لوحات منى نحلة
أشرف توفيق
كل من يتصفح غادة السمان؛ يجد أنّ الكثير من أعمالها القصصية والروائية والتى تلفت الانتباه حتى من عناوينها تظهر مدى اهتمام هذه الكاتبة بمدينة بيروت. ولكن ليس بيروت المظهر أو ما يُسمّى “باريس الشرق”؛ وإنما بيروت الواقع، والصراع الطبقي الاجتماعي والسياسي، بيروت القاع، والصراع مع الفقر والمرض. بيروت التي تفترس أولئك الذين يستهويهم الشكل والمال والشهرة؛ فيأتوها طامحين طامعين بتحقيق أحلامهم التي سرعان ما تتحول إلى أوهام تؤدي بحياتهم أو بعقولهم.
ورواية “بيروت 75” تمثل المأساة الحقيقية لمجتمع فقد ضوابطه الأخلاقية، غادة السمان لا تصف فقط “وعي” الشخصيات، بل تصف بطريقة رائعة (لا- وعيهم) عن طريق هلوساتهم التي تصفها بعناية. تصف كل شخصية من الشخصيات الأساسية كمزيج مركب ومعقد من المشاعر والرغبات والحسنات والسيئات. لهذا لا يمكن حب أي شخصية فيهم بشكل مطلق ولا يمكن كرهها بشكل مطلق أيضا. فالرواية تحمل بين صفحاتها قصة شقاء وأحلام وواقع مر يخنق هذه الأحلام. فقد أمسكت غادة قلمها ولفته فى منديل أبيض كأنه نعش؛ ثم اطلقته على الصفحات نواحا وبكاء على بيروت. أنها غمست قلمها فى دموعها وراحت تتفرس لتوحى لنا بنبوءة عرافة لحرب قادمة :”أنى أرى كثيرا من الدم”؟!
وقد كتبت غادة الرواية وهي رواياتها الأولى فى112 صفحة،آى أننا امام نوفيلا (رواية قصيرة). فغادة فى رواية بيروت 75؛ كتبت جيدا عن شخصيتان فقط (فرح وياسمينة) لأنها تعاملت بمنطق الرواية معهما وهو “الإهتمام بالتفاصيل”. أما باقي الشخصيات التي بدت ثانوية ومحشورة فقد كتبتها بمنطق “التلخيص والإختزال”؛ وهو من ثوابت القصة القصيرة. فقصتا فرح وياسمينة كانتا أهم قصتين في الرواية؛ ولكن الكاتبة أرادت أن تغوص أكثر في أعماق المجتمع اللبناني حيث الفئات الاجتماعية المسحوقة التي تعاني القهر والاستلاب وتحلم بالخلاص الذي يقودها في النهاية إلى موت أسطوري. ولتكشف لنا الكاتبة معاناة تلك الطبقة المسحوقة، جاءت بالشخصيات الثلاث الأخرى. أولها أبو مصطفى الصياد الذي عاش حياته وهو يحلم في العثور على المصباح السحري ظناً منه أنه حبل النجاة والخلاص من الفقر والقهر له ولأسرته المؤلفة من اثني عشر شخصاً. فهو يخرج كل ليلة ليبحث في أعماق البحر عن ذلك المصباح لعله يعلق في شباكه. وفي إحدى الليالي يعتزم اصطياد المصباح فيشعل حزمة ديناميت ويرميها، ويرمي بنفسه معها لتتفجر ويتمزق معها جسده، ويكون بهذا قد أنهي رحلة عذابه وشقائه. وأبو الملا، حارس الآثار الذي سرق تمثالاً لم يُنقَلْ بعد إلى المتحف ليبيعه وينهي به رحلة فقره، ويفتدي بثمنه بناته الثلاث الخادمات في قصور الأغنياء. لكن هذا التمثال الصغير يتحول في وهم أبي الملا إلى رجل عملاق يخنقه. أما الحقيقة فأنه قد مات بالنوبة القلبية فقد كان مريض قلب. وأخيرا طعّان الصيدلاني المذعور الهارب من الثأر فقد قتل إنساناً خطأً، متوهماً أنه يطارده ليقتله. وهو الذي كان يتحرق للعودة إلى الوطن ليفتح صيدلية في بعلبك، حيث يفاجأ أنه مطلوب دون غيره للثأر لأنه يحمل شهادة، إنه القانون العشائري الذي يقضي أن يكون الثأر لقتيل متعلم بقتيل يوازيه.
تبدأ الرواية بلقاء شخصياتها في سيارة أجرة منطلقة إلى بيروت. “فرح” و”ياسمينة” و”طعان” و”أبو الملا” و”أبو مصطفى” (لاحقا ينضم لشخصيات الرواية ابنه مصطفى) ينطلقون معا الى بيروت. تسير العربة الأجرة بالرحلة إلى الضياع والجنون والموت (الشارع الدمشقى ينزف عرقا. ينادي تباع السيارات من الجراج: “بيروت بيروت” الرجل ذو الكرش المدلوق ينغم أسم بيروت، كما لو كان يقدم راقصة للجمهور فى كبارية). (ومرت بباب الجراج حلوة صغيرة وخيل إلى فرح أن خديها توهجا لسماع اسم بيروت، أم تراه الحر؟” كلهن وكلهم يحلم ببيروت. لست وحدي.. ولكنى وحدي ذاهب لأقتحامها “)
منذ اللحظة الأولى تشعر أن الرحلة محفوفة، ليس بالمخاطر بقدر ماهي محفوفة بصراعات غريبة متشعبة. فالشخصيات حمل كل منهم في داخله قصة شقاء مؤلمة، يرافقها أحلامه وأمله بأن تعطيه بيروت حياة أفضل. تتصاعد هيمنة المكان، كما لو كان مخزنا حقيقيا للأفكار والمشاعر. ولذا فالمكان عنصر مشارك وبقوة مع السرد ولذا يقولون أن “بيروت 75” رواية مكان…ولكن بيروت، تستقبل القادمين إليها بواقع صادم يفقدهم سريعا جدا سذاجتهم.
وتبدأ بيروت بالأطلال داخل الرواية بمشهد يخت وسط البحر تتعرى فيه “ياسمينة” من كل ملابسها متطرفة برغباتها، انصياعا لإغواء الحرية (لم أخلع ثيابى بأكملها من قبل إلا في الحمام، وكنت دوما أرتديها قبل خروجى متسترة بالبخار الكثيف والنور الشاحب). فهي كارهة متأففة من حياتها بدمشق (تعبت من العمل في التدريس بمدارس الراهبات. سئمت الأيام تمضي هناك ثقيلة كجسد مخدر على طاولة عمليات). تعرض ياسمينة جسدها الناصع البياض للشمس، وترى سلحفاء تتحرك أمامها ببطء فوق خشب اليخت. تراها وهي تسحب جسدها وتنزوي في الظل تتحسر عليها، لأنها لاتستطيع أن تخلع صدفتها وتستمتع بالشمس مثلها؟! تستسلم “ياسمينة” لغواية (نمر السكاكيني) أحد أثرياء بيروت (آه ماذا يستطيع جسده أن يفعل بها، جسده المعطر بزيت البحر الثمين وبنعومة الرفاهية ..لا شيىء في العالم يشبه نشوة الألتصاق برجل محبوب ويتم ذلك تحت الشمس). (تسمع دويا رهيبا لأنفجار عنيف. يهتز اليخت بأكمله وتسأل ماذا حدث؟ يقول نمر: لاشيىء إنها الطائرات الإسرائيلية تلهو في سماء بيروت، وتخترق جدار الصوت.. قربي نهدك مني ..تلملم نفسها عنه مزعورة، والسلحفاء تختبىء بأكملها داخل صدفتها. وتتذكر “ياسمينة” كيف كانت تمطر طائراتهم الموت فوق دمشق منذ أقل من عام. دوى انفجار آخر، وقال نمر بشراسة وهو يغمرها بجسده الأشقر قربي نهدك!..فقربته)
لقد أختارت الذات العاجزة الغريزة حلا ليعوضها عن الفقر، أنه ماتمتلكه طبقا لمفاهيمها غير الواعية.. (كان نمر غنيا، حتى قدماه تعلنان عن ثراءه..إنه ليس فقيرا مثلي. ولد وفي فمه دفتر شيكات، وولدت وفي دمي كمبيالة مستحقة الدفع). لقد اختارت الجنس، تنازلت عن مؤاهلاتها بالتدريس وكتابة الشعر فليس للنساء غير الجسد في بيروت؟! (لقد قطعت كل الجسور..لم أعد اعمل وهو ينفق علي بكرم، وأنا أنفق على شقيقي الذي يغمض عينيه عما يدور إكراما لنقودي..ولكن هو..جسده لقد ألفته أدمنته..إني مريضة به..طيلة سبعة وعشرين عاما وأنا ممنوعة عن ممارسة تلك المتعة المذهلة).
وتعرف “ياسمينة” الحقيقة من نمر (مستحيل أن يتزوج بمن نام معها قبل الزواج). ولذا حين صعدت بالتلفريك في جونيه معه؛ لم تدخل الكنيسة المشهورة في قمة الجبل -والتي يتسابق العرسان على الزواج فيها-(لكننا تابعنا رحلتنا إلى الفراش دونما زواج،كالعادة). ويختار نمر أن يتزوج إبنة أحد الأثرياء خدمة لمصالح والده السياسية “نائله السلموني” انسجاما مع قوانين المكان، فالمصالح تتصالح دوما. ويتصاعد الألم لحد الإذلال:
(قبل منتصف الليل قال إنني استنزفه وأنه متعب وسئم؛ أما أنا فكنت أشد جوعا إلى جسدة قلت له ذلك فنصحني بالتفتيش عن رجل آخر). (صرخ بى: جسدك مسكون بالشياطين..آي رجل سيمتعك أذهبي وجربي أنني أشك أصلا في أنك كنت عذراء حين بدأنا معا..لقد مارست علي لعبه ما). لقدصارت “ياسمينة” هشة، وعارية، وبلا صدفة تحميها كسلحفاء اليخت (وفي الليالي القليلة التي أقضيها في بيت أخي بعيدا عن جسده الأشقر؛ أرتجف كمدمن محروم وأفقد كل قدرة على التعقل). تهيمن سلطة المدينة المنحازة إلى الأغنياء ورأس المال الذي يطحن الضعفاء ويخرج صوت الذات من المونولوج “آه كم تشوهت”..نمر يمتصها وسيبصقها قريب، وتصرخ ياسمينة “وحدها السلحفاة تنجو فوق فرو الأرنب المسلوخ”. لقد وقعت فريسة للسلطة الذكورية المزدوجة فيقتلها أخوها “الذي يعيش على نقودها” في مشهد يضج بسخرية سوداء يحمل فيها الأخ رأس أخته في سطل إلى الشرطة بصفته حامي حمى الشرف؟!
ثم يأتي دور فرح الشاب القروي الموظف في المكتبة الوطنية بدمشق الذي يمتلك صوتاًجميلاً، ويحلم أن يكون مطرباً مشهوراً، ولاسبيل لتحقيق حلمه إلا في بيروت. وهناك تبدأ رحلة ضياعه الحقيقية في البحث عن قريبه، ولماوجده، وجد نفسه مضطرا لبيع نفسه للشيطان، المتمثل بهذا القريب الثري، نيشان. ومقابل أن يصبح مطرباً مشهوراً، يطلق عليه (مطرب الرجولة). فيمنح فرح جسده لنيشان الذي يعاني شذوذ، وذكورة قاصرة مع النساء. لقد عقد معه “إتفاق فاوست” (نيشان :كان لحمه الكثيف المترهل يرتعش حبا وهو يقول: النساء لا يقدرن على منحي هذه المتعة، إيها الرجل الرائع سأسميك “مطرب الرجولة” مع الرجال أحس بالألفة، معهن أحس بالغربة، فأنا لا أفهم النساء ولا يفهمنني). ليضطره الأمر للتخلي عن رجولته وكرامته في سبيل تلك الشهرة. في داخله كان “فرح” رافضاً لهذا الواقع، وتمثّل رفضه بانتقاله إلى عالم اللاوعي، إلى عالم الكوابيس وأحلام اليقظة. ثم دخوله إلى مشفي المجانين وهروبه منه، وهو عندما يهرب من مستشفي المجانين يسرق اللافتة المعلقة على مدخل المستشفي ويذهب بها إلى مدخل بيروت. فينتزع اللافتة المكتوب عليها “بيروت” ويثبّت مكانها اللافتة التي انتزعها عن مدخل المستشفى “مستشفي المجانين” لتنتهي رحلة ضياعه بموت حلمه وعودته إلى دمشق.
الحدث المركزي بالرواية هو السفر إلى بيروت والبحث عن المال والشهرة فيها. فبعد انطلاق سيارة الأجرة واختفاء دمشق: “يفكر فرح (لن اعود إلا ثريا مشهورا) وتحلم ياسمينة “لن أعود إلا ثرية مشهورة”. ولكن عند التعمق في هذا الحدث وما أدّى إليه من أحداث وصراعات نجد أن ياسمينة وفرح كممثلين للطبقات المسحوقة، أثناء بحثهما عن المال والشهرة في بيروت؛ أصطدما بنمر ونيشان كممثلين للطبقات الغنية مالا وسلطة، المنحطة سلوكا وأخلاقا. هذا الصدام ولد الصراع بين الطبقتين؛ ما أدّى إلى استشرافهما المصير القاتم الذي ينتظرهما. فياسمينة تقول: “سأتابع خطة الانتظار والصمت بانتظار سقوط المقصلة فوق رقبتي أحس أنها هناك وأنها ستسقط”. ثم تسقط المقصلة فعلا إذ يقتلها أخوها. وفرح يبدأ صراعه الداخلي ويستشرف نهايته حتى قبل أن يلتقي نيشان إذ يقول ويكرر “آه كم أنا ضائع ووحيد”. وفي مكان آخر: “أني أتعذب باستمرار وأشعر بأنّ رجلين يقتتلان داخل جسدي”، ثم ينتهي إلى الموت المعنوي، الكوابيس والجنون.
الرواية تعكس بصدق شديد إرهاصات ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت بعد بضعة أشهر فقط من صدور الرواية. وقد أبدت فيها الكاتبة حساسيتها الشديدة لما يجري على الساحة اللبنانية عامة، وفي بيروت بشكل خاصة وعبّرت عن صدق مجسّاتها من خلال العرافة التي لا شكّ أنّها تمثل غادة السمان نفسها التي تنبّأت بالحرب.
فالرواية تناقش الثمن الأخلاقي الذي يدفع مقابل التغلب على الفقر، مما يضع الأبطال أمام اختيار صعب:“هل أهرب بذاتي وأعود فقيرا جائعا أم استمر ببيع أخلاقي مقابل حياة تسلبني ذاتي لكن تلبي احتياجاتي؟”.