على الكمان أو غيره من الآلات الموسيقية التي كان يقوم بإصلاحها من خلال ورشة نشأ عبد البصير بين أوتارها المتنوعة فاستهوته الأنغام فظل متعلقا بها رغم جبروت السيد الوالد ، وفي رحلة نفسية طويلة يقتحم عبد البصير ) كار الآلاتيه ومنه إلى عالم النجوم الكبار والصالات الواسعة والمسارح الضخمة فيتعرض للتنمر والسخرية باعتباره غير دارس في أكاديميات ولم يحصل على
شهادة ، لكنه يصنع أسطورته الخاصة ويتربع على عرش آلة الكمان ويجوب بفرقته عواص العالم ويعيش مغبونا في وطنه رغم كل هذا البريق العالمي
ولا تستقصى الرواية التفاصيل الحقيقية من حياة الفنان الكبير بقدر ما تستلهم منه روح العبقرية المبكرة وكيفية الإيمان بها والكفاح من أجلها ، قدم خيرى شلبى روايته عام 2003 على ما أذكر ، فزاد شغف جيلنا بالشخصية التي استلهما الروائى الكبير ، حتى سمعناه وتحسرنا على مواهبنا الكبيرة التي يتم تجهيلها وتقزيمها لصالح الأنصاف ، هي حسرة قديمة تتجدد دائما ، لكن القدر وضع في طريقي الفنان العالمي يحيى خليل ، فأعاد لى تقديم عبده داغر من جديد لأجد نفسي أمام قامة مصرية كبيرة هزت مسارح العالم كله وأجيالنا الجديدة لا تعرف عنها شيئا، كان يحيى خليل من أوائل المؤمنين بعبقرية عبد داغر ، وكما فعل خيرى شلبى فعل يحيي خليل فى برنامجه (عالم الجاز ) الذي كان يقدمه على شاشة التليفزيون المصرى منتصف الثمانينات وأوائل التسعينات واستضاف عبده داغر مرات في
لقاءات كان من حسن حظى أن شاهدت الكثير منها صورة حسن الوزير
عموما ، فقد أقيل خالد داغر – أو تم استبعاده، أو انتهاء انتدابه – بعد عام واحد من توليه منصبه ربما كان يدفع ثمن هذه المحبة الفياضة، ربما، لكن المؤكد أن حزنا مكتوما لدى المثقفين صاحب خروجه الغامض، والمؤكد أكثر أن المحبة المقترنة بالاحترام ليست من فراغ وإنما من تأثير الشخص على محيطه ورغبته في تحقيق عدالة ثقافية ، وهذا هو السر فى اختيار عنوان باب عشق عنوانا لهذا
الموضوع فقد كان الفنان والمخرج المسرحى الكبير حسن الوزير قد صنع حالة مماثلة في فرحة المثقفين فور عودته إلى الإخراج بعد توقف دام سنوات بفضل التعسف والرؤية القصيرة التي استبعدت فنانا كبيرا مثل حسن الوزير عن خشبة مسارح الدولة لذا كانت عودته بمسرحية باب عشق عرسا ثقافيا كبيرا أعاد المثقفين إلى المسرح وأعاد الكتابة المسرحية إلى الصحف والمجلات فقد كتب عن عرض باب عشق أإن حسن الوزير كثر من خمسين مقالا وتقريرا ، وهذا أيضا لم يأت من فراغ فقد كان حسن الوزير حصان مسرح الدولة الرابح وتحول إلى ظاهرة في التسعينات بفضل جولاته المستمرة في المحافظات بحثا واستكشافا للمواهب ، وهو الأمر الذي جعل كاتبا في قامة الناقد الكبير روق عبد القادر رحمه الله – يتنبأ لحسن الوزير بريادة مسرح الدولة، وقال فاروق عبد القادر في ه ( من أوراق نهاية القرن – غروب شمس الحلم – الدار الثقافية للنشر ) إن حسن الوزير أحد صناع
سرح ومخرجيه الكبار، وأن اختياراته الفنية وقدراته على توظيف أدواته تشير إلى أننا على موعد
مع مسرحجي كبير . واستشهد فاروق عبد القادر بعرضى أرض لا تنبت الزهور المحمود دياب ، والإشارات والتحولات السعد الله ونوس ) وكان الوزير قد قدمهما في 1997 ، كما أشار فاروق عبد القادر إلى عروض حسن الوزير
المسرحية السابقة على هاتين التجربتين فقد سبق لحسن أن قدم منتصف الثمانينيات (باب الفتوح ، ورجل طيب فى ثلاث حكايات ، ومن هنا كان الفرح بعودته في 2023 بعرضه البديع باب عشق الذي مارس من خلاله هوايته الأجمل وهى اكتشاف المواهب ومنحها فرصة الظهور ، وكانت مي زويد التي قدمت دور راقصة الحانة في باب عشق مفاجأة حسن الوزير الاستعراضية والتي أتوقع لها الكثير بعد أن شاهدتها على المسرح قبل أن أعرف رأى حسن الوزير فيها ، كما أعاد حسن الوزير الكاتب محمد جاد إلى خشبة المسرح وغامر بتقديم عدد كبير من المواهب الشابة التي بدأت بالفعل تشق طريقها في المسرح ، والخلاصة أن لدينا ما يسعد قلوبنا لكن السادة الكبار لا يحبون فرحة المثقفين.
عندما يقوموا بدورهم فى تنمية الوعى لدى المواطن العادى الذى خُلقت الثقافة لأجله