وللإسماعيلية رائحة وظل وبراح حتى لمن لم يزرها ، فما بالك بمن عاش وتنفس هواها ؟!،لم يكتب حمدى سليمان عن الإسماعيلية ،بل تركها تكتب نفسها كما تعيش فى وجدانه ،من السطرالأول فى كتابه تشعر برغبته الشديدة فى جذبك وإدهاشك بمدينته ،فالتاريخ المكتوب والفوتوغرافيا القديمة تشير إلى الإخراج المدهش للمدينة التى كانت تسمى قرية التمساح ثم مدينة التمساح !،وبعد ذلك سميت بالإسماعيلية إرضاءً للخديوى إسماعيل الذى كان غاضبا من بعض قرارات ديليسبس واستغلاله لوالده الخديوى سعيد، استغرق تخطيط المدينة سنوات حتى خرجت للعالم عروسة جميلة على الطراز الأوربى تخضع لقوانين البناء والعمارة السائدة فى أوربا فأصبح اسمها باريس الصغرى حتى أن تذكرة السفر من القاهرة وإليها كان مكتوبا عليها ( القاهرة ـ باريس الصغرى)
يرسم حمدى سليمان فى كتابه (ما لم تقله البحيرة) صورة للحياة قبل ظهور كل هذا الجمال الإسماعيلاوى ،فقدعاش السكان الأوائل وسط رمل الصحراء فى الجنوب والشرق، وسبخ المستنقعات في الشمال، يحتضنون ماء البحرين والبحيرات المرة والتمساح، وكان عليهم أيضًا أن يدربوا أنفسهم للتعايش مع طيور النورس والأسماك والحيوانات البرية، فقد كانت قلّة فى الجنوب تعمل بالصيد والتجارة، أما باقي المنطقة فتغوص في اليابسة والأحراش.
ظل هذا الوضع إلى أن تم حفر قناة السويس أجرأ عملية جراحية في بطن الأرض ، لترتوي الأرض بماء المتوسط الذي راح يتوضأ بماء البحيرة ،حفر ترعة الإسماعيلية أعطى هذا الفضاء الموحش قُبلة الحياة واستقرت الجماعات المتعبة، ومع الوقت نشأت مدينة الإسماعيلية في وسط القناة لتكون محطة مهمة بين البحيرات المرة والتمساح والمنزلة والبردويل، وتوافد إليها مصريّو الدلتا والصعيد، وتماهوا معًا فى تنوع ثقافى فريد يجمع البحاروة والصعايدة والنوبيين وأبناء الصحارى الشرقية والغربية، ليضيفوا بالجهد والعرق أسطورة جديدة لتاريخ هذا البلد المدهش،إذ حاول كل هؤلاء إنتاج حياة إنسانية بديلة يهربون إليها كل مساء لتعينهم على حياة السخرة والشقاء، وبالفعل استطاع ذلك الوافد الجديد أن يصنع لنفسه منتجًا ثقافيًا مميزًا استقاه من الفنون الشعبية المختلفة التي جاء بها هؤلاء البسطاء من كل ربوع مصر، محمّلين بموروث فني عظيم يتّسم بالتنوع والثراء المدهش، موروث من الغناء المصرى القديم المتوارث عبر الأجيال والغناء السائد فى ذلك الوقت، من فرق الصهبجية والموشحات والعوالم، وفنون السيرة الشعبية والقصص الشعبى والمديح والموّال، وألوان عديدة من الفنون القولية والحركية التي انصهر معظمها فى تشكيل فنون الضمة وأغانى السمسمية، تلك الفنون التى تم حفرها فى الذاكرة الجمعية منذ حفر القناة، لتشكل موروثًا تاريخيًا ثقافيًا وحضاريًا ينمو يوميًا، ولعبت الفنون التى استحدثها القادمون دورًا بارزًا كان بمثابة العون الذى أنسن حياة المتعبين من قسوة العمل والغربة، وجعلها مقبولة رغم وحشتها، وجعلهم يشعرون بالدفء والحميمية التى افتقدوها بتركهم لمدنهم وأُسرهم وأحبابهم وأصدقائهم، كما كانت آلة السمسمية إحدى أدوات أبناء المنطقة في المقاومة، فقد كانت حاضرة دائمًا بكل تعبيراتهم وممارساتهم الحياتية، فى أفراحهم وانتصاراتهم وانكساراتهم وتحدياتهم، خاصة وأن الكثير من إنتاج فنون السمسمية قد تم في فترات الحرب والتهجير والمقاومة، إضافة إلى أن أغانى السمسمية لم تكن مجرد فقرات موسيقية وفنية بقدر ما كانت حالة من حالات العشق الصوفى التي رسخت فى وجدان وعقل الأجيال المختلفة، وهو ما سيطر على المزاج العام حتى وقت قريب.
ويجوب معك حمدى سليمان ليحكى ما لم تقله البحيرة فهناك على مدد الشوف الحى الإفرنجى ، وهناك حدائق الملاحة البديعة المطلة على بحيرة التمساح والتي كانت تسمى الحدائق الفرنسية، وتعتبر من أجمل الحدائق الطبيعية بما تضمه من أشجار نادرة وتنسيق وتنوع قلما يوجد في حديقة أخرى، لوجود عدد كبير من أشجار الزينة المعمرة التي يصل عمر بعضها إلى ما يزيد عن مائة وخمسين عامًا، مثل أشجار الجازورين دائمة الخضرة والنخيل الملوكى، كما تحفل حدائق الملاحة بأنواع الأشجار التي استقدمت من فرنسا لتزيين الحديقة التي يتوسطها مبنى الإرشاد المطل على البحيرة بلونه الأبيض الزاهى، وهو المبنى الذي تدار منه حركة الملاحة فى قناة السويس.
موسيقى النوارس وقصائد الأبنودى
كما هو حال البشر الذين يسعون في مناكب الأرض بحثاً عن الرزق تأتي من بعيد طيور النورس المهاجرة بحثًا عن الدفء على شواطئ المتوسط والقناة وبحيرة التمساح، تلك البحيرة التى يعرف سكانها طائر النورس جيدًا، فهو طائر جميل وذكى يتغير لونه لحسب عمره، يعدو على الأرض بسرعة، ويعوم ويسبح برشاقة، ويغوص في الماء كالسهم، ويبني عشه بين الصخور في المواقع البحرية الموحشة، وقد احتّل النّورس مكانة عند أدباء وشّعراء القناة كون طبيعة حياته ترمز للترحال ،والترحال هواية الشاعر الكبير عبد الرحمن لأبنودى الذى اختار القرب من النوارس ومن شقيقته الحاجة فاطمة وأقام بالإسماعيلية وفى رحاب المدينة تجسد الصمود فى تمثالَى الصمود والنصر المصنوعين من الشظايا المخلوطة بالدم والنار، شظايا ممزوجة ببقايا بشرية، ولحامتها خيوط من نور، تمثالين للفنان المقاتل جلال عبده هاشم يحكيان قصة الهزيمة والنصر والدموع والأفراح التي مرت بها مصر من عام 67 وحتى انتصارات أكتوبر، ولا يترك حمدى سليمان تفصيلة من جماليات الإسماعيلية أو دروايش كرة القدم إلا ويسردها ، فقد كان الإسماعيلي أول نادٍ مصري فى منطقة القناة، حيث كانت جميع الأندية الموجودة في ذلك الوقت تابعه للجاليات الأجنبية، وقد تأسس نادي الإسماعيلي عام 1920 تحت مسمى نادي النهضة الرياضى، ثم أصبح نادي إسماعيل نسبة إلى الخديوي إسماعيل عام 1947، إلى أن تغير اسمه وعُرف باسم (الإسماعيلى) نسبةً لاسم محافظة الإسماعيلية، ويذكر أن أول استاد تم بناؤه للنادى كان بالجهود الذاتية، وعن طريق جمع التبرعات من الأهالى.. وأنا وقعت فى غرام هذا الكتاب.
حبيبي يا فنان الشكر كل الشكر لتلك القراءة البديعة ولهذا العرض الممتع.. دامت هداياك المدهشة يا غالي
حبيبي